لماذا الايمان بالغيب؟


انتظار الامام الغائب انتظار يوم الدين، والايمان بالوحي النازل من الغيب، واکبر من کل ذلک الايمان بالله سبحانه واسماءه الحسني، کل ذلک ايمان بحق تشهد عليه آياته.. فبالتسامي من ظاهرة مشهودة کالشمس والقمر واختلاف الليل والنهار، نعرف حقا آخر غاب عن اعيننا، وصدقت به عقولنا، وبصرت به قلوبنا.

وانها لميزة الانسان التي تسمو به بين سائر الاحياء علم بالغيب من خلال علم بالظاهر. فتري اننا نعرف الماضي من خلال الحاضر، ونعرف المستقبل ايضا بعد معرفة الحاضر. الا تري ان 99 % من العلوم هي معرفة ما وراء الظواهر؟ والفرق بين من يري نور الکهرباء ومن يعرف حقيقته هو الفرق بين العالم والجاهل، بل بين الانسان وغيره.

إلا ان الايمان بالغيب يختلف عن العلم بالغيب. فعندما يکون العلم الطاقة الکامنة في الاسلاک، او الحديث عن مستقبل مريض ابتلي بعاهة

لا شفاء لها، او عن تطور ظاهرة في الاقتصاد معروفة النتائج علميا.. عند ذلک کلنا نعلم ذلک الغائب الذي تدل عليه شواهده وأدلته. ولکن عندما تکون ذات الظواهر تدلنا علي ربنا والملايين من اشباهها، تري البعض يتوقف، لماذا؟ لان عقبة نفسية تعترض طريقه، واذا اراد الايمان فان عليه ان يتجاوز تلک العقبة بعزيمة ارادته، ثم يصدق بالحق من وراء الظواهر..

کذلک کان الايمان بالغيب ميزة بعض البشر وليس کل الناس، انما المتقون وحدهم يهتدون الي الغيب فيؤمنون به.

قال الله تعالي:

«الم ، ذَلِکَ الکِتَابُ لاَرَيْبَ فِيهِ هُديً لِلمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ ُيؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ» (البقرة / 1-3)

وميزان صدق الانسان، وتکامله واثباته لقدرته علي تجاوز ذاته، وتحديه للهوي والشهوات ووساوس الشيطان.. ميزان کل ذلک ايمانه بالغيب.

فاذا آمن بالغيب مرة، امن به کل مرة لان قدرته واحدة، هنا وفي کل موقع. فمثله کالذي تعلم لغة وتکلم بها مرة فانه يتحدث بها کل مرة، لانه اکتسب قدرة يستخدمها ابدا. کذلک الذي آمن بالله صادقا من خلال آياته، فانه يؤمن بالرسل وبالکتب وبالقيامة وبالمعاجز و.. و..

ان قدرة الانسان علي تجاوز ذاته هي واحدة في کل مکان، ومن هنا فانه يؤمن بکل حق بلا تفريق بين حق وآخر.

قال الله تعالي:

«الَّذِينَ ُيؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمآ اُنْزِلَ إِلَيْکَ وَمآ اُنْزِلَ مِن قَبْلِکَ وَبِالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» (البقرة / 3-4)

وقال سبحانه:

«ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَآ اُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ کَلٌّ ءَامَنَ بِالله وَمَلآَئِکَتِهِ وَکُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِن رُسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَکَ رَبَّنَا وَإِلَيْکَ الْمَصِيرُ» (البقرة / 285)

اما الذي يدعي الايمان بالحق ثم يکفر ببعض الکفر فانه کاذب في ايمانه، لانه لم يعرف کيف يتجاوز ذاته، ويخالف هواه. انه يتبع هواه في تقييم الحقائق، فما وافقت عليه نفسه آمن به، وما خالفته نفسه کفر، وکان کمن قال ربنا سبحانه عنه:

«أَفَکُلَّمَا جَآءَکُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَي أَنْفُسُکُمُ اسْتَکْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً کَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ» (البقرة / 87)

وهکذا يلجأوون الي ميزان العصبية والأهواء في تقييم الحقائق، وبأيها يؤمنون وبأيها يکفرون. فاذا انزل الوحي فيهم وکان الرسول من قومهم آمنوا به، واذا کان من غيرهم کفروا به. هؤلاء هم في الواقع

من اتباع الهوي.

يقول الله سبحانه:

«بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَکْفُرُوا بِمَآ اَنْزَلَ الله بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ الله مِنْ فَضْلِهِ عَلَي مَنْ يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَي غَضَبٍ وَلِلْکَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ» (البقرة / 90)

واليوم نجد البعض يرتاب في حقائق کان بالامس يؤمن بها ويدافع عنها اشد الدفاع، لماذا؟ لانه تعرض لفتنة، واصبحت هذه الحقيقة تخالف مصالحه واهواءه، وغدا يکفر بالحقيقة التي لايزال يؤمن بها اليوم، وهکذا يکفر ويؤمن حسب رياح الهوي. فهل هذا مؤمن؟ کلا.. لان اساس الايمان هو الاقتدار ضد الهوي، هو التحدي ضد جبت الذات. فاذا انهارت مقاومة الانسان الداخلية، فأية قيمة لايمانه. بل کيف نسمي الايمان بشرط موافقة الهوي - کيف نسميه - ايمانا؟!

