الطريق إلي المسيح


ذکر العديد من المحققين أن اليهود في عهد السبي. انخرطوا في المجتمع. وبالذات أن بابل کانت من أغني المناطق في بلاد ما بين البحرين، وهذا أتاح لهم العمل في الزراعة والتجارة والأعمال الخاصة، وفي النهاية أصبحوا مواطنين عاديين داخل الدولة يتمتعون بکافة الحقوق السياسية والاجتماعية، وعندما زالت دولة بابل وظهرت الدولة الفارسية التي خضعت لسيطرتها دول المنطقة، استفاد اليهود من سياسة الملک الفارسي (قورش). وکانت المبادئ العامة لهذه السياسة إعادة السکان المبعثرين حول نهر دجلة والفرات إلي أوطانهم، فهذه السياسة أحيت الأمل لدي اليهود في بابل في العودة مرة أخري إلي فلسطين، وبدأت الزعامة الدينية في الظهور تصنع الأحداث وتقود المسيرة، وذکر العديد من المحققين أن اليهود کانوا في قديم الزمان يسمون فقهاءهم بالحکماء، نظير تعليمهم الشعب القانون الشفهي وإشرافهم عليه، وکان



[ صفحه 110]



لهؤلاء الحکماء من المدارس في بابل والمدائن والشام. ما لم يکن لأحد من الأمم مثله، وکان لهم في العصر الواحد کثير من الحکماء. في زمان دولة النبط البابليين والفرس ودولة اليونان ودولة الروم.

وبعد أن أحيت سياسة الملک الفارسي قورش الأمل في نفوس اليهود، اتفق السامريون والعبرانيون علي إعادة کتابة التوراة في بابل، وشکل العلماء لجنة لهذا الغرض برآسة (عزرا)، وقد جمعت هذه اللجنة معلومات من التاريخ القديم للمسيرة الإسرائيلية. ومعلومات أرادوا إدخالها علي النصوص الأصلية، [1] وقبل أن تکمل هذه اللجنة عملها.

صدر الأمر الفارسي لليهود بالرجوع إلي أرض کنعان، ويقول أبو الحسن السامري في تاريخه: إن الفارسيين لما سمحوا لليهود بالعودة. طلبوا منهم أن يتحدوا تحت رآسة واحدة. وتکون لهم عاصمة واحدة ليسهل التعامل معهم، فانقسم اليهود. وأصر يهود السامرة أن تکون الرآسة فيهم. وأن يکون هيکلهم في نابلس، وأصر يهود أورشاليم أن تکون الرآسة فيهم. وبکون هيکلهم مکان الهيکل القديم، واشتد العداء بين الفريقين وسجل العهد القديم هذا العداء. عندما شرعوا في بناء الهيکل في أورشاليم. [2] .

وبدأت خطوات المسيرة للقافلة الإسرائيلية بإعادة بناء الهيکل تحت حکم زربابل [3] (538 ق. م) ثم بدأ ما سمي بعصر الاصلاح تحت حکم عزرا [4] (458 ق. م) ثم قام نحميا ببناء السور [5] .



[ صفحه 111]



(445 ق. م) وانتهت مسيرة العهد القديم بسفر النبي ملاخي، [6] وکانت هناک فترة صمت لا يوجد فيها عهود جديدة. وقررت هذه الفترة بأربعمائة عام. ثم جاء العهد الجديد. [7] والشواهد الکتابية للمسيرة الإسرائيلية (من 538 - ق. م) تنحصر في أسفار: عزرا، نحميا، استير، حبقون، زکريا، ملاخي، بالإضافة إلي رؤيا دنيال وما أخبر به حزقيال، وبالنظر في حرکة المسيرة من خلال هذه الشواهد الکتابية، يجد الباحث أن المسيرة بدأت حرکتها بالاختلاف. وعلي هذا الاختلاف ظهرت توراة سامرية تقول أن القبلة في جبل (جزريم)، وأخري عبرانية تقول بأنها في جبل (عيبال)، وقال يهود السامرة أن المسيح المنتظر من سبط يوسف بن يعقوب، بينما قال أورشاليم أنه من سبط داوود.

وإذا أردنا أن نحکم علي المسيرة من خلال الشواهد الکتابية، نجد (نحميا) يقول عند المقدمة: في تلک الأيام رأيت في يهوذا قوما يدوسون معاصر في السبت... فخاصمت عظماء يهوذا وقلت لهم: ما هذا الأمر القبيح الذي تعملونه وتدنسون يوم السبت. ألم يفعل آباؤکم هکذا فجلب إلهنا علينا کل هذا الشر وعلي هذه المدينة، وأنتم تريدون غضبا علي إسرائيل إذ تدنسون السبت. [8] ويقول في تلک الأيام أيضا رأيت اليهود الذين ساکنوا نساء أشدوديات وعمونيات وموآبيات، ونصف کلام بنيهم باللسان الأشدودي، ولم يکونوا يحسنون التکلم باللسان اليهودي، بل بلسان شعب وشعب، فخاصمتهم ولعنتهم. [9] .



[ صفحه 112]



أما عند النهاية. نجد في (ملاخي) الذي بسفره ينتهي العهد القديم، نجد إدانة واضحة للمسيرة ولقيادتها، قال: قال لکم رب الجنود: أيها الکهنة المحتقرون اسمي. وتقولون: بم احتقرنا اسمک؟

تقربون خبزا نجسا علي مذبحي وتقولون بم نجسناک. [10] ويقول والآن إليکم هذه الوصية أيها الکهنة. إن کنتم لا تسمعون ولا تجعلون في القلب لتعطوا مجدا لإسمي، قال رب الجنود: فإني أرسل عليکم اللعنة وألعن برکاتکم، بل قد لعنتها لأنکم لستم جاعلين في القلب. [11] وقال لهم: قال رب الجنود: من فيکم يغلق الباب بل لا توقدون علي مذبحي مجانا، ليست لي مسرة بکم. قال رب الجنود: ولا أقبل تقدمة من أيديکم. [12] .

