مقدمة الناشر


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم السلام علي سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين

وبعد، فإن الضعف في الإنسان هو الأصل، والقوة فيه استثناء (وخلق الانسان ضعيفاً).

والظلم والجهل فيه هما الأصل، والعدل والمعرفة استثناء (إنه کان ظلوماً جهولاً).

فليس عجيبا أن تري شخصا يضعف أمام ضغوط الدنيا ومغرياتها، ويرتکب الجهالات، ويتجاوز علي حقوق الناس.. بل العجيب أن تري إنساناً قوياً، يقاوم الضغوط والمغريات، وينصف الناس من نفسه، ولا يتصرف إلا بمعرفة! وکما قال الإمام الصادق عليه السلام (ما عجبت لمن هلک کيف هلک، ولکن عجبت لمن نجا کيف نجا)!



[ صفحه 4]



وليس عجيباً أن تري أن تاريخ الناس يتلخص في رکضهم وراء الحکام والدنيا، ومعاداتهم للأنبياء والأوصياء.. بل العجيب أن تجد من الناس أتباعاً للأنبياء، ثم تجد في أتباع الأنبياء من ثبت بعدهم ولم ينحرف!

إنها حقائق ثقيلةٌ علي الفکر، مُرَّةٌ علي القلب، ولکنها حقائق.. ولا يجب أن تکون الحقيقة دائماً حلوة..

وهي في منهج القرآن أبرز الحقائق في تاريخ الأمم والأديان، لا استثناء فيها لأمتنا، وإن کانت خير أمة أخرجت للناس، بل لقد أکد النبي صلي الله عليه وآله بصراحة علي أن أمتنا ليست استثناء فقال (لترکبن سنن من کان قبلکم، حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل..).

وقضية علي وشيعته القلائل الذين التفُّوا حوله في حياة النبي وبعد وفاته، أنهم استوعبوا هذه الحقائق وهذه السنن، وعقدوا عليها القلوب، وعکفوا عليها الضلوع.. فعندما کان النبي مسجي يودع الأمة، وأهل الحل والعقد محتشدون حوله، أمرهم أن يأتوه



[ صفحه 5]



بورق ودواة ليکتب لهم کتاباً يؤمنهم من الضلال والإنحراف، فرفضوا ذلک ورفعوا في وجهه شعار (حسبنا کتاب الله)!

هنا رفع الشيعة شعار التمسک بأهل بيت النبي، والامتثال قوله صلي الله عليه وآله (إني تارک فيکم الثقلين، کتاب الله وعترتي أهل بيتي).

ومن يومها الي يومنا هذا، قامت علينا قيامة إخواننا الأکثرية.. ولم تقعد!

فصرنا روافض، لأننا امتنعنا عن بيعة الخلفاء من غير أهل بيت النبي!

وصرنا مشرکين، لأننا حفظنا وصية النبي في أهل بيته، فأحببناهم وقدسناهم!

وأباحوا دماءنا وأموالنا والأعراض، لأننا لم نعط الشرعية لغير أهل بيت النبي!

ودارت علي أجسادنا عجلة التاريخ تطحن ما استطاعت.. حتي بنوا علينا الجدران ونحن أحياء، وألقونا في التنانير المسجرة،



[ صفحه 6]



وهدموا علينا سراديب السجون، وشردونا في جهات الدنيا الأربع!

ثم جعلوا عداوتهم إيانا ثقافة، علموها للناس من علي منابر المساجد، وفي أواوين المدارس، ثم ملؤوا بها بطون الکتب، وأورثوها الأجيال!

ثم إذا کتب شيعي کتاباً أو تفوه بکلمة، فذلک هو الذنب العظيم، لأنه يخالف قانوناً أجمعت عليه دول الخلافة، من أول خليفة قرشي الي آخر خليفة عثماني، مفاده: أنه يحرم علي الشيعة أن يدافعوا عن أنفسهم، حتي لو کان دفاعهم علمياً!

وصار هذا القانون ديناً يتدين به عامة إخواننا الأکثرية، حتي أنک لتجد أذهانهم في عصرنا مسکونة بأن الاستماع الي حجة الشيعي ذنب، وقراءة کتاب للشيعة ذنب أعظم!

فکل إنسان، حتي عابد الوثن، له حق التعبير عن معتقده، إلا الشيعي.

وکل إنسان حتيعابد الوثن يجوز الاستماع الي دليله وحجته، إلا الشيعي.



[ صفحه 7]



وکل کتاب يباح دخوله الي البلد وقراءته، حتي کتب الإفساد والإلحاد، إلا الکتاب الشيعي!

يقول عالم سني من الفيلبين: نشأت من صغري علي الحساسية من الشيعة وکرههم والحذر الشديد من کتبهم، لأنها کتب ضلال، حرام قراءتها وبيعها وشراؤها.

