البيان و الانذار


أقامت الدعوة الإلهية الخاتمة حجتها علي أهل الکتاب، وبينت لهم أن الله تعالي منذ بعث نوح عليه السلام لم يرسل بعده رسولا ولا نبيا إلا من ذريته، وکذلک إبراهيم عليه السلام لم ينزل من السماء کتابا ولا أرسل سبحانه رسولا ولا أوحي إلي بشر من بعده إلا وهو من سلالته، قال تعالي: (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والکتاب) [1] وبينت الدعوة الخاتمة أن جميع الأنبياء يدعون إلي عبادة الله وحده لا شريک له، قال تعالي (وما أرسلنا من قبلک من



[ صفحه 223]



رسول إلا نوحي إليه إنه لا إله إلا أنا فاعبدون). [2] وإن إبراهيم عليه السلام لم يدع غيره ولا أشرک به طرفة عين، وتبرأ من کل معبود سواه، ومن ترک طريقة إبراهيم عليه السلام يکون قد ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بترکه الحق إلي الضلال، وبينت الدعوة أن إبراهيم عليه السلام وصي بنيه بالإسلام وبنيه وصوا أبناءهم به من بعدهم، قال تعالي: (ووصي بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفي لکم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، أم کنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهک وإله آبائک إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون). [3] .

وبينت الدعوة الخاتمة بأنها تؤمن بکل نبي أرسل، وأخبرت أن کل من سلک طريقا سوي ما شرعه الله فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، قال تعالي لرسوله (ص) (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل علي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسي وعيسي والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. ومن يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)، [4] وأعلنت الدعوة من يومها الأول أنها علي ملة إبراهيم عليه السلام قال تعالي: (ثم أوحينا إليک أن إتبع ملة إبراهيم حنيفا)، [5] وقال جل شأنه لرسوله (ص) (قل إنني هداني ربي إلي صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما کان من المشرکين. قل إن صلاتي ونسکي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريک له وبذلک أمرت وأنا أول المسلمين). [6] .



[ صفحه 224]



لقد بينت الدعوة الإلهية الخاتمة للبشرية العقيدة الحقة، وأقامت الحجة علي أهل الکتاب ليتفکروا وليتدبروا. ليعلموا أن دين إبراهيم برئ من جميع العقائد التي عليها بصمات العجول وآلهة الأمم المتعددة، وأن دين إبراهيم لا علاقة له بعقائد التثليث وألوهية المسيح، ولم تکن مهمة إبراهيم عليه السلام في يوم من الأيام هي البحث عن الميراث من النيل إلي الفرات، وإنما کان عليه السلام إماما للناس، يقتدون به ويتبعونه في أقواله وأفعاله، وهذه الإمامة لا ينالها ظالم من ولده، لأن الله لا يجعل الظالمين أئمة ولا يعطي الإمامة لعدوه. لأن هؤلاء يأتون کنتيجة لأعمال الظالمين من الناس، والله تعالي رؤوف بالعباد، والناس تحت مظلة الاختبار يمتحنون، فمن سلک طريقا علي ذروته إمام للرحمة والعدل. وصل إلي غايته، ومن سلک طريقا علي ذروته إمام يدعو إلي النار، دخل فيها.

وعلي امتداد عهد البعثة الخاتمة، بين الرسول الأعظم محمد صلي الله عليه وآله وسلم، أن شريعته تنهي عن الفحشاء والمنکر وتأمر بالمعروف، وتحذر من البغي والاستکبار والاختلاف، وتنادي بالعدل والإحسان والاستقامة، وتدعو إلي العمل الصالح والتفکر والتدبر والإصلاح والإخلاص، وإن منهج الدعوة عموده الفقري هو التوحيد، وشجرته الأخلاق الفاضلة، إلي غير ذلک من الأوامر والنواهي.

وعلم أهل الکتاب وغيرهم أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده. وقال تعالي: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)، [7] ولقد أختبر الله تعالي الفرع الإسرائيلي من الشجرة الإبراهيمية. وبعث فيهم الأنبياء والرسل لينظر سبحانه کيف تعمل القافلة، وعلم أهل الکتاب کيف سارت القافلة. وبماذا حکم الله عليها.



[ صفحه 225]



وهذا الحکم يقرؤه فيما بين أيديهم من التوراة الحاضرة، ومنه قول الرب لهم ها أنذا أنساکم وأرفضکم من أمام وجهي أنتم والمدينة التي أعطيتکم وآبائکم إياها. وأجعل عليکم عارا أبديا وخزيا أبديا لا ينسي، [8] وقال: هوذا من أجل آثامکم بعتم. ومن أجل ذنوبکم طلقت أمکم، [9] وبين هذا الحکم وبين البعثة الخاتمة. قتلوا الأنبياء الذين بعثهم الله لإقامة الحجة علي الأجيال المتعاقبة، وعندما جفت المسيرة من الماء. بعث النبي الخاتم صلي الله عليه وآله وسلم ليختبر الله تعالي بمنهجه أمة جديدة في مقدمة عالم جديد.

