فتنة الدماء النقية


لا شک في أن الشيطان صد عن العبادة الحق التي تصل الإنسان بربه. وتحقق له السعادة في الدنيا بما يوافق الکمال الأخروي، وبرنامج الشيطان الذي صد به عن العبادة. هو نفس البرنامج الذي شوه به رموز هذه العبادة لينفق الناس من حولهم، فالله تعالي اصطفي من خلقه آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران وآل محمد. کما أخبر القرآن والسنة.

فهؤلاء من دون الناس الذين أخلصهم الله تعالي لعبادته، وباختصار:

اصطفي الله الأنبياء والرسل واختار سبحانه من عباده من يقوم بيان شريعته للناس. فهؤلاء أصحاب الدماء النقية، بمعني أن الشيطان ليس له فيهم نصيب، والشيطان صد عن هذا السبيل بإلقاءاته. ومن معالم هذه الإلقاءات ظهور ثقافة تبناها الجبابرة والطواغيت علي امتداد المسيرة البشرية. والعمود الفقري لهذه الثقافة. أن في عروق هؤلاء وأسرهم تجري دماء الآلهة، ووفقا لهذا الاعتقاد الذي فرضوه علي شعوبهم. حکموا بالحديد وبالنار، وظل الحکم في هذه الأسر قرونا طويلة نتيجة لهذا الاعتقاد، وما أن تسقط أسرة حتي تقوم مکانها أسرة جديدة. تنطلق من هذا المستنقع الذي ابتليت به المسيرة البشرية.

وعلي هذا الاعتقاد کان الفراعنة وملوک آشور وملوک بابل والإغريق والبطالمة، وجميع هؤلاء احتکت بهم المسيرة الإسرائيلية.

وتأثرت ببرامجهم المادية والحسية، ولقد رشحت ثقافة تزکية الفرد والأسرة والقبيلة التي تحتويها هذه البرامج علي المسيرة البشرية فيما بعد، ورد عليها القرآن الکريم. قال تعالي: (ألم تر إلي الذين يزکون



[ صفحه 91]



أنفسهم. بل الله يزکي من يشاء ولا تظلمون فتيلا. أنظر کيف يفترون علي الله الکذب وکفي به إثما مبينا) [1] وقال جل شأنه (فلا تزکوا أنفسکم هو أعلم بمن اتقي). [2] .

وفي آشور وبابل لم يضع بني إسرائيل أعمدة الأسرة المختارة وإنما وضعوا أعمدة الشعب المختار الذي يدخر له الغيب أميرا مختارا يمتلکون به الأرض، وکانت الأرضية التي وضعوا عليها هذه الأعمدة قولهم: سيغفر لنا، ولکي يتفق هذا المدخل مع ما ارتکبوه من جرائم، نسبوا إلي الأنبياء ما لا يتفق مع عصمتهم ومکانتهم، بمعني أن الخطأ إذا وقع فيه الأنبياء. فإن من دونهم يلتمس له الأعذار، وبعد أن أدخلوا أنفسهم في دائرة المغفرة، أدخلوا أنفسهم في دوائر التبشير التي أخبر بها الأنبياء عن ربهم، بمعني إذا کان في بطن الغيب أمه اختارها الله لقيادة البشرية ادعوا أن الأمة أمتهم، وأن الأوصاف التي بينها الأنبياء تنطبق عليهم في بطن الغيب لکونهم شعب الله المختار. الذين ينفردون عن الناس ولهم أفضليتهم علي جميع المخلوقات في نظر الخالق، وبهذا وبغيره جعلوا الکتاب المقدس ينطق. بعد أن حرفوا النصوص وتأولوها. وبعد أن وضعوها في غير مواضعها.

وقولهم سيغفر لنا. أشار إليه قوله تعالي: (وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلک. وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون. فخلف من بعدهم خلف ورثوا الکتاب يأخذون عرض هذا الأدني ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الکتاب أن لا يقولوا علي الله إلا الحق..) [3] قال ابن



[ صفحه 92]



کثير: يذکر تعالي أنه فرقهم في الأرض طوائف وفرقا، فيهم الصالح وغير ذلک، واختبرهم بالرخاء والشدة والرغبة والرهبة والعافية والبلاء لعلهم يرجعون، فخلف من بعدهم خلف لا خير فيهم وقد ورثوا دراسة التوراة، لا يشرف لهم شئ من الدنيا إلا أخذوه حلالا کان أو حراما ويقولون سيغفر لنا. [4] .

وقال في الميزان: قولهم سيغفر لنا قول جزافي لهم قالوه، ولا معول لهم فيه إلا الاغترار بشعبهم الذي سموه شعب الله. کما سموا أنفسهم أبناء الله وأحباءه، ولم يقولوا ذلک لوعد النفس بالتوبة، ولا أنهم قالوا ذلک رجاء للمغفرة الإلهية، فليس ما تظاهروا به رجاءا صادقا بل أمنية نفسانية کاذبة، وتسويل شيطاني موبق، فمن کان يرجو لقاء ربه، فليعمل عملا صالحا ولا يشرک بعبادة ربه أحدا. [5] .

