فتن البحث عن هوية


مما لا شک فيه أن وجود الفرد في بيئة معينة واتصاله المستمر بالعالم الخارجي يجعله يکتسب خبرات جديدة تعدل من استعداداته وميوله الفطرية، فالعالم الخارجي له أثرا بالغا علي تنظيم الانفعال الذي يمد الفرد بالطاقة العصبية اللازمة. للتعبير عن الغريزة حتي تتجمع حول شخص معين أو حول شئ معين، والمسيرة الإسرائيلية لم تنقطع يوما عن العالم الخارجي. ولهذا اکتسبت مجموعة من الخصائص الانفعالية المميزة للفرد، أو بعبارة أخري مجموعة الصفات التي يتسم بها سلوک الفرد وانفعالاته ودوافعه، وعلي امتداد المسيرة وفي کل مرة يحدث الاتصال بالعالم الخارجي. تتأثر مجموعة من الغرائز والانفعالات المختلفة. فإن کانت في مجموعها تلتقي مع الأهواء أدت إلي عاطفة حب. وإن کانت في مجموعها مؤلمة أدت إلي عاطفة کره.

والدين الإلهي لم يترک الإنسان للعالم الذي من حوله، وإنما قدم البناء اللازم الذي تتکامل به الشخصية وتتآلف عناصرها بحيث تتجه اتجاها موحدا نحو غرض معين، ولکن المسيرة الإسرائيلية إختلفت عناصر شخصيتها عندما ابتعدت عن خط الأنبياء، مما أدي إلي حدوث الانقسامات المختلفة بين العناصر وتعارضت اتجاهاتها، فکان من نتيجة



[ صفحه 86]



ذلک ضعف الشخصية أمام الزينة والزخرف في العالم الخارجي، فراحت تأکل من ثماره وتجتر ذکرياتها علي سبيله، وأنتج زاد الثمار والذکريات العقد النفسية التي هي في مجملها استعداد وجداني مکتسب دائم. يؤثر في سلوک المرء وشعوره ويفرغ عليهما طابعا خاصا، ومما لا شک فيه أن العقدة النفسية قد تنشأ من صدمة انفعالية عنيفة، أو قد تنشأ من صراع نفسي غير محسوم، أو قد تنشأ من تربية غير رشيدة، هذا کله له معالم علي امتداد المسيرة الإسرائيلية التي أرغمتها العقد النفسية في نهاية المطاف علي الخوف. حتي ولو لم يکن هناک داعيا إلي الخوف، وهذا کله نتيجة حقيقية. لمقدمة حقيقية. غيروا فيها اتجاههم الفطري.

وأصبحوا عالة علي حرکة وإنتاج الأمم من حولهم.

والباحث في المسيرة الإسرائيلية يجد أن المسيرة قد تأثرت بعقائد العالم الخارجي، ومن ثياب هذه العقائد اتخذت المسيرة ثوبا واحدا أضافت إليه معالم سماوية باهتة، تتفق مع أهوائهم وتنسجم مع العقد النفسية التي أفرزتها الأحداث علي امتداد المسيرة، وفي نهاية المطاف رشحت ثقافات هذه العقائد علي المدنية المعاصرة وهددت الإنسانية بالانهدام. ومهدت الطريق إلي المسيح الدجال. وفي إفرازات المسيرة الإسرائيلية يقول صاحب تفسير الميزان: إذا تأملت قصص بني إسرائيل المذکورة في القرآن، وأمعنت فيها. وما فيها من أسرار أخلاقهم وجدت أنهم کانوا قوما غائرين في المادة مکبين علي ما يعطيه الحس من لذائذ الحياة الصورية، فقد کانت هذه الأمة لا تؤمن بما وراء الحس ولا تنقاد إلا إلي اللذة والکمال المادي، وهم اليوم کذلک، وهذا الشأن هو الذي صبر عقولهم وإرادتهم تحت انقياد الحس والمادة. لا يعقلون إلا ما يجوزانه، ولا يريدون إلا ما يرخصان لهم ذلک، فانقياد الحس يوجب لهم أن لا يقبلوا قولا إلا إذا دل عليه الحس، وانقياد المادة اقتضي فيهم أن يقبلوا کل ما يريده أو يستحسنه لهم کبرائهم من جمال



[ صفحه 87]



المادة وزخرف الحياة، فأنتج ذلک فيهم التناقض قولا وفعلا، فهم يذمون کل اتباع باسم أنه تقليد وإن کان مما ينبغي إذا کان بعيدا من حسهم، ويمدحون کل اتباع باسم أنه حظ الحياة وإن کان مما لا ينبغي إذا کان ملائما لهوساتهم المادية، وقد ساعدهم علي ذلک وأعانهم عليه مکثهم الممتد وقطونهم الطويل بمصر تحت استذلال المصريين، واسترقاقهم وتعذيبهم، وبالجملة: فکانوا لذلک صعبة الانقياد لما يأمرهم به أنبيائهم والربانيون من علمائهم مما فيه صلاح معاشهم ومعادهم، وسريعة اللحوق إلي ما يدعوهم المغرضون والمستکبرون منهم، وقد ابتليت الحقيقة والحق اليوم بمثل هذه البلية بالمدنية المادية، فهي مبنية القاعدة علي الحس والمادة. فلا يقبل دليل فيما بعد عن الحس، ولا يسأل عن دليل فيما تضمن لذة مادية حسية، فأوجب ذلک إبطال الغريزة الإنسانية في أحکامها، وارتحال المعارف العالية والأخلاق الفاضلة من بيننا. فصار يهدد الإنسانية بالانهدام، وجامعة البشر بأشد الفساد وليعلمن نبأه بعد حين. [1] .

. فالمسيرة اکتسبت من العالم الوثني الشئ الکثير، وکان لهذا أثرا بالغا علي سلوک الفرد وانفعالاته ودوافعه، ودفعت المسيرة في صراع نفسي غير محسوم أدي إلي تناقض حرکتها قولا وفعلا، وهذا الاهتزاز النفسي رشح فيما بعد علي الجامعة البشرية وهددها بالفساد، ولبيان المکتسبات الإسرائيلية من الأمم الوثنية الاستکبارية، نلقي بعض الضوء علي أهم المحطات التي تزودت منها المسيرة الإسرائيلية.


پاورقي

[1] الميزان 296 / 8.