ملاحقة المرتابين


تلاحقت شبهات المرتابين في اهم بصيرة دينية، هي بصيرة استمرار الصلة بين اهل الأرض وبين الغيب في شخص من البشر، هو من تلک الذرية الطيبة التي اصطفاها الله تعالي علي العالمين.

ومثل هذه الشبهات ليست غريبة ابدا علي طبيعة البشر التي ترفض الاذعان بصدق تفوق البعض من نوعهم علي الآخرين، تفوقا هائلا يجعله يعرف أنباء السماء وحيا.

ان مشکلة الامم مع الانبياء کانت تتمثل في ان الانبياء هم بعض من البشر، ولذلک کانوا دائما يطالبون بنزول الملائکة حتي يکونون وسطاء بينهم وبين ربهم.

وهذه المشکلة لازالت قائمة، لانها کانت نابعة من طبيعتهم وليست من ظروفهم الاجتماعية.. وهکذا ليس من السهل للبشر ان يسلم لواحد منهم.

وفيما يلي نستعرض بعض تلک الشبهات التي يطرحها المرتابون:

1/ قالوا؛ ان عقيدة الامامة والتي تستمر مع العقيدة بالامام المهدي، تخالف نظرية الشوري واشراک الناس في ادارة شؤونهم.

والحقائق التالية اجابة علي ذلک:

اولا: من قال ان الشوري، وبهذا المفهوم الفضفاض الذي يجعله اقرب الي الفوضي؛ من قال انه خير للبشرية من النظام الالهي المتمثل في بعث الانبياء وجعلهم خلفاء في الارض؟!

ثانيا: ان الامامة اذا کانت مخالفة للشوري، فهل النبوة ليست مخالفة لها وهي اوسع صلاحيات من الامامة؟ فاذا جعلت الشوري ميزانا للقبول او الرفض، فلابد ان ترفض النبوات - والعياذ بالله - بطريقة اولي.

ثالثا: لقد سبق القول مفصلا في ان الاسلام جمع بين انضباط الانظمة الموجهة وحرية الانظمة الشوروية. وان ولاية الفقيه التي تقوم علي اساس عقيدة الامامة، هي نظام حر في اطار القيم الالهية، وهي في بعض الابعاد اوسع حرية من کثير من الانظمة التي تدعي الديمقراطية والحرية.

2/ وزعمت طائفة ان الاعتقاد بالامام المهدي - سلام الله عليه - وانتظار فرجه عقبة في سبيل تصدي الانسان لمشاکل عصره، وشهادته عليه، وقيامه لله، وجهاده في سبيله.

وتلک في الحقيقة من اخطر الشبهات، ومصدرها ان جيل المتخلفين فسروا عقائد الدين بصورة عکسية. ففسروا الاخلاق بالعزلة، والتقية بالسکوت عن الظالمين، وجعلوا حجاب المرأة وسيلة لابعادها عن الحياة.

وکانت بصيرة الانتظار التي فجرت طاقات الشيعة في عصور النهضة واحدة من البصائر الالهية التي تعرضت للتحريف. وکانت مشکلة المرتابين النظر الي حال الجيل المتخلف، لا الي حقيقة البصيرة نفسها.

وإذا تأملنا في النظرية جيدا، لرأيناها تبعث شلالا من الهمة والعزم في افئدة المجاهدين.

واليوم حيث تتجدد حياة المسلمين بالتفسير الصحيح للدين، عادت هذه البصيرة الي موقعها المتقدم في بعث العزيمة وروح التصدي.

ان هناک اصولا عقائدية تکللت بعقيدة المهدي. فسنة الله في نصرة المستضعفين من ابرز هذه الاصول، والتي نستوحيها من قوله سبحانه:

«وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَي الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الاَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ - وَنُمَکِّنَ لَهُمْ فِي الاَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا کَانُوا يَحْذَرُونَ» (القصص / 5-6)

وسنة حتمية انتصار الحق علي الباطل هي الاخري من اصول الاعتقاد بالامامة وامامة المهدي - عليه السلام - بالذات. وقد ذکرتنا آيات قرآنية مبارکات بهذه السنة الالهية، حيث قال سبحانه:

«تِلْکَ الدَّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الاَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (القصص / 83)

«بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَي الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَکُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ» (الانبياء / 18)

وسنة انتصار الصلاح علي الفساد، والمصلحين علي المفسدين هذه

ايضا تهدينا الي بصيرة الانتظار، حيث يقول سبحانه عن هذه السنة:

«وَلَقَدْ کَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّکْرِ أَنَّ الاَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ» (الانبياء / 105)