وهکذا رأينا عند المقدمة کيف انحرفت المسيرة، ثم رأينا عند النتيجة کيف ضربها اللعن، وفي سفر (ملاخي) وهو آخر أسفار العهد القديم، نجد أن السفر بين للمسيرة قيادة الهدي التي يختتم بها الله المسيرة الإسرائيلية، وبشر بقيادة الهدي التي يختتم بها الله المسيرة البشرية، وفي تحديد قيادة الهدي للمسيرة الإسرائيلية، بين أن الباب الذي فتحه الله في سبط (لاوي). وجاء منه موسي وهارون وبنوه، هو نفس الباب الذي يأتي منه آخر قيادة هدي للمسيرة الإسرائيلية، لتنتقل القيادة بعد ذلک في اتجاه شعب آخر وأرض جديدة. قال (ملاخي) في قيادة الهدي التي ينبني علي المسيرة انتظارها: إني أرسلت إليکم هذه الوصية ليکون عهدي مع لاوي قال رب الجنود: کان عهدي معه للحياة والسلام، وأعطيته إياهما للتقوي فاتقاني، ومن اسمي ارتاع هو، شريعة



[ صفحه 113]



الحق کانت في فيه، والإثم لم يوجد في شفتيه، سلک معي في السلام والاستقامة وأرجع کثيرين عن الإثم، لأن شفتي الکاهن تحفظان معرفة ومن فمه يطلبون الشريعة، لأنه رسول رب الجنود، أما أنتم فحدتم عن الطريق وأعثرتم کثيرين بالشريعة، أفسدتم عهد لاوي، فأنا أيضا صيرتکم محتقرين ودنيئين عند کل شعب. کما إنکم لم تحفظوا طرقي بل حابيتم في الشريعة. [13] .

من هذه النصوص نجد أن (ملاخي) ذکرهم بالبداية التي عندها نصب الله هارون کاهنا للشريعة وجعلها من بعده في بنيه، وهؤلاء هم ذروة سبط لاوي، ثم بين لهم أن عهد الله مع هؤلاء وليس مع غيرهم، فغيرهم حاد عن الطريق وأفسد في الأرض، ثم أخبرهم بأن الله سيرسل إليهم واحد من هذا السبط ليسوق قاعدة السبط ومن ورائها بقية الأسباط، ها أنذا أرسل ملاکي فيهئ الطريق أمامي. ويأتي بغتة إلي هيکله السيد الذي تطلبونه وملاک العهد الذي تسرون به، وهو ذا يأتي، قال رب الجنود: ومن يحتمل يوم مجيئه. ومن يثبت عند ظهوره. لأنه مثل نار المحص ومثل أشنان القصار، فيجلس ممحصا ومنقيا للفضة، فينقي بني لاوي ويصفيهم کالذهب والفضة. ليکونوا مقربين للرب تقدمة بالبر، فتکون تقدمة يهوذا وأورشاليم مرضية للرب. کما في أيام القدم وکما في السنين القديم. [14] .

وبعد أن أشار السفر إلي بعثة آخر الأنبياء في سبط لاوي، وهو المسيح عيسي بن مريم کما سنبين في موضعه، تحدث عن اليوم المخوف الذي ينهي المسيرة البشرية، وأخبرهم بأن الله قبل هذا اليوم.

سيبعث إلي البشرية النبي (إيليا) ومهمته هي فتح أبواب الرحمة. قبل أن



[ صفحه 114]



يضرب الله المستکبرين وکل فاعلي الشر ويحرقهم، قال: فهوذا يأتي اليوم المتقد کالتنور، وکل المستکبرين وکل فاعلي الشر يکونون قشا، ويحرقهم اليوم الآتي. قال رب الجنود: فلا يبقي، لهم أصلا ولا فرعا، ولکم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها. ثم قال هأنذا أرسل إليکم إيليا النبي قبل مجئ يوم الرب اليوم العظيم والمخوف، فيرد قلب الآباء علي الأبناء وقلب الأبناء علي آبائهم، لئلا آتي وأضرب الأرض بلعن. [15] .

وإيليا النبي. وضعه اليهود وفقا لعلم حساب الحروف، ومجموع هذا الاسم يشير إلي اسم النبي الخاتم صلي الله عليه وآله وسلم. الذي يختتم به الله المسيرة البشرية. [16] .

وبهذه الخاتمة انتهي العهد القديم ليبدأ العهد الجديد، الذي يتحدث عن المسيح عيسي بن مريم عليهما السلام.


پاورقي

[1] نقد التوراة / د. حجازي السقا ص 74.

[2] أنظر عزرا إصحاح 4، 5.

[3] المصدر السابق 2 / 2.

[4] المصدر السابق 7 / 13.

[5] نحميا 2 / 1 - 9.

[6] مفاتيح الأسفار الإلهية ص 45.

[7] المصدر السابق ص 45.

[8] نحميا 13 / 15 - 18.

[9] المصدر السابق 13 / 22 - 5 2.

[10] ملاخي 1 / 6.

[11] المصدر السابق 2 / 1 - 3.

[12] المصدر السابق 1 / 9 - 11.

[13] ملاخي 2 / 4 - 9.

[14] المصدر السابق 3 / 1 - 5.

[15] المصدر السابق 4 / 1 - 6.

[16] أنظر کتاب بشارة نبي الإسلام / د. حجازي السقا.