مثل هؤلاء الذين يتراجعون اليوم عما امنوا به امس لم يکونوا مؤمنين حقا. بل کانوا يزعمون انهم مؤمنين، او يتظاهرون به، وقد قال الله تعالي عن الفريق الأول:

«قَالَتِ الاَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَکِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِکُمْ» (الحجرات / 14)

ويقول سبحانه عن الفريق الثاني:

«إِذَا جَآءَکَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّکَ لَرَسُولُ الله وَالله يَعْلَمُ إِنَّکَ

لَرَسُولُهُ وَالله يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَکَاذِبُونَ ، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ الله إِنَّهُمْ سَآءَ مَا کَانُوا يَعْمَلُونَ» (المنافقون / 1-2)

ومن هذه الزاوية تجد البعض اذا أوتي شيئا من علم الدين زعم انه ملک ناصية الدين ذاته، يغير فيه ما شاءت اهواءه.

فاذا راجت في الغرب فکرة التساوي بين الجنسين تراه اخذ يأول نصوص الدين فيما يتصل بالتمايز بينهما، حتي ان بعضهم اخذ يحرف کتاب العهدين بحذف ما فيه من کلمات تشير الي الفرق بين الرجل والمرأة، فأخذ يسمي الرب بالعظيم بدل کلمة الأب.

وتري بعضهم اخذوا يحرفون کلمات القرآن المجيد حول المرأة لکي تنسجم مع افکار الغرب حول النساء.

وکان قديما طائفة قد تأثروا بالفلسفة اليونانية القديمة، فأخذوا يفسرون نصوص القرآن والسنة بما ينسجم مع تلک الفلسفة. وکان الميزان عندهم مذهبهم في الفلسفة، لا ايمانهم بالکتاب. فاذا کان الواحد منهم شائيا فسر القرآن حسب نظريات ارسطو، وان کان اشراقياً فسره حسب اراء افلاطون، وهکذا..

وتري البعض اذا صار ثوريا فتش في ايات الذکر عما تدعم نظرياته المتطرفة، واذا انقلب علي الثورة واصبح محافظا اکتشف رأسا ان القرآن

کله يدل علي منهج المحافظين، وهکذا..

ولذلک تجد الفرق الاسلامية التي بلغت حدة التناقض فيها حد القتال، وجدت جميعا ايات تستدل بها علي آرائها الباطلة.

وحتي في افق التشريع تجد البعض يصدر الفتاوي التي توحي بها الظروف، ويستند فيها الي ايات القرآن، وقد تکون تلک الفتاوي متعارضة مع أبسط المبادئ الفقهية..

وکل ذلک منشؤه ان الايمان ليس کافيا لمقاومة هوي الذات او شهوات النفس او ضغط المجتمع..

ومن هنا امرنا الرب بان نسأل اهل الذکر، وهم ليسوا کل اهل العلم (أهل الکتاب) بل الاتقياء منهم فقط، الذين وعت قلوبهم حقائق البينات او بصائر الکتب. فقال سبحانه:

«فَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِن کُنتُم لاَ تَعْلَمُونَ ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ» (النحل / 43-44)

وعندما طبقت بصيرة الولاية في بعض البلاد وواجهت مضاعفات عند التطبيق، واصطدم البعض بها، تراه لم ينسب الخطأ الي البشر الذين هم - بالتالي - غير معصومين. ولم يدر ان کل فکرة واجهت مضاعفات عند التطبيق. فالديمقراطية التعددية والديمقراطية الشعبية والملکية الدستورية والملکية المطلقة.. وکل النظم واجهت مشاکل عند التطبيق. والعقلاء لم يحملوا کل المسؤولية علي المبدء، بل عرفوا مواقع الضعف في المبدء، وميزوها عن مواقع الضعف في المنفذين لها.

وعند هذا المنعطف انهار وبدأ يرتاب في حقيقة الولاية الالهية، ويدعو الي العلمانية (وفصل الدين عن السياسة) او الي التطوير في طريقة فهم الدين..

انهم - بکلمة - استوحوا من الظروف المحيطة افکارا واخذوا يحملونها الدين قسرا، ويفسرون ايات الکتاب بارائهم ويحرفون کلماتها باهواءهم. وکانوا اظهر مصداق لقوله سبحانه:

«فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ کُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّکَّرُ إِلآَّ اُوْلُواْ الأَلْبَابِ» (آل عمران / 7)

وتري بعضهم ابتلي بالشک الجارف فاذا بفيروس الارتياب ينخر في اصول عقائده، فأخذ يشک في الامام المنتظر - عليه السلام - زاعما ان الدليل الوحيد الذي دل علي ولاية الفقية هو الحديث المسند اليه. فامعانا في فتنة نفسه وخداع ذاته اخذ ينفي وجود الامام الحجة حتي ينهار اساس ولاية الفقيه.. تلک الولاية التي اصطدم بها ونصب نفسه لتسفيهها وضرب قواعدها واسسها.

ان ولاية الفقيه ذات اسس رصينة اعمق واقوي مما ظنه هذا الفرد، حيث ان ادلتها قائمة في کتاب الله وسنة رسوله، کما انها تنسجم مع مجمل القيم الدينية.

ثم انه اخذ يرتاب في سائر اصول المذهب الحق، بل بعض اصول الدين ذاته.

ان المشکلة الاولي عند من يکفر بالحق - لا فرق بين هذا الحق في اي مستوي يکون - انها تتلخص في استرساله مع هواه، وعدم تحديه لوساوس نفسه، فاذا به يتردد في ريبه دون ان يصل الي شاطئ اليقين، فمثله کمثل من قال عنه ربنا سبحانه:

«فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ» (التوبة/ 45)

وکلمة اخيرة؛ ان الايمان لايتجزأ، ومن اراد ان يکفر بحق ويؤمن بآخر فانه بمثابة من يکفر بالحق کله.

قال الله تعالي:

«أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْکِتَابِ وَتَکْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِک َمِنْکُمْ إِلاَّ خِزيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَي أَشَدِّ الْعَذَابِ» (البقرة / 85)