وسنة انتصار الله لرسله وللذين اتبعوا نهج الرسل من المؤمنين، حيث قال سبحانه:

«إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاَشْهَادُ» (غافر / 51)

وقال سبحانه:

«إِن تَنصُرُوا الله يَنصُرْکُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَکُمْ» (محمد / 7)

منظومة متکاملة من السنن الالهية تجعلنا نعتقد بالامامة، وهذه السنن جميعا تبعث فينا العزم والهمة وروح التصدي. فکيف تکون بصيرة الانتظار وسيلة تحذير، وسببا للعزلة والهزيمة؟؟

اننا نعرف جيدا ان شعلة الأمل وقود مسيرة المجاهدين، فکيف يکون انتظار المصلح العالمي سببا للتراجع؟

وان اطول مسيرة جهادية واعظمها کانت مسيرة شيعة اهل البيت، وحتي اليوم العالم يعرف ان هؤلاء هم الذين لا يهابون الموت، وانهم يعلّمون الثائرين فن الشهادة. فکيف يکون الاعتقاد بالانتظار سببا للعزلة والتراجع؟

3/ ويقولون؛ اذا کانت واضحة عند الشيعة امامة الثاني عشر من الائمة، والحادي عشر من ولد فاطمة وعلي - عليهم السلام -، فلماذا تري الکثير منهم يسارعون الي الدعوات المهدوية التي کثرت في عهد الأئمة، منذ ان قال البعض بان المهدي هو محمد بن الحنفية وهو الامام بعد اخويه السبطين الحسن والحسين - عليهما السلام -، والي ان زعمت الناووسية غيبة الامام الصادق وانه هو المهدي، واعتقدت الواقفية غيبة الامام الکاظم - عليه السلام -، وحتي اعتقاد البعض بغيبة الامام الحسن العسکري - عليه السلام -؟

والواقع ان الدعوات المهدوية لم تکن خاصة بالشيعة، بل کانت تطرح علي المسار الاسلامي العام. وکانت تستجاب من قبل عامة الناس اکثر مما تستجاب عند الخاصة من شيعة الامام علي - عليه السلام -.

ولذلک فانها کانت تعتمد علي الروايات التي اثرت عن النبي - صلي الله عليه وآله -، بان هناک اثني عشر مهديا في هذه الأمة - اي اثني عشر اماما -.

وکانت ثقافة المعارضة والقيام بالسيف ضد الطغاة قد انتشرت بين المسلمين منذ قيام السبط الشهيد الامام الحسين - عليه السلام -، ومنذ قيام الانصار في المدينة، والي ان قام زيد بن علي بن الحسين، واولاد الحسن المجتبي بسلسلة من الثورات المحدودة..

وهذه الثقافة الاصيلة التي استمدت شرعيتها من القرآن المجيد والسنة الطاهرة، واکتسبت شعبية کبيرة بفعل الاعلام الرسالي؛ هذه الثقافة لا ترتبط ببصيرة قيام الامام الحجة - عليه السلام - في آخر الزمان، لان قيادات الثورات المتلاحقة لم تنطبق عليهم صفات المهدي المنتظر. فمحمد بن الحنفية لم يکن يکني بأبي القاسم، ولا کانت شمائلة

بصفات المهدي. وکذلک زيد بن علي، وهکذا ابو العباس السفاح.

بلي.. کان بعضهم مثل محمد بن عبد الله ذي النفس الزکية متشابها من حيث اسمه واسم ابيه مع النبي، ولکنه کان نادرا، ولم يعتمد کليا علي نصوص المهدي في حرکته.

علي ان قائمة اسماء الائمة کانت من اسرار آل محمد التي لم يطلعوا عليها إلا من ملک القدرة علي حفظها، والايمان بها غيبا.

اما قصة الاعتقاد بعدم وفاة البعض، بل غيبته واستعداده للنهضة، فان علينا ان ندرسها من وجوه مختلفة:

اولا: ان من طبيعة البشر الاصطدام نفسيا عند مواجهة بناء صاعق. وهکذا زعم بعض الناس ان النبي - صلي الله عليه وآله - لم يمت وانه حي لايزال. وذات الفکرة راودت طائفة من الشيعة ممن لم يستوعبوا هول الانباء بوفاة الائمة، راودتهم کلما فقدوا اماما او هزموا في معرکة. ولکن هذا الأمر الطبيعي الذي يتکرر حتي عند بعض الناس، عند فقد اعزتهم انه لا يرتبط ابدا بعقيدة اسلامية راسخة الجذور، واضحة البراهين، کالاعتقاد بغيبة الامام الثاني عشر، حيث غاب وعمره الشريف خمسة اعوام فقط.

