الخفوت و الظهور


وکان من آثار عدم الرواية. التعتيم علي أهل البيت، وذلک لأن الأمر بحرق الکتب. أطاح بالعديد من الأحاديث التي تبين منزلة أهل البيت ومناقبهم، ويشهد ذلک ما رواه الخطيب البغدادي عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: جاء علقمة بکتاب من مکة أو اليمن.

صحيفة فيها أحاديث في أهل بيت النبي (ص)، فاستأذنا علي عبد الله، فدخلنا عليه فدفعنا إليه الصحيفة، فدعا الجارية ثم دعا بطست فيها ماء، فقلنا له: يا أبا عبد الرحمن انظر فيها. فإن فيها أحاديث حسانا، فجعل يميثها في الماء، ويقول (نحن نقص عليک أحسن القصص بما أوحينا إليک هذا القرآن) القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن. ولا تشغلوها بما سواه. [1] .

ويشهد بذلک أن عليا عندما تولي الخلافة لم يکن السواد الأعظم يعلم عن منزلته ومناقبه شيئا، حتي أنشد بالله کل امرئ مسلم سمع النبي (ص) يقول من کنت مولاه فعلي مولاه أن يقوم. وکان قد جمعهم في الرحبة. ولم يعرف العوام مناقبه إلا من خلال ما رواه الصحابة بعد ذلک وکان العديد من الصحابة يتحدثون في مجالسهم الخاصة عن مناقبه، ولکن هذا الحديث لم يکن يخرج إلي الساحات العامة، وفي مقابل هذا التعتيم، کان لعدم الرواية الأثر الکبير في ظهور الذين حذر منهم النبي (ص) وهو يخبر بالغيب عن ربه، ويشهد بذلک ما روي عن حذيفة أنه قال: والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوا، والله ما ترک



[ صفحه 318]



رسول الله (ص) من قائد فتنة إلي أن تنقضي الدنيا بلغ من معه ثلثمائة فصاعدا، إلا وقد سماه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته [2] ومعني أم تناسوا أي أظهروا النسيان لمصلحة، ومعني باسمه واسم أبيه يعني وصفا واضحا مفصلا لا مبهما، مجملا فالاستقصاء متصل.

وروي عن حذيفة أنه قال: إن المنافقين اليوم شر منهم علي عهد النبي (ص)، کانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون، [3] وقال: إنما کان النفاق علي عهد النبي (ص)، فأما اليوم فإنما هو الکفر بعد الإيمان، [4] وحذيفة مات بعد مقتل عثمان بأقل من شهر، وکان مريضا، وعندما علم بأن الناس بايعوا علي بن أبي طالب، بايع وهو علي فراش المرض، وحث الناس علي الالتفاف حول علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر، وأمر ولداه بالقتال مع علي، فقاتلا تحت أعلام الإمام علي، حتي قتلا. [5] .

وبعد ظهور النفاق في ظل سياسة اللارواية، خاف الصحابة فلم يحدثوا بالأحاديث الکاشفة، ويشهد بذلک، ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال: حفظت من رسول الله (ص) وعاءين. فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم،، [6] وعنه أنه قال: قال رسول الله (ص) هلاک أمتي علي يدي غلمة من قريش إن شئت أن أسميهم بني فلان وبني فلان [7] وعنه أنه قال: إني لأحدث أحاديث. لو تکلمت بها في زمان عمر، أو عند عمر، لشج رأسي. [8] .



[ صفحه 319]



ويشهد به أيضا، ما روي عن بجالة قال. قلت لعمران بن حصين:

حدثني عن أبغض الناس إلي رسول الله (ص)، فقال: تکتم علي حتي أموت؟ قلت: نعم، قال: بنو أمية وثقيف وبنو حنيفة. [9] ومن الثابت والمعروف أن بني أمية شقوا طريقهم نحو السلطة بعد وفاة النبي (ص).

بتأمير أبي بکر رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان علي الشام. [10] وبعد وفاة يزيد. قام عمر بتأمير معاوية. [11] وروي أن عمر کان يقول للناس:

أتذکرون کسري وعندکم معاوية، [12] وقال لهم عندما ذکروا معاوية: دعوا فتي قريش وابن سيدها. إنه لمن يضحک في الغضب. ولا ينال منه إلا علي الرضا. [13] .

وأحاديث النبي (ص) التي يحذر فيها من بني أمية، أحاديث کثيرة، منها: ما روي عن أبي ذر أنه قال. قال رسول الله (ص) إذا بلغ بنو أمية أربعين رجلا، اتخذوا مال الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله دغلا. [14] ومعني (مال الله دولا) أي يکون لقوم دون قوم (وعباد الله خولا) أي خدما وعبيدا (ودين الله دغلا) أي يدخلوا في الدين أمور لم ترد بها السنة.

والحديث روي عن أبي سعيد الخدري وابن عباس وأبي ذر، ورواه الإمام أحمد والحاکم وأبو يعلي والطبراني والبيهقي، وروي بلفظ إذا بلغ بنو أبي العاص وبلفظ إذا بلغ بنو فلان، وقال الحاکم بعد



[ صفحه 320]



روايته للحديث: ليعلم طالب العلم، أن هذا باب لم أذکر فيه ثلث ما روي، وأن أول الفتن في هذه الأمة فتنتهم، ولم يسعني فيما بيني وبين الله تعالي. أن أخلي الکتاب من ذکرهم. [15] .