وببعثة النبي الخاتم. حکمت الدعوة الإلهية حکمها الفصل علي قصة الميراث. التي سهر عليها بني إسرائيل ليلا طويلا، وذلک ببسط الدعوة يدها علي المسجد الحرام والمسجد الأقصي في رحلة واحدة في ليلة واحدة، قال تعالي: (سبحان الذي أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي الذي بارکنا حوله)، [10] فالميراث بدأت حدوده من موضع سجود. وانتهت إلي موضع سجود، وهو ممتد إلي کل موضع سجود، وليس معني هذا أن الدعوة الخاتمة تبحث عن الأرض والطين، وإنما معناه أنها ترعي التقوي في أي مکان وتعمل من أجل الاصلاح في کل مکان، ترعي التقوي لأن العاقبة للمتقين، وتعمل من أجل الاصلاح حتي يرث الصالحون، قال تعالي: (ولقد کتبنا في الزبور من بعد الذکر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون). [11] .

ولأن الدعوة تقوم علي التوحيد، ولأن التوحيد هو الحصن



[ صفحه 226]



الحصين الذي يحفظ الإنسان من الزلل، قال رسول الله (ص) والذي نفس محمد بيده. لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به. إلا کان من أصحاب النار، [12] وروي أنه (ص) ذهب إلي يهود. وقال لهم يا معشر يهود أسلموا تسلموا فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم. فقال أسلموا تسلموا فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم فقال ذلک أريد (أي: أريد أن تعرفوا أني بلغت) ثم قال لهم إعلموا إنما الأرض لله ولرسوله، وإني أريد أن أجليکم من هذه الأرض، فمن وجد منکم بماله شيئا فليبعه، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ورسوله [13] فالرسول (ص) بلغ بالإسلام، ولکن القوم کانت عيونهم علي الأرض والطين، لأنهم من أجل هذا الميراث يعملون، فوقفوا بما يعتقدون أمام القول الفصل وهو إعلموا أن الأرض لله ورسوله. ولم يکن الجلاء من جزيرة العرب عقابا وحيدا للذين يصدون عن سبيل الله، وإنما أنذرهم الله بعقاب أليم في الحياة الدنيا والآخرة، قال تعالي: (يا أيها الذين أوتوا الکتاب آمنوا بما أنزلنا مصدقا لما معکم من قبل أن نطمس وجوها علي أدبارها. أو نلعنهم کما لعنا أصحاب السبت وکان أمرا مفعولا). [14] قال في الميزان: دعاهم الله تعالي إلي الإيمان بالکتاب الذي نزله مصدقا لما معهم، وأوعدهم بالسخط الذي يلحقهم لو تمردوا واستکبروا من طمس أو لعن يتبعانهم اتباعا لا ريب فيه، وطمس الوجوه محو هذه الوجوه التي يتوجه بها البشر نحو مقاصدهم الحيوية مما فيه سعادة الإنسان المرتقبة والمرجوة، وهذا المحو ليس هو المحو الذي يوجب فناء الوجوه وزوالها، بل محو يوجب ارتداد تلک الوجوه علي أدبارها، فإذا کانت الوجوه تقصد مقاصدها علي الفطرة التي فطر الله



[ صفحه 227]



الناس عليها، فإن الوجوه المطموسة لا تقصد إلا ما خلفته وراءها ولا تمشي إليه إلا القهقري، وهذا الإنسان الذي يسير في غير اتجاه الفطرة کلما توجه إلي ما يراه خيرا لنفسه وصلاحا لدينه ودنياه لم ينل إلا شرا وفسادا، وکلما بالغ في التقدم زاد في التأخر وليس بفالح أبدا، وقوله تعالي: (نطمس وجوها) فيه أنه تعالي أتي بالجمع المنکر، ولو کان المراد الجميع لم ينکر، ولتنکير الوجوه وعدم تعيينها هدف من ورائه حکمة، هي أن المقام لما کان مقام الإبعاد والتهديد وهو إبعاد للجماعة بشر لا يلحق إلا ببعضهم، کان إبهام الأفراد الذين يقع عليهم السخط الإلهي أوقع في الانذار والتخويف، لأن وصفهم علي إبهامه يقبل الانطباق علي کل واحد من القوم، فلا يأمن أحدهم أن يمسه هذا العذاب. [15] .


پاورقي

[1] سورة الحديد آية 21.

[2] سورة الأنبياء آية 25.

[3] سورة البقرة آية 131.

[4] سورة آل عمران آية 162.

[5] سورة النحل آية 123.

[6] سورة الأنعام آية 162.

[7] سورة الأعراف آية 128.

[8] أرميا 23 / 40.

[9] أرميا 17 / 2 - 4.

[10] سورة الإسراء آية 1.

[11] سورة الأنبياء آية 105.

[12] رواه مسلم (الصحيح 93 / 1).

[13] رواه مسلم (الصحيح 159 / 5).

[14] سورة النساء آية 47.

[15] الميزان 367 / 4.