ثانيا: کانت هناک غيبة اخري عند قادة الثورات العلويين، حيث کانوا يختفون بعض الاشهر او بضعة سنين قبل اعلانهم النهضة، وکانت هذه الغيبة مختلفة تماما عن غيبة الانبياء وغيبة الامام الحجة. فان غيبة المسيح عيسي بن مريم الذي رفعه الله اليه، وسوف يعود قبل الساعة الي الدنيا فيصلي خلف مهدي هذه الامة، لا تشبه غيبة الثوار إلا من ناحية اللفظ.

وهکذا غيبة الامام الحجة - عليه السلام -، حيث انها غيبة ربانية ينتظر الامام عبرها اذن الله له بالخروج.

ثالثا: قيام بعض الأئمة في التاريخ، واحتمال قيام احد الأئمة في عهد من العهود، کقيام الامام الحسين - عليه السلام -، واستعداد الامام الکاظم للقيام.. کل ذلک يختلف عن قيام الامام الحجة، حيث ان قيامه - سلام الله عليه - من اشراط الساعة، وانه قيام يؤيده الله بنصره الأکيد، وان عيسي - عليه السلام - ينزل من السماء ليصلي خلفه. وهو بالتالي ليس من نمط قيام الأئمة او ابناءهم عبر التاريخ.

ولقد کانت تلک النهضات التاريخية واية نهضة اخري توطئة وتمهد لتلک النهضة التاريخية. وقد اخذ بعض المرتابين من تشابه الالفاظ مادة لاثارة الشبهة، حيث زعم ان عقيدة قيام الامام الثاني عشر بعد غيبته لم يکن واضحا عند المسلمين الشيعة، ولذلک کانوا ينتظرون قيام الامام الکاظم - عليه السلام -.

اقول؛ لو کان کل قيام يعتبر ذلک القيام الموعود، لکان قيام الامام الحسين - عليه السلام - اولي بذلک. أوليس هو سبط الرحمة وسفينة النجاة؟

کلا.. ان قيام الائمة حتي ولو کان يتم، فکان مجرد توطئة لقيام الامام المهدي بن الحسن العسکري - عليهما السلام -.

4/ ومن شبهات المرتابين التي استفادوا من بعض الروايات المتشابهة قولهم؛ ان قسما من الشيعة کانوا يترددون في الامام بعد الامام، ولو کانت لديهم قائمة باسماء الائمة حتي الثاني عشر، اذا ما ترددوا، ولما توزعت الشيعة الي فرق مثل الاسماعيلية والفطحية والناووسية والواقفية وغيرهم.

والحقيقة ان هذه الشبهة قد اضلت البعض، وذلک بسبب مبالغتهم في الاعتماد علي بعض الکتب التي أرخّت طوائف الشيعة تاريخيا، مثل کتاب النوبختي حول فرق الشيعة.. الا ان هذه الشبهة مردودة:

اولا: بان فرق الشيعة کانت فرق شاذة ونادرة، وقد تجاوزهم الزمن. وانما بالغ فيها البعض لحاجة في نفسه او مرض. وقد کان انقراضها وتلاشيها في غياهب النسيان اوضح دليل علي ضعفها، وعدم قدرة ادلتها علي الصمود امام أدلة الشيعة الاثني عشرية.

ثانيا: لولا وجود نص واضح کان الشيعة وکبار حواري الائمة يتداولونها فيما بينهم، لما کان من الممکن ان يجتمع فرق الشيعة - بالتالي - حول اولئک الأئمة الاثني عشر، بالرغم من معارضة السلطات الجائرة لهم ومحاولتها تمزيق صفوفهم.

ومن المعلوم ان الشيعة کان فيهم کبار علماء الحديث والفقه والتفسير والحکمة.. فکيف اجتمعوا مثلا حول الامام الرضا - عليه السلام - بالرغم من فرقة الواقفية، او حول الامام الجواد بالرغم من صغر سنه، وهکذا؟!

ثالثا: ان النصوص التي کانت عند الشيعة کانت من اسرار آل محمد لظروف التقية الضاغطة، ولم يکن من کبار الشيعة العارفين بها يسمحون لانفسهم بالبوح بها إلا لخاصة خواصهم. ولعل بعض الکلمات التي کانت تصدر من امثال زرارة في التظاهر بعدم معرفتها کانت من هذا النوع.

واخيرا.. ان شبهات المرتابين لا تنتهي، لان القلب الذي فقد اليقين لا يمکنه ان يستقر علي شيء، بل تراه لا يجادل في شبهة داحضة حتي تعتريه شبهة جديدة. نسأل الله العلي القدير ان يعصمنا منها ومن امثالها، والحمد لله رب العالمين.