فتنة التأويل و التحريف


لا شک في أن تحريف الأصول السماوية عمود أساسي يقوم عليه فساد الدين الفطري، وهذا الفساد يهدد الإنسانية بالانهدام، لأن الفرد الذي يفسد دينه الفطري لا تتعادل قواه الحسية الداخلية. فيتبع القوي الخارجية التي تنسجم مع هواه وباتباعه لها يقوي جانبها في الصد عن سبيل الله، وتحريف المسيرة الإسرائيلية للکتاب ونسيانهم حظا من الدين وکذبهم علي الله بواسطة القصص التي قصوها علي الشعب، کل ذلک لا شک فيه واعترف به العهد القديم وعلماء الکتاب المقدس وأخبر به القرآن الکريم.

والتحريف کان لهدف. وهدفه ما استقر عليه القوم فيما يتعلق بشعب الله المختار، ففي اتجاه هذا الهدف أولوا ما ورد في النبي الخاتم (ص) من بشارات. ومن قبل أولوا ما ورد في المسيح ابن مريم عليه السلام. وقالوا: إن المسيح الموعود لم يجئ بعد وهم ينتظرون قدومه إلي اليوم، ليحکموا به الشعوب ويعود به ملک داوود عنوان ووعاء عهد الله لإبراهيم، ونظرا لأن الجرائم والآثام تحيط بالمسيرة الإسرائيلية. فإن التحريف رفع عن المسيرة هذا الحرج فنسبوا إلي الأنبياء ما لا يجوز في حقهم، فالأنبياء عندهم أول من سن عبادة العجول وأول من سن إقامة التماثيل وعبادة آلهة الأمم! وعلي هذه القاعدة فبما أنه لا يمکن أن تخرج نبيا من الأنبياء من تحت سقف الأنبياء. لارتکابه معصية بهذا الحجم. فکذلک لا يمکن أن تخرج الشعب من تحت سقف شعب الله المختار. لاتباعه ما سنه الأنبياء ولارتکابه الجرائم والمعاصي، وبالجملة: کان التحريف من أجل رفع حرج وقعت فيه المسيرة علي امتداد تاريخها، وکان من أجل هدف التقطته المسيرة من ديار العالم الخارجي. ثم أضفت عليه بعض المعالم



[ صفحه 96]



السماوية الباهتة ليکون له مشروعية القبول.

وشهادة العهد القديم في نسيان بني إسرائيل حظا مما ذکروا به، جاء علي لسان أرميا. قال: أما وحي الرب فلا تذکروه بعد. لأن کلمة کل إنسان وحيه إذ قد حرفتم کلام الإله الحي. [1] وقال في تحريفهم وکذبهم علي الله: کيف تقولون نحن حکماء وشريعة الرب معنا حقا إنه إلي الکذب حولها قلم الکتبة الکاذب. [2] وقال في ثقافة القص التي کذبوا علي الله ليکون للشذوذ قاعدة: الذين يأخذون لسانهم ويقولون قال - ها أنذا علي الذين يتنبأون بأحلام کاذبة، يقول الرب: الذين يقصونها ويضلون شعبي بأکاذيبهم ومفاخراتهم. وأنا لم أرسلهم ولا أمرتهم. فلم يفيدوا هذا الشعب فائدة. [3] .

أما شهادة علماء الکتاب المقدس. ومنهم المفسر (هارسلي) يقول: لا شک في تحريف الکتاب المقدس. في متنه وأصله. يدلنا علي ذلک اختلاف النسخ حيث الاختلاف آية الاختلاق. فقد أدخلت کلمات وقحة في المتون المطبوعة مما لا يناسب ساحة الوحي. [4] ويقول الدکتور (همفري): [5] إن تدخل الأوهام في العهد العتيق بين لحد يتضح للقارئ بأدني تأمل. إنهم قضوا علي البشارات المسيحية في العهد القديم). ويقول (کريزاستم): لقد انمحق الکثير من کتب الأنبياء.

حيث حرفتها اليهود علي غفلة وعلي عمد. فمزقوا البعض منها.



[ صفحه 97]



وحرفوا ما تبقي. [6] .

