التقدم الي الخلف


أخبر المسيح عليه السلام تلاميذه بأنهم سيضطهدون وسيطردون خارج المجامع. وإنه سيأتي وقت يظن فيه من يقتلهم أنه يؤدي خدمة لله [1] وفي آخر الدعوة قال المسيح لتلاميذه حين أرسلتکم بلا صرة مال ولا کيس زاد ولا حذاء. هل احتجتم إلي شئ. فقالوا: لا فقال لهم: أما الآن فمن عنده صرة مال فليأخذها وکذلک من عنده حقيبة زاد. ومن ليس عنده فليبيع رداءه ويشتر سيفا [2] لقد کان عليه السلام يعدهم للدفاع عن أنفسهم. وکما نزل الستار علي أبناء هارون من بعد موسي وهارون. وهم الذين عينتهم الدعوة الإلهية لتفسير الشريعة، وکما ضاعت أصواتهم في ساحات الضوضاء والغوغاء فلم تري معالمهم في السطور التي احتوتها الأصول، کذلک نزل الستار علي تلاميذ المسيح عليه السلام من بعد رفع المسيح، وضاعت أصواتهم علي موائد المجامع. ولم تکن لهم معالم في سطور القرارات التي أصدرتها المجامع عبر تاريخها. ولم يعرف من سيرة تلاميذ المسيح عليه السلام إلا ما أخبرت به الدعوة الإلهية الخاتمة. روي أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال کونوا کأصحاب عيسي. نصبوا علي الخشب ونشروا بالمناشير. موت في طاعة خير من حياة في معصية [3] وبعد اضطهاد الأصحاب جاء العصر الذي اضطهد فيه الأتباع



[ صفحه 186]



والذين علي أثر المسيح. قال تعالي: (قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود. إذ هم عليها قعود وهم علي ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد...). [4] قال المفسرون:

قيل: کان الأخدود بنجران. وکان بها بقايا قوم علي دين عيسي بن مريم، وأراد ملک من ملوک حمير کان قد تهود أن يحملهم علي اليهودية ويدخلهم فيها، فجمع من کان بنجران علي دين المسيح ثم عرض عليهم دين اليهودية، فأبوا عليه واختاروا القتل. فاتخذ لهم أخدودا وجمع فيه الحطب وأشعل فيه النيران. فمنهم من أحرق بالنار ومنهم من قتل بالسيف، وقوله تعالي: (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله..) أي ما کرهوا من أولئک المؤمنين إلا إيمانهم بالله. فأحرقوهم لأجل إيمانهم. وقيل: أن لأصحاب الأخدود وقائع متعددة وقعت بالحبشة واليمن والعجم والإشارة في الآية إلي جميعها. وذکر ابن کثير أنه في زمن قسطنطين. ألقي النصاري الذين کانوا علي دين المسيح عليه السلام في أخدود وقتلوا جميعا بالنار. [5] ومن الثابت أن قسطنطين هو الذي دعا إلي مؤتمر نيقية عام 325 م. وهو الذي اعتمد قانون الإيمان النصراني الذي يقول بألوهية المسيح. کما سنبين في موضعه.

وبالجملة: تم اضطهاد وقتل الذين سلکوا سبيل عيسي عليه السلام. ونزل عليهم الستار کما نزل من قبل علي أبناء هارون في صدر المسيرة الإسرائيلية. ورغم نزول الستار إلا أن آثار أقدامهم واضحة علي امتداد الطريق. لأنها أصل من أصول الدعوة يقام به الحجة علي کل من يتدبر في الأصول. وهذا الأصل يقود إلي الدعوة الخاتمة التي جعلها الله حجة علي البشرية جمعاء.



[ صفحه 187]



بعد حرق الذين آمنوا بالله العزيز الحميد. ظهرت أول رسائل في اللاهوت المسيحي. جاء في تاريخ الکنيسة إن أقدم رسالة في اللاهوت المسيحي مصدرها بولس [6] وهذا يعني أن العمود الفقري للنصرانية التي تقول بلاهوت المسيح يعود وضع خميرته ورعاية أعمدته إلي بولس، ويعني أيضا أن المسيرة النصرانية انطلقت منذ ذلک الحين بوقود بولس. بعد أن أقيمت عليهم الحجة علي امتداد المسيرة الإسرائيلية وحتي زمن المسيح عليه السلام. بأنه لا إله إلا الله، وإنه سبحانه الأول والآخر والظاهر والباطن، وله وحده ميراث السماوات والأرض وجميع موجودات العالم تنتهي في وجودها وآثارها إليه جل شأنه.

ولما کان بولس تعود إليه الخميرة الأولي للمسيرة المسيحية الحاضرة، فإن البحث يقضي بضرورة إلقاء بعض الضوء عليه وعلي اجتهاداته. فيما يتعلق بالعمل بالشريعة الموسوية والتبشير بالنبي الخاتم صلي الله عليه وسلم، علي إعتبار أن دعوة المسيح عليه السلام کانت تقوم علي هذين الاتجاهين.


پاورقي

[1] أنظر: يوحنا 16 / 1 - 3.

[2] لوقا 22 / 35 - 37.

[3] رواه ابن عساکر عن ابن مسعود. والطبراني عن معاذ (کنز العمال 216 / 1).

[4] سورة البروج آية 4 - 8.

[5] ابن کثير في تفسيره 495 / 4.

[6] تاريخ الکنيسة / لويرم ص 83.