اثبات الغيبة والحکمة فيها


وأضاف الشيخ الصدوق قائلاً: إنّ الغَيبة الّتي وقعت لصاحب زماننا عليه السلام قد لزمت حکمتها، وبان حقّها، وفلجت حکمتها، للذي شاهدناه وعرفناه من آثار حکمة اللَّه عزّوجلّ واستقامة تدبيره في حُججه المتقدّمة في الأعصار السالفة، مع أئمّة الضلال وتظاهر الطواغيت، واستعلاء الفراعنة في الحُقب الخالية، وما نحن بسبيله في زماننا هذا من تظاهر أئمّة الکفر بمعونة أهل الافک والعدوان والبهتان.

وذلک أ نّ خصومنا طالبونا بوجود صاحب زمانناعليه السلام کوجود من تقدّمه من الأئمّة، فقالوا: إنّه قد مضي علي قولکم من عصر وفاة نبيّنا أحد عشر إماماً، کلّ منهم کان موجوداً معروفاً باسمه وشخصه بين الخاصّ والعامّ، فإن لم يوجد کذلک، فقد فسد عليکم أمر من تقدّم من أئمّتکم کفساد أمر صاحب زمانکم هذا في عدمه وتعذّر وجوده.

فأقول - وباللَّه التوفيق -:

إنّ خصومنا قد جهلوا آثار حکمة اللَّه تعالي، وأغفلوا مواقع الحقّ ومناهج السبيل في مقامات حجج اللَّه تعالي مع أئمّة الضلال في دُوَل الباطل في کل عصر وزمان، إذ قد ثبت أ نّ ظهور حجج اللَّه تعالي في مقاماتهم في دول الباطل علي سبيل الإمکان والتدبير لأهل الزمان، فإن کانت الحال ممکنة في استقامة تدبير الأولياء لوجود الحجّة بين الخاصّ والعامّ، کان ظهور الحجّة کذلک، وإن کانت الحال غير ممکنة من استقامة تدبير الأولياء لوجود الحجّة بين الخاصّ والعامّ، وکان استتاره ممّا توجبه الحکمة ويقتضيه التدبير، حَجَبَهُ اللَّه وسَتَره إلي وقت بلوغ الکتاب أجله، کما قد وجدنا من ذلک في حجج اللَّه المتقدّمة من عصر وفاة آدم عليه السلام إلي حين زماننا هذا، منهم المستخفون ومنهم المستعلنون، بذلک جاءت الآثار ونطق الکتاب. [1] .

7 - روي الصدوق بالإسناد عن سُدير الصيرفي قال: دخلت أنا والمفضّل بن عمر وأبو بصير وأبان بن تغلب، علي مولانا أبي عبداللَّه جعفر بن محمّدعليه السلام، فرأيناه جالساً علي التراب وعليه مسح خيبريّ مطوّق بلا جيب، مقصر الکُمّين، وهو يبکي بکاء الواله الثکلي، ذات الکبد الحري، قد نال الحزن من وجنتيه، وشاع التغيّر في عارضيه، وأبلي الدموع محجريه، وهو يقول: سيّدي، غيبتُک نفت رقادي، وضيّقت عليّ مهادي، وأسرت منّي راحة فؤادي، سيّدي غيبتک أوصلت مصابي بفجائع الأبد، وفقد الواحد بعد الواحد يفني الجمع والعدد، فما أحسّ بدمعةٍ ترقي من عيني، وأنين يفتر من صدري عن دوارج الرزايا وسوالف البلايا، إلّا مثّل لعيني عن غوابر أعمّها وأفظعها، و بواقي أشدّها وأنکرها، ونوايب مخلوطة بغضبک، ونوازل معجونة بسخطک.

قال سدير: فاستطارت عقولنا وَلَهاً، وتصدّعت قلوبنا جزعاً من ذلک الخطب الهائل والحادث الغائل، وظننّا أ نّه سمة لمکروهه قارعة أو حلَّت به من الدهر بائقة.

فقلنا: لا أبکي اللَّه - يا بن خير الوري - عينيک. من أيّ حادثة تستنزف دمعتک، وتستمطر عيونک؟ وأ يّة حالة حتّمت عليک هذا المأتم؟

قال: فزفر الصادق عليه السلام زفرة انتفخ منها جوفه، واشتدّ منها خوفه، وقال: ويلکم إنّي نظرت في کتاب الجفر صبيحة هذا اليوم؛ وهو الکتاب المشتمل علي علم المنايا والبلايا والرزايا، وعلم ما کان وما يکون الي يوم القيامة، الّذي خصّ اللَّه تقدّس اسمُه به محمّداً والأئمّة من بعده عليه وعليهم السلام، وتأمّلت فيه مولد قائمنا وغيبته وإبطاءه وطول عمره، وبلوي المؤمنين به من بعده في ذلک الزمان، وتولّد الشکوک في قلوبهم من طول غيبته وارتداد أکثرهم عن دينهم، وخلعهم ربقة الإسلام من أعناقهم،الّتي قال اللَّه تقدّس ذکره: «وَکُلَّ إنسانٍ ألزمناه طائِرَه في عُنُقه» [2] يعني الولاية، فأخذتني الرّقة، واستولت عليّ الاحزان.