أما شهادة القرآن الکريم بأن أهل الکتاب حرفوا أو نسوا حظا مما ذکروا به. فلقد جاءت في أکثر من آية. منها قوله تعالي: (من الذين هادوا يحرفون الکلم عن مواضعه). [7] ففي هذه الآية وصف تعالي هذه الطائفة بتحريف الکلم عن مواضعه. وذلک إما بتغيير مواضع الألفاظ بالتقديم والتأخير والإسقاط والزيادة. وإما بتفسير ما ورد عن موسي عليه السلام وعن سائر الأنبياء بغير ما قصد منه من المعني الحق، وقوله تعالي: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الکلم عن مواضعه ونسوا حظأ مما ذکروا به) [8] قال في الميزان: إن أهل الکتاب إنما ابتلوا بما ابتلوا له لنسيانهم ميثاق الله سبحانه، ولم يکن إلا ميثاقا بالإسلام لله، وکان لازم ذلک أن يتقوا مخالفة ربهم ويتخذوه وکيلا في أمور دينهم يختارون ما يختاره لهم، ويترکون متابعة غير الله ورسله، لکنهم نبذوا الميثاق وراء ظهورهم فأبعدوا من رحمة الله، وحرفوا الکلم عن مواضعه وفسروها بغير ما أريد بها، فأوجب ذلک أن نسوا حظا من الدين ولم يکن إلا حظا وسهما يرتحل بارتحاله عنهم کل خير وسعادة، وأفسد ذلک ما بقي بأيديهم من الدين، فإن الدين مجموع من معارف وأحکام مرتبط بعضها ببعض يفسد بعضه بفساد بعض آخر، سيما الأرکان والأصول. [9] .

وإفسادهم للدين الفطري يتضح للقارئ بمجرد أن يتأمل عقيدتهم في الله ورسله عليهم السلام، فالتحريف جعل التوراة تشتمل



[ صفحه 98]



علي أمور في التوحيد لا يصح إسنادها إلي الله تعالي. کالتجسيم والحلول في المکان ونحو ذلک، ونسب ما لا يجوز العقل نسبته إلي الأنبياء الکرام من أنواع الکفر والفجور والزلات، وهذا المنهج إذا إختلط بعقيدة سماوية أفسد ما بقي منها، ويقول د. جوستاف لوبون عن عقيدة اليهود: في وادي الفرات وفي مصر نشأت ديانة بني إسرائيل. أو علي الأصح مختلف العبادات التي مارسها بنو إسرائيل، وذلک بين إقامتهم بفلسطين وعودتهم من السبي، حتي أن أسماء آلهتهم تدل علي أصلها، وليست الآلهة الکبري الشهوانية عشتروت التي کان العبريون يعبدونها. إلا زهراء فينوس بابل عشتار.. وحتي في دور السبي کان شعب إسرائيل قد بلغ من الغرق في الاشراک. ما کان يتعذر معه عزيمة ملک أو خطب نبي تخليصه منه.. ودام دين اليهود القائل بتعدد الآلهة بعباداته الکثيرة وطقوسه المتنوعة وأساطيره المتکاتفة. [10] وقال د.

جوستاف لوبون عن عقيدة اليهود بعد دور السبي: لم يعبد بنو إسرائيل إلها يمکن أن يکون رب الأمم الأخري، ثم يصل د. لوبون إلي نتيجة مفادها: لم تکن الديانة اليهودية في کل زمن. مطابقة لما نسميه اليوم باليهودية. ولا شبه بين إله اليهود الراهن وإله سيناء يهوه. فبنو إسرائيل کانوا يعبدون ألوهيمات في أثناء حياتهم البدوية التي قضتها أجيالهم الأولي. ولذلک لا ينبغي أن يطلب من هذا الشعب البسيط تعريف وثيق لموضوع عبادته. [11] .

أما ما نسبوه إلي الأنبياء الکرام من أنواع الکفر والفجور، فکان الهدف منه تبرير أخطاء المسيرة، بمعني أنهم إذا أجازوا علي الأنبياء الوقوع في الزلات، تلتمس الأعذار لمن دونهم إذا وقعوا فيها أو في



[ صفحه 99]



أشد منها، وإذا کان التحريف قد قطع شوطا کبيرا في نسبة الزلات إلي الأنبياء، إلا أن القارئ للعهد القديم يقع في حيرة عندما يجد نصوص أخري تمتدحهم، وتزول الحيرة إذا علمنا أن القوم اعتمدوا في حرکتهم علي أشد الأمور فتکا وإثارة للفتنة، وهو تلبيس الحق بالباطل، ليکون عندهم لکل سؤال جواب.

فهارون عليه السلام. أشارت التوراة إلي تطهيره من المعاصي.

واختيار الله له ليکون مفسرا للشريعة، وغير ذلک من الأمور التي تبين وقع أقدامه علي الطريق المستقيم، [12] وفي مقابل هذا ذکرت التوراة أن هارون هو الذي أقام العجل لبني إسرائيل وبني مذبحه، يقول العهد القديم فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائکم وبنيکم وبناتکم وأتوني بها، فنزع کل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها هارون، فأخذ ذلک من أيديهم. وصوره بالأزميل.

