التماسک


وسوي ذلک فإنّ قضية القائد المنتظر، ووجوده حيّاً بين صفوفنا، وفي داخل جبهتنا، يحفزنا علي الشعور بالأصالة، والاستقلال، والحياة والقوّة. دعني أشرح ذلک وأوضّحه أکثر: هناک فارق کبير في الوضع النفسي لأمّة لا تعرف قيادتها. أو لا تملک قيادة حية تتفاعل معها. ليس لها من تثق به. ليس لها من ترمي بطرفها إليه. إنّها أمّة ستذوب، وتتلاشي، وتتمزّق. ستأکلها الاتجاهات، وتميّلها الافتراقات. وتنصهر في الکل، وفي الأکثرية المحيطة بها. ستضيع ملامحها، وتفقد شخصيتها، وتنسي أصالتها واستقلاها. وتتوسّل للدخول ضمن الاتجاهات الأکثر قوّة، والأکثر منعة وتماسکاً. ما الذي يمنع الفئة القليلة من الذوبان، والاندکاک في الفئات الکبري؟

وما الذي يحصّن دائرتها من التلاشي في الدوائر الأخري؟ شيء واحد بالتأکيد... هو شعورها بأصالتها، واستقلالها، وثقتها بوجودها. مهما تملک هذه الفئة من فکر، ومن حق، فإنّ ذلک لا يدفع عنها خطر الانهيار، والتفلّل، والذوبان، ما لم تستشعر الثقة بنفسها، وقوّة کتلتها، وحيوية جبهتها، ووحدة صفّها.

إنّ هذا الشعور هو الذي يقطع حبل الانهيار، والتحلّل والانصهار ضمن الأکثرية. والأمّة التي لا تعرف قيادتها، ولا تملک الثقة بأنّ قيادتها وراء الخط، تدبّر وتعمل، وتشهد، وتخطّط، وتنتهز الفرص للهجوم، إنّ مثل هذه الأمة تفقد الشعور بالمنعة، والحصانة. تفقد الشعور بالاستقلال، والوحدة.

وعلي العکس من ذلک الأمة التي توطد حبل الاتصال مع قادتها، وتعرف جيداً أنّهم داخل الساحة، والأحداث لا تمرّ دون اطّلاعهم. هذه الأمّة مهما بلغت من الصغر، والقلّة. ومهما أحاطت بها الاتجاهات ذات الأکثرية الساحقة. إنّ هذه الأمّة وهذه الفئة تصبح ذات قناعة کافية لأن تقيها خطر الذوبان. وإذا کان الحديث عن جبهة التشيع فبوسعک أن تلاحظ معي: إنّ هذه الجبهة تحتضن الأقلية الضعيفة، والمطاردة.

وکل التيارات التي شهدها تأريخ الإسلام وقفت ضد هذه الجبهة، وکانت تري فيها الخطر الذي يقوّض کيانها لو قدّر لها أن تواصل نشاطها بقرار، وحرّية. ومع ذلک فإنّ قلعة التشيع لم تستسلم: وباتت غير مستسلمة حتي في حال غياب قائدها (الإمام الثاني عشر) من أهل البيت.

وبالطبع فإنّها کانت معرّضة للتمزّق بغياب قائدها. وشيء من ذلک قد تحقق بالفعل. لقد کان الإمام يقول: کيف أنتم إذا بقيتم بلا إمام هديً ولا علم، يتبرّأ بعضکم من بعض. [1] لکن رغم کل ذلک فهاهي أحد عشر قرناً مضت علي غيبة هذا القائد، والتشيع ما يزال راسخاً. والمؤمنون بهذا الخط لم يقتلهم الوهن، ولم يحدّ من نشاطهم الضعف، والقلّة، وحياة المطاردة. تري ماذا کان وراء ذلک؟ وکيف لم تذب هذه الفئة، کما ذابت معظم الفئات الأخري؟

لقد شهد التأريخ الإسلامي عشرات من الفرق الدينية، لکن يد المنون مسحت عليها، وانتهت. إنّها لم تصمد أمام أدني الضغوط، أو أدني الافتراقات. بينما ظلّ التشيع، رغم کل الأعاصير، والصدمات، والمکائد. رغم القلّة، والضعف، والتشتّت. ظلّ حيّاً راسخاً، معبّراً عن جوهر الإسلام. صارخاً بالحق، ساخراً بالظالمين، ومؤامرات الظالمين. ماذا کان وراء ذلک، والقائد محتجب؟! کيف لم يصب الانهيار عزائم الشيعة؟ کيف لم يستسلموا للأکثرية الساحقة والقويّة. ما الذي شدّهم هذا الشدّ الوثيق بالمذهب.