فقلنا: يابن رسول اللَّه، کرِّمنا وشرِّفنا بإشراکک إيّانا في بعض ما أنت تعلمه من عِلم ذلک.

قال: إنّ اللَّه تبارک وتعالي أدار في القائم منّا ثلاثة أدارها في ثلاثة من الرسل: قدّر مولده تقدير مولد موسيعليه السلام، وقدّر غيبته تقدير غيبة عيسيعليه السلام، وقدّر إبطاءه تقدير ابطاء نوح عليه السلام، وجعل من بعد ذلک عمر العبد الصالح، أعني الخضر دليلاً علي عمره. فقلت: اکشف لنا يابن رسول اللَّه عن وجوه هذه المعاني.

قال: أمّا مولد موسي، فإنّ فِرعون لمّا وقف علي أنّ زوال مُلکه علي يده، أمر باحضار الکهنة، فدلّوه علي نسبه، وأ نّه يکون من بني اسرائيل، ولم يزل يأمر اصحابه بشقّ بطون الحوامل من نساء بني اسرائيل حتّي قتل في طلبه نيّفاً وعشرين ألف مولود، وتعذّر عليه الوصول إلي قتل موسي لحفظ اللَّه تبارک وتعالي ايّاه.

کذلک بنو أميّة وبنو العباس، لمّا وقفوا علي أنّ زوال مُلکهم والأمراء والجبابرة منهم علي يد القائم منّا، ناصبونا العداوة، ووضعوا سيوفهم في قتل آل بيت رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وإبادة نسله، طمعاً منهم في الوصول الي قتل القائم عليه السلام، ويأبي اللَّه أن يکشف أمره لواحدٍ من الظلمة الي أن يتم نوره ولو کره المشرکون.

وأمّا غيبة عيسيعليه السلام، فإنّ اليهود والنصاري اتّفقت علي أ نّه قُتل، وکذّبهم اللَّه عزّوجلّ بقوله: «وما قَتَلوه وما صَلَبوه ولکن شُبِّه لهم» [3] کذلک غيبة القائم عليه السلام فإنّ الاُمّة تُنکرها لطولها، فمن قائل بغير هدي بأ نّه لم يولد، وقائل يقول: إنّه وُلد ومات، وقائل يکفر بقوله انّ حادي عشرنا کان عقيماً، وقائل يمرق بقوله: إنّه يتعدّي إلي ثالث عشر فصاعداً، وقائل يعصي اللَّه عزّوجلّ بقوله: إنّ روح القائم عليه السلام ينطق في هيکل غيره.

وأمّا إبطاء نوح عليه السلام فإنّه لمّا استنزل العقوبة علي قومه من السماء، بعث اللَّه عزّوجلّ جبرئيل الروح الأمين بسبعة نويات فقال: يا نبيّ اللَّه، إنّ اللَّه تبارک وتعالي يقول لک: إنّ هؤلاء خلائقي وعبادي، ولست أُبيدهم بصاعقة من الصواعق الّا بعد تأکيد الدعوة وإلزام الحجّة، فعاود اجتهادک في الدعوة لقومک، فأ نّي مُثيبک عليه، واغرس هذا النوي، فإنّ لک في نباتها وبلوغها وادراکها اذا أثمرت الفرج والخلاص، فبشّر بذلک مَن تبعک من المؤمنين.

فلمّا نبتت الاشجار وتأزّرت وتسوّقت وتغصّنت وأثمرت، وزها الثمر عليها بعد زمن طويل، استنجز مِن اللَّه سبحانه وتعالي العدّة، فأمره اللَّه تبارک وتعالي أن يغرس من نوي تلک الأشجار ويعاود الصبر والاجتهاد، ويؤکّد الحجّة علي قومه، فأخبر بذلک الطوائف الّتي آمنت به، فارتدّ منهم ثلاث مائة رجل، وقالوا: لو کان ما يدعيه نوح حقّاً، لما وقع في وعد ربه خُلف.