وصنعه عجلا مسبوکا. فقالوا هذه آلهتک يا إسرائيل التي أصعدتک من أرض مصر، فلما نظر هارون بني مذبحا أمامه! [13] لم يشيروا إلي السامري الذي أضلهم وجاء ذکره في القرآن الکريم. لأن موقع السامري لا يرفع عن المسيرة حرج.

وفي موضع آخر من العهد القديم. افتروا علي موسي وهارون عليهما السلام بفرية العصيان، ومن هذا: فقال الرب لموسي وهارون من أجل أنکما لم تؤمنا بي حتي تقدساني أمام أعين بني إسرائيل. لذلک لا تدخلان هذه الجماعة إلي الأرض التي إعطيتهم إياها. [14] وفي موضع آخر نري نصا يقول بأن الله کان يأمر وموسي يطيع، وکان الله معه في



[ صفحه 100]



کل خطواته، لقد قالوا ليوشع بن نون عندما قاتلوا معه کل ما أمرتنا به نعمله وحيثما ترسلنا نذهب. حسب کل ما سمعنا لموسي نسمع لک.

إنما الرب إلهک يکون معک کما کان مع موسي. [15] .

وتناول العهد القديم سيرة سليمان عليه السلام، وبينما نجد نصوصا تمتدحه، نجد نصوصا أخري تنسب إليه الزلات، فالنصوص التي امتدحته بينت کيف کان يحذرهم من مخالفة أوامر الله، وعندما قدم العهد القديم أمثال سليمان صدرها بقوله: أمثال سليمان بن داوود ملک إسرائيل. لمعرفة حکمة وأدب. لإدراک أقوال الفهم. لقبول تأديب المعرفة والعدل والحق والاستقامة. لتعطي الجهال ذکاء والشاب معرفة وتدبرا. يسمعها الحکيم فيزداد علما. والفهم يکتسب تدبيرا. لفهم المثل واللغز. أقوال الحکماء وغوامضهم. مخافة الرب رأس المعرفة [16] وتقابل هذه النصوص نصوص أخري منها قولهم: وأحب سليمان نساء غريبة کثيرة مع بنت فرعون. موآبيات وعمونياث وأدوميات وصيدونيات وحيثيات. من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل لا تدخلوا إليهم وهم لا يدخلون إليکم. لأنهم يميلون قلوبکم وراء آلهة أخري. فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة. [17] وقال العهد القديم إن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخري [18] وقال فذهب سليمان وراء عشتروت آلهة الصيدونيين [19] وقال بني سليمان مرتفعة لکموش رجس الموآبيين [20] وقال وهکذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي کن يوقدن ويذبحن



[ صفحه 101]



لآلهتهن. [21] فمن هذه النصوص أخذوا تبريرا لاتجاه مسيرتهم نحو الآلهة المتعددة، ومن نص آخر أخذوا تبريرا للأسباب التي أدت إلي تمزيق مملکة سليمان إلي مملکتين، يقول فقال الرب لسليمان من أجل أن ذلک عندک، ولم تحفظ عهدي وفرائضي التي أوصيتک بها. فإني أمزق المملکة عندک تمزيقا. [22] .

وبوقود التحريف ظهرت التربية الغير رشيدة. التي أثرت علي سلوک المسيرة وشعورها وأفرغت عليها طابعا خاصا فيما بعد.


پاورقي

[1] أرميا 23 / 36.

[2] المصدر السابق 8 / 8.

[3] المصدر السابق 23 / 31.

[4] تفسيره في مقدمة کتاب يوشع 282 / 3 نقلا من کتاب المقارنات / د. الصادقي ص 89.

[5] کتاب همفري ص 17، 18، ط سنة 1841 نقلا من کتاب المقارنات ص 90.

[6] تفسيره التاسع علي إنجيل متي نقلا من کتاب المقارنات ص 91.

[7] سورة النساء آية 46.

[8] سورة المائدة آية 13.

[9] الميزان 239 / 5.

[10] اليهود في الحضارات الأولي / جوستاف لويون ص 58 وما بعدها.

[11] المصدر السابق ص 62 وما بعدها.

[12] أنظر سفر العدد 18 / 1، 19 / 1 والخروج 29 / 1 - 30.

[13] الخروج 32 / 2 - 6.

[14] عدد 12 / 20.

[15] يوشع 16 / 1.

[16] أمثال 1 / 1 - 7.

[17] ملوک أول 11 / 1.

[18] المصدر السابق 11 / 5.

[19] المصدر السابق 11 / 6.

[20] المصدر السابق 11 / 7.

[21] المصدر السابق 11 / 8.

[22] المصدر السابق 11 / 12.