الشدّ الذي خابت معه کل محاولة للتمزيق والتفکيک. بلا شک کان وراء ذلک إيمان الشيعة بحياة قائدهم المغيّب، وأنّه معهم، وفي أوساطهم. يعيش همومهم، ويتمزّق قلبه ألماً لمآسيهم. يرقب حالهم، وجبهتهم. ينتظر.. ينتظر، کما هم في انتظار. هو مرتبط معهم، غير بعيد عنهم، ولا ناسٍ لقضيته وقضيتهم. فهناک وحدة في القضية، وهناک وحدة في المصير. إنّ هذا القائد الذي احتجب عن الرقابة التي تلاحقه، والذي ما يزال محتجباً ريثما تکون ساعة النصر قد أزفت، وريثما تکون شروط الثورة قد مثلت في الأفق.

إنّ هذا القائد حي.. ومن هذه الحياة تخفق قلوبنا بالحياة. ومن هذا النشاط نستمد النشاط، ونعرف کيف نعمل، وکيف يجب أن نتکتل. فنحن أمة لها أصالة، ولها استقلالها ما دامت قيادتها حية، صابرة مشرفة علي الساحة. مادامت قيادتها غير ضائعة ولا واهنة. الفواصل الزمنية بيننا وبين هذا القائد معدومة. فلا داعي لاستشعار البعد، والدهشة، والافتراق عن القيادة. لأنّ هذه القيادة ما تزال حيّة، کما لو کانت وليدة عصرنا.

دعنا نتصوّر ماذا يکون الوضع النفسي لو کنّا لا نملک هذا القائد، الذي نثق به ثقة مطلقة، والذي نثق بأنّه سيسحق کل الخصوم. هب أنّ الإمام المهدي عليه السلام قد مات في الستينات أو السبعينات من عمره الشريف.وفقدنا القيادة المعصومة والمظفرة. وأصبحنا ننتظر فقط مجيء مصلح قد تجود به يد الزمان في يوم من أيام المستقبل. ثمّ کنّا نواجه الصدمة تلو الصدمة. نواجه الذبح، والخنق، والسجن والتشريد. نواجه الدسائس الخبيثة التي تحرص علي إبادتنا.

ونحن قلّة، وضعاف، ومشرّدون. والناس ينظرون إلينا شزراً. والرجل الذي ننتظر صولته غير موجود. أليس کنا نقترب نفسياً إلي الهزيمة. نؤثر العافية، والسلم والأمان. فندخل ونموع في أحضان الأکثرية. نذوب کأننا الشمع. نفقد الشعور بأنّنا تکتّل رصين محقّ.

في کل صدمة نفقد مجموعة من الأعوان الذين يُهزمون بفعل الصدمة والمحنة. انظروا کيف تمزّقت وبادت الفئات الأخري، لدي أدني صعوبة، وفي بداية الصراع؟ کيف انتهي المعتزلة من الوجود، وانتهي مذهب الاعتزال، حينما انتفضت عليه السلطات؟ إنّ تلک الفرق والمذاهب لم تواجه عشر العناء، والخطر الذي واجهه التشيع.

حينما طوردت الفئات، وأصيبت بالشتات، وحين تمزّقت جغرافياً، ونفسياً، وفکرياً کانت قد حکمت علي نفسها بالموت والفناء. أمّا جبهة التشيّع، فالداخلون فيها يعرفون أنّ قائدهم المظفر المعصوم.. معهم، يشهد، يسمع، يرقب الأحداث، يتحرک، يسدد، ينتظر. إذن فهم کتلة حية بحياة هذا القائد. وأينما ذهب الرجل الشيعي، وفي کل مکان قذفته الأمواج، هو يشعر بأنّ قائده يعيش مأساته، ويحمل همّه، وتربط بين الاثنين علاقة مودّة، وحبّ، وهمّ مشترک، وهدف مشترک.

أنتم تعرفون مقدار الترکيز والتشديد الذي أعطاه مذهبنا لربط الشيعة، وتوطيد علاقتهم، حتي نفسياً وعاطفياً، بالقائد المنتظر. هناک مناجاة خاصة يتّصل من خلالها الشيعي ويتعاطف مع إمامه، ذلک ما نقرؤه في (دعاء الندبة)

هذه المناجاة کل شيعي مدعو لممارستها أسبوعياً لا أقل. وهناک زيارة خاصّة للقائد المنتظر، يعيش الرجل الشيعي في أثنائها مع إمامه، وقائده، يستشعر وجوده وحبّه، ومشارکته، وقيادته.

وهناک دعاء خاص يتوسّل به الشيعي إلي الله تعالي في رعاية القائد في غيبته، وتسديده، ودفع الشرّ عنه، والإذن له بالظهور، وإزاحة ثقل الاحتجاب عن صدره. کل هذا وأکثر من هذا من أجل قضية واحدة. من أجل توثيق الربط بين الشيعي وقيادته المعصومة.