ومن باب قولهم سيغفر لنا فتحوا أبوابا قالوا عندها يوما: نحن أولياء الله من دون الناس، ويوما: نحن أبناء الله وأحبائه، ووضعوا هذه الأقوال داخل عقيدة تقول خطوطها العريضة: ليس علينا في الأميين سبيل، ومن هذا النسيج قاموا ببناء نظرية تفوقهم علي البشر وانفراديتهم عن الناس وأفضليتهم علي جميع المخلوقات في نظر الخالق، وانطلقوا وراء الأحبار يرددون القول بأنهم أمة فريدة تقف من الأمم موقف المختار الذي يتمتع بحقوق ليس لغيره، ولأنهم أمة فريدة فإن أمتهم عندما تموت تبعث من جديد، لأنها کالروح الحية للأشجار، وکالأم السماوية معطية اللبن لجميع المواليد ليؤمنوا بالعهد الألفي السعيد.

ومن الترديد وراء الأحبار انطلقوا إلي دائرة العمل، وخطوطها العريضة تقول: إن داوود إختاره الإله وعينه ملکا، ومملکة داوود هي



[ صفحه 93]



عنوان ودعاء عهد الإله لإبراهيم، وأورشاليم اختارها الله عاصمة لهذا الملک، وعلي الجميع أن يخضعوا لهذه المملکة ولعاصمتها، لأن التعبد لله لا ينفصل عن الدولة وعاصمتها، وإذا کانت الدولة قد اندثرت علي أيدي الغزاة، فإنها عندما اندثرت من علي الأرض ولدت من جديد داخل صدور بني إسرائيل، وعليهم أن يعملوا لبسط نفوذ الدولة وفقا لنظرية تفوقهم علي البشر وانفراديتهم عن الناس، حتي يأتي ابن داوود أمير السلام آخر الزمان. فهو وحده المسيح الذي سيعيد المجد لإسرائيل علي أرض الواقع، وعلي الجميع أن يخضع من اليوم لمملکته الأزلية ولعاصمتها أورشاليم.

وهکذا جعلوا الکرامة الإلهية سهلة التناول، وزعموا أن هذه الکرامة وضعت علي عاتق العنصر العبري. أکرمهم الله بها إکراما مطلقا من غير شرط ولا قيد، ولما کانت هذه الکرامة والسؤدد أمر جنسي خص بني إسرائيل، جعلوا الانتساب الإسرائيلي مادة الشرف وعنصر السؤدد. والمنتسب إلي إسرائيل له التقدم المطلق علي غيره، لأن هذه الروح الباغية إذا دبت في قالب قوم. بعثتهم إلي إفساد الأرض وإماتة روح الإنسانية وآثارها الحاکمة في الجامعة البشرية، بينت الرسالة الخاتمة علي نبيها الصلاة والسلام. أن الکرامة الإلهية ليست بذاک المبتذل السهل التناول. يحسبها کل محتال أو مختال کرامة جنسية أو قومية. بل يشترط في نيلها الوفاء بعهد الله وميثاقه والتقوي في الدين، فإذا تمت الشرائط حصلت الکرامة. وهي المحبة والولاية الإلهية التي لا تعدوا عباده المتقين، وأثرها النصرة الإلهية والحياة السعيدة التي تعمر الدنيا وتصلح بال أهلها وترفع درجات الآخرة، وبالجملة: إن الله تعالي لا يصطفي أحدا بالاستخلاف اصطفاءا جزافا. ولا يکرم أحدا إکراما مطلقا من غير شرط ولا قيد، والاستخلاف تحت سقف الامتحان والابتلاء يخضع لسنة الله الحاکمة. ومنها النقل والإقالة، ولا يخص الله



[ صفحه 94]



بحسن العاقبة إلا من يتقيه من عباده أينما وجدوا. ولقد رد القرآن الکريم علي بني إسرائيل ومن حذي حذوهم من النصاري قولهم بأفضليتهم علي البشر، فقال تعالي: (وقالت اليهود والنصاري نحن أبناء الله وأحباؤه. قل فلم يعذبکم بذنوبکم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء). [6] ورد علي بني إسرائيل قولهم بأنهم مغفور لهم. وأن مسيرتهم نحو أهدافهم مسيرة يتعبدون فيها لله، فقال جل شأنه (قل إن کانت لکم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن کنتم صادقين. ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين. ولتجدنهم أحرص الناس علي حياة ومن الذين أشرکوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة. وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون). [7] .

والخلاصة: لقد أخذت المسيرة الإسرائيلية بسنن الأولين، فأخذوا من عقائد البقر وعقائد الدماء النقية الأعمدة التي أقاموا عليها ديمومة الکرامة والحکم، والکتاب المقدس ينفي في أکثر من موضع مقولتهم بالدماء النقية. ويسجل أنهم سکنوا بين الأمم الوثنية واتخذوا بناتهم لأنفسهم نساء وأعطوا بناتهم لبنيهم. وعبدوا آلهتهم [8] وقال نحميا في سفره رأيت اليهود الذين ساکنوا نساء أشدوديات وعمونيات وموآبيات، ونصف کلام بينهم باللسان الأشدودي، ولم يکونوا يحسنون التکلم باللسان اليهودي، بل بلسان شعب وشعب [9] فکيف يکون نقاء الدم تحت سقف هذه الأصول وغيرها:؟.



[ صفحه 95]




پاورقي

[1] سورة النساء آية 49.

[2] سورة النجم آية 32.

[3] سورة الأعراف آية 168.

[4] تفسير ابن کثير 2 / 265.

[5] الميزان 298 / 8.

[6] سورة المائدة آية 18.

[7] سورة البقرة آية 94.

[8] القضاه 3 / 5 - 7.

[9] نحميا 13 / 22 - 5 2.