والخلاصة: کان لسياسة اللارواية والتدوين آثار جانبية، منها: اکتفاء الناس بتلاوة القرآن دون الوقوف علي معانيه وأهدافه، وأدي ذلک إلي ظهور الذين يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وفي عهد الإمام علي ظهرت حقيقتهم أمام الناس، وحاربهم الإمام في موقعة النهروان، وما زالت بقيتهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء لأن منهجهم وثقافتهم لن تموت حتي يخرج الدجال، ومنها: ظهور الذين لعنهم الله علي لسان نبيه بعد أن ضاع التحذير منهم في عالم اللارواية، ومنها التعتيم علي الهداة. واقتصر ذکرهم في المجالس الخاصة، ومنها ظهور القص وعلي مائدته صنعت مناقب وتواريخ لقوافل لا تحمل من العلم إلا قشوره، وعلي القص ظهرت ثقافات التحمت مع ثقافة أهل الکتاب، وتشهد بذلک عقيدة الجبرية يقول الشيخ محمد أبو زهرة: أول من دعا إلي هذه النحلة من المسلمين الجعد بن درهم، وقد تلقي ذلک عن يهودي بالشام، لأن اليهود أول من فعل ذلک وعلموه بعض المسلمين وهؤلاء أخذوا ينشرونه، [16] ولقد استغل بنو أمية هذه العقيدة في إخضاع المسلمين، بحجة أن قيادتهم مفروضة عليهم بقضاء الله وقدره، وأن أي تمرد عليهم هو تمرد علي قضاء الله، ولقد قامت هذه العقيدة علي أحاديث وضعها القصاص، کان الهدف من ورائها تزييف النشاط الإنساني منذ بدء الخلق إلي قيام الساعة والتطوع بالوحي کله، وتحت أعلام عقيدة الجبر انطلقت جحافل بني أمية إلي ديار المسلمين،



[ صفحه 321]



بعد أن مهد القص والأحاديث الموضوعة طريقهم نحو اتخاذ دين الله دغلا، ليتخذوا مال الله دولا وعباد الله خولا، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس، من أمثال حجر بن عدي والحسين بن علي وغيرهما.

ولم تکن عقيدة المرجئة بعيدة عن نسيج القصاص. لأن الأحاديث الموضوعة هي التي غذتها، وعلي ذروة عقيدة المرجئة يجلس يوحنا الدمشقي، وهو آخر کبار علماء النصرانية علي مذهب الکنيسة الإغريقية، وکان أبوه صاحب عبد الملک بن مروان، وصنف يوحنا کتاب في فضائل النصرانية علي منهج محادثة بين مسلم ونصراني [17] وقال الشيخ أبو زهرة کان يوحنا يبث بين علماء النصاري في البلاد الإسلامية طرق المناظرات التي تشکک المسلمين في دينهم، وظهرت آراء يوحنا بالشام، بعد أن وجدت لها حصنا صنعه القص والأحاديث الموضوعة، ومن خلال هذا الالتقاء. تطرق البحث حول مرتکب الکبيرة، هل هو مؤمن أم غير مؤمن؟ وهل يضر مع الإيمان ذنب؟ وعلي مائدة البحث خرجت العقيدة التي تعتذر عن بني أمية فيما ارتکبوه من جرائم، بمعني: لقد ضربوا بعقيدة الجبرية. واعتذروا بعقيدة المرجئة، التي تقول بأنه لا ينبغي المفاضلة بين المسلمين ولا الحکم علي أحد بتقوي وغير تقوي، فالمسلم يکفي أن يکون مسلما، وبهذه العقيدة تم الافتراء علي الله ورسوله بتغيير الأحکام الشرعية. وإظهار البدع والباطل، وقولهم أن الأمة مرحومة والله رفع العذاب عنها، وإنهم في أمن من عذاب الله وإن انهمکوا في کل إثم وخطيئة وهتکوا کل حجاب، والأمة مغفور لها محسنهم ومسيئهم. وإن لهم الکرامة في الدنيا. ولهم أن يفعلوا ما شاؤا بعد أن استظلوا بمظلة حجاب الأمن. ولهم في الآخرة



[ صفحه 322]



مغفرة توجب فتح أبواب الجنة أمامهم. وبعقيدة المرجئة اشتد الساعد بعد أن ارتدي قفازا من حرير في الوقت الذي يحتفظ فيه بقبضته الحديدية. وملئت الأرض ظلما وجورا.


پاورقي

[1] تقييد العلم / الخطيب ص 54.

[2] رواه أبو داوود 4243.

[3] رواه البخاري (الصحيح 230 / 4).

[4] رواه البخاري (الصحيح 230 / 4).

[5] أنظر: معالم الفتن / سعيد أيوب.

[6] البخاري (الصحيح 34 / 1).

[7] البخاري (الصحيح 280 / 2).

[8] رواه ابن عبد البر (جامع العلم 148 / 1) وابن کثير (البداية والنهاية 107 / 8).

[9] نعيم بن حماد (کنز العمال 274 / 11).

[10] تاريخ الأمم والملوک 28 / 4.

[11] ابن سعد (کنز العمال 606 / 13) البداية والنهاية 118 / 8، تاريخ الأمم 69 / 5، الإستيعاب 596 / 3.

[12] تاريخ الأمم 184 / 6، الإستيعاب 596 / 3.

[13] الديلمي (کنز 587 / 13) البداية والنهاية 125 / 8، الإستيعاب 597 / 3.

[14] الحاکم وصححه (المستدرک 479 / 3).

[15] المستدرک 482 / 4.

[16] تاريخ المذاهب الإسلامية / أبو زهرة 102 / 2.

[17] تاريخ الأدب العربي / بروکلمان 256 / 1.