ثمّ إنّ اللَّه تبارک وتعالي لم يزل يأمره عند کلّ مرّة أن يغرسها تارةً بعد أخري، إلي أن غرسها سبع مرّات، فما زالت تلک الطوائف من المؤمنين ترتدّ منهم طائفة، إلي أن عاد إلي نيّف وسبعين رجلاً. فأوحي اللَّه عزّوجلّ عند ذلک إليه وقال: يا نوح الآن أسفر الصبح عن الليل لعينک حين صرّح الحق عن محضه، وصفي الأمر للايمان من الکدر بارتداد کلّ مَن کانت طينته خبيثة.

فلو أ نّي أهلکت الکفّار، وأبقيت مَن قد ارتدّ من الطوائف الّتي کانت آمنت بک لمّا کنت صدّقت وعدي السابق للمؤمنين الّذين أخلَصُوا التوحيد من قومک، واعتصموا بحبل نبوتّک، بأن أستخلفهم في الأرض وأمکّن لهم دينهم، وأبدل خوفهم بالأمن لکي تخلص العبادة لي بذهاب الشکّ من قلوبهم.

وکيف يکون الاستخلاف والتمکين وبدل الخوف بالأمن منّي لهم، مع ما کنت أعلم من ضعف يقين الّذين ارتدّوا، وخبث طينتهم، وسوء سرائرهم الّتي کانت نتائج النفاق وسنوح الضلالة، فلو أ نّهم تسنّموا منّي من المُلک الّذي أوتي المؤمنين وقت الاستخلاف اذا أهلکت أعداءهم، لنشقوا روائح صفاته، ولاستحکمت سرائر نفاقهم، وتأبّد حبال ضلالة قلوبهم، وکاشفوا إخوانهم بالعداوة، وحاربوهم علي طلب الرئاسةوالتفرّد بالأمر والنهي، وکيف يکون التمکين في الدّين وانتشار الأمر في المؤمنين مع إثارة الفتن وايقاع الحروب کلّا: «فاصنع الفُلکَ بأعيننا ووَحيِنا». [4] .

قال الصادق عليه السلام: وکذلک القائم عليه السلام تمتدّ أيّام غيبته ليصرح الحق عن محضه، وليصفو الإيمان من الکدر بارتداد کلّ من کانت طينته خبيثة، من الشيعة الّذين يخشي عليهم النفاق اذا أحسّوا بالاستخلاف والتمکين والأمن المنتشر في عهد القائم عليه السلام.

قال المفضل: فقلت: يا بن رسول اللَّه، إنّ النواصب تزعم أنّ هذه الآية نزلت في أبي بکر وعمر وعثمان وعليّ.

قال: لا يهدي اللَّه قلوب الناصبة، متي کان الدّين الّذي ارتضاه اللَّه ورسوله متمکّناً بانتشار الأمن في الأمّة، وذَهاب الخوف من قلوبها، وارتفاع الشکّ من صدورها في عهد أحدٍ من هؤلاء وفي عهد عليّ عليه السلام، مع ارتداد المسلمين والفتن الّتي کانت تثور في أيامهم، والحروب الّتي کانت تنشب بين الکفّار وبينهم، ثمّ تلا الصادق عليه السلام: «حتّي إذا استيأسَ الرُسلُ وظَنّوا أنّهُم قد کُذِبوا جاءَهم نصرُنا». [5] .

وأمّا العبد الصالح الخضرعليه السلام: فإنّ اللَّه تبارک وتعالي ما طوّل عمره لنبوّةٍ قدّرها له، ولا لکتاب ينزّله عليه، ولا لشريعة ينسخ بها شريعة مَن کان قبله من الأنبياء، ولا لإمامة يلزم عباده الاقتداء بها، ولا لطاعة يفرضها له. بلي، إنّ اللَّه تبارک وتعالي لمّا کان في سابق علمه أن يُقدِّر من عمر القائم عليه السلام في أيّام غيبته ما يقدِّر، وعَلِمَ ما يکون من إنکار عباده بمقدار ذلک العمر في الطول، طوّل عمر العَبد الصالح من غير سبب أوجب ذلک، إلّا لعلّة الإستدلال به علي عمر القائم عليه السلام، وليقطع بذلک حجّة المعاندين، لئلّا يکون للناس علي اللَّه حجّة. [6] .


پاورقي

[1] کمال الدّين و تمام النعمة 1 : 16-21.

[2] الإسراء: 13.

[3] النساء: 157.

[4] اقتباس من الآية 37 من سورة هود: «و اصنع الفُلک بأعيننا و وحينا».

[5] يوسف: 110.

[6] کمال الدّين 2 : 353؛ بحارالأنوار 51 : 219.