وفي لحظة فکرت في نفسي وقلت: أليس من المنطقي أن يطلع الإنسان علي وجهة النظر الأخري ويفهمها، ثم يناقشها ويردها؟ أليس موقفنا شبيهاً بموقف الذين يقول الله تعالي عنهم (جعلوا أصابعهم في آذانهم)؟

ومن ذلک اليوم قررت أن أقرأ کتب الشيعة، وليقل الناس عني ما يقولون!

إن قراءة الکتاب الشيعي تحتاج الي مثل هذه البطولة من جهاد النفس، وجهاد الجو الحاکم في بعض الأوساط!

يضاف الي ذلک أن الکتاب الشيعي في عصرنا متهم بالإضرار بالوحدة الاسلامية، وإثارة الحساسية والتفرقة بين المسلمين..



[ صفحه 8]



وکأن وحدة المسلمين في مواجهة أعدائهم لا تتحقق إلا بإغماض العيون وإغلاق باب البحث العلمي في العقائد والصحابة وأهل البيت، ثم لا تتحقق إلا بأن يتحمل الشيعة فتاوي التکفير وسيل التهم الشتائم، تطبيقاً لقانون حرمة الدفاع عن النفس!

ما هو الحل إذن؟

الحل هو الموقف المنطقي العقلاني، الذي ينبغي أن يتفهمه الطرفان.. فلا الوحدة تعني ترک الالتزام بالمذهب، وتحريم البحث العلمي في مسائل العقيدة والشريعة. ولا حرية البحث العلمي تبررعدم مراعاة الأدب الانساني وأدب الأخوة في الدين...

ولهذه الحرية ينبغي أن تتسع الصدور، وبهذا الأدب ينبغي أن يتأدب المتکلمون والکتاب.

إن الوحدة الإسلامية تعني وحدة المسلمين علي اختلاف مذاهبهم ومشاربهم وقومياتهم في صف سياسي واحد، في مواجهة أعدائهم ونصرة قضاياهم، مع حفظ حرية التمذهب داخل هذا الصف، وحفظ حرية التفکير والتعبير ضمن الأدب الإسلامي والإنساني..



[ صفحه 9]



وإذا عودنا جمهورنا المسلم علي هذه الحرية وهذا الأدب، نکون قد روَّضنا جبهتنا الداخلية علي التفهم والتفاهم، وقدمنا الي العالم نموذجاً لحرية الرأي والمعتقد داخل مجتمعاتنا.

فما المانع أن يصلي المسلم السني الي جانب أخيه الشيعي، ويتحمل أحدهما من أخيه أن يُسْبِل يديه في صلاته، أو يَکْتَفِهما، أو يرفعهما بالقنوت لربه، أو يصلي بدون قنوت؟

وما المانع أن يقرأ السني کتاباً شيعياً يذکر فيه الأدلة علي أن هذا الصحابي قد خالف النبي في حياته، أو انحرف عنه بعد وفاته؟ أو يقرأ الشيعي کتاباً سنياً يذکر فيه الأدلة علي عدالة جميع الصحابة، ووجوب موالاتهم وموالاة أوليائهم، وأنهم أفضل من أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله؟

وما المانع أن يقوم السني مع أخيه الشيعي بعملية ضد الاحتلال الصهيوني فيبدأها الشيعي بنداء (يا ألله يا محمد يا علي) ويبدأها السني بنداء (يا ألله يا محمد يا عمر)؟

إن من غير المعقول أن ننتظر من أتباع المذاهب أن يحققوا الوحدة الاسلامية باتباع مذهب واحد.. فهذه المذاهب ستبقي



[ صفحه 10]



کما يبدو حتي ظهور الإمام المهدي عليه السلام، الذي يعتقد به الجميع، ويوحد الإسلام في مذهبه الأصلي.. ولا حل إذن إلا بالتعايش بين أهل المذاهب وتحقيق الوحدة العامة الخارجية، وإعطاء حرية البحث السليم داخلياً.

من هذه الرؤية نبدأ باسم الله تعالي هذه السلسلة الفکرية التي تبحث في أهم المسائل العقائدية والفقهية والفکرية، التي تتعلق بأهل بيت النبي صلي الله عليه وآله، ومذهبهم، وشيعتهم. والتي يقوم بإصدارها (مرکز المصطفي للدراسات الإسلامية) الذي تم تأسيسه بأمر سيدنا المرجع:

آية الله العظمي السيد علي السيستاني مد ظله الشريف

ونسأل الله تعالي أن تکون مفيدة للجميع، لالتزامنا فيها بالبحث العلمي الذي يتحري الحق، ويحفظ الحقوق والآداب، والله المسدد للصواب.

الحوزة العلمية بقم المشرفة

21 صفر الخير 1417

مرکز المصطفي للدراسات الإسلامية

علي الکوراني العاملي



[ صفحه 11]