حتي يشعر أنّ إمامه مثله يعيش همّ المأساة. ويتحرّق شوقاً للانفتاح علي شيعته. إنّ العزلة تشق عليه. إنّه يضيق ذرعاً بالوحشة. إنّه يرجو منّا الدعاء له بالفرج، وإعلان الثورة الکبري. إنّه يعمل ويدعونا للعمل. إنّه صابر ويدعونا للصبر. إنّ هذه المناجاة، والتوسلات، والأدعية، لم تکن عبثاً، أو مجرّد تسلية للضمائر الخائرة. إنّها تحمل أکبر عطاء... تصوّر نفسک وأنت تناجي بکل حب ولهفة قائدک المغيّب عنک. تبثّ إليه همّک، وتعرض له شوق قلبک، وتسرد له مآسي جبهة الحق، وتجدّد العهد معه بأنّک سائر علي الدرب، ساحق کل الأشواک، صابر علي العناء.

تصوّر نفسک وأنت تتحدث للإمام القائد المفدّي، حديث مسؤولية، وحديث مودّة، وحديث أشجان، وحديث توسل، وحديث انتظار وتلهّف وحديث عهد لا تتراجع عنه. تتحدّث معه کما لو کان يشترک معک في الحديث، فاتحاً قلبه إليک، مبصراً بالأسي الذي لا يبارحک. کم يجعلک هذا اللقاء قوي العزيمة، رابط الجأش. واثقاً بالأصالة، شاعراً بالاعتزاز. کم يهبک هذا اللقاء قوّة، ومنعة عن الذوبان، والانهيار، والتلاشي؟!

ستشعر بأنّک لست ريشة في مهب الريح. ولست قطعة خشب تطفو علي مياه البحر يتقاذفها الموج. ولست وحدک يتخطّّفک العدو من کل مکان. إنّما أنت جندي في جبهة الحق. الجبهة الرصينة، المتکاتفة. الجبهة ذات القيادة الحيّة، المتحرّکة، التي تعرفک، وتعرفها جيداً.

إنّ هذا العطاء الذاتي هو أغلي شيء نستفيده من حياة القائد المنتظر. وأنت تستطيع أن تفسّر معني الحديث عن رسول الله صلي الله عليه وآله: من أنکر القائم من ولدي فقد أنکرني. [2] .

کيف ذلک، ولماذا؟ لماذا کان من يموت وهو لا يعرف إمام زمانه، يموت ميتةً جاهلية، کما ورد في الحديث. [3] إنّ عدم معرفة الإمام، أو إنکار الإمام تساوي الشک، وعدم وضوح الرؤية، وعدم الثقة بالخط، وتلک هي الجاهلية. أمّا حين تعرف إمامک، فأنت إذن قد رسمت منهج حياتک، وقد وثقت من الخط الذي تسير عليه، وتحصّنت عن الشک، وعن الذوبان، وعن الانحراف.

في الکتاب الذي بعثه الإمام المهدي عليه السلام للشيخ المفيد ـ المتوفّي سنة413هـ ـ والذي کان زعيماً للطائفة الشيعية في يومه. سجّل حقيقة ضخمة في محتواها، وعطائها.

اقرأ معي ما سطّره الإمام في کتابه:ولو أنّ أشياعنا ـ وفّقهم الله لطاعته ـ علي اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لما تأخّر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا علي حق المعرفة وصدقها منهم بنا. فما يحبسنا عنهم إلاّ ما يتّصل مما نکرهه، ولا نؤثره منهم. [4] .

إنّ ما يصدر منّا لا يحتجب عن الإمام. وهو إذا کان غائباً عن أنظارنا فإنّه حاضر في ساحتنا. إنّ أخبار شيعته تنقل إليه. من الذي انهزم، ومن الذي نافق، ومن الذي أساء لجبهة الحق. وعلي العکس.. من الذي يصمد، ومن الذي يخلص للحق، ومن الذي يحسن العمل والنشاط. کل ذلک في علم الإمام، ومطروح بين يديه. وحينما نفهم هذه الحقيقة کم نشعر بالمسؤولية؟

إنّ قائدنا المفدّي يرقب أعمالنا، ويعرف کيف نتصرّف، ويحکم علينا من خلال مستوي إخلاصنا. نحن لسنا في غيبة عنه، وإن کان في غيبة عنّا. وبهذا يکون العطاء الذاتي لحياة الإمام أکبر. فنحن لا فقط نستلهم من حياته الحياة، ومن نشاطه النشاط. ولا فقط نستشعر الأصالة، والحصانة، والاستقلال. وإنّما يتعمّق فينا الشعور بالمسؤولية حينما نکون علي يقين بأنّ أعمالنا تعرض علي الإمام، وليست في خفاء عنه!!


پاورقي

[1] إکمال الدين وإتمام النعمة: 348 الحديث 36.

[2] إکمال الدين وإتمام النعمة: 412 الحديث 8. بحار الأنوار: 51/73 الحديث 20.

[3] الکافي: 1/377 باب من مات وليس له إمام، ولاحظ أيضاً: التأريخ الکبير للبخاري 6/445 الحديث.

[4] الاحتجاج للطبرسي: 2/325.