الدين الخاتم


أوجب الله تعالي علي نفسه فتح الطريق لعباده وهدايتهم إليه.

فبعث سبحانه الأنبياء والمرسلين حتي لا يکون للناس علي الله حجة بعد الرسل، ولأن مجال بحثنا هنا يبدأ من المسيرة الإسرائيلية لنقف علي مشروع المسيح الدجال وينتهي إلي الأمة الخاتمة لنقف علي مشروع المهدي المنتظر، فإننا سنلقي هنا بعض الضوء علي المسيرة الإسرائيلية باعتبار إنها المسيرة السابقة علي الدين الخاتم.

وبنظرة سريعة علي المسيرة الإسرائيلية، نجد أن الدين الإلهي الذي بعث به موسي عليه السلام. نزل في وقت بدت فيه أعمال الکفار کالحجب المتراکمة والظلمات التي بعضها فوق بعض تخنق نور المعرفة في القلوب. وقامت فيه الحاجة الإنسانية للأمن والطعام بالهبوط بالإنسانية إلي درک أسفل سافلين، ويعود ذلک إلي العقائد التي رفع الشيطان أعلامها حول الأرباب المتعددة من کواکب ونجوم وأصنام وأوثان، ففي الوقت الذي کانت الإنسانية قد اکتسبت شعورا وجدانيا من الواقع يؤثر في سلوکها وشعورها. ويفرغ عليها طابعا خاصا. نزل الدين الإلهي علي موسي عليه السلام. ليقود بني إسرائيل إلي صراط الله



[ صفحه 26]



الحميد ويکونوا هم بدورهم حجة علي غيرهم. ولقد أنعم الله تعالي علي بني إسرائيل نعما عديدة. تبدأ ببعثة موسي وهدايتهم إلي دين الله.

وتمر بنجاتهم من آل فرعون وتنتهي بإنزال التوراة وتشريع الشريعة التي تزهو بسنة اجتماعية هي أحسن السنن وهي سنة التوحيد. تأمرهم بطاعة الله ورسوله والعدل التام في مجتمعهم وعدم الاعتداء علي غيرهم من الأمم.

وفي خيمة الاجتماع بين لهم موسي أن الأخلاق الفاضلة. تحتاج إلي عامل يحرسها ويحفظها في ثباتها ودوامها وهذا العامل هو التوحيد، وبين أن أرکان المجتمع الصالح لا تثبت إلا برجال تحددهم الدعوة من صفاتهم الرسوخ في العلم، وأخبرهم أن تفسير أحکام الشريعة موقوفة علي هارون وبنيه [1] وفي الوقت الذي کان موسي عليه السلام يبين فيه طريق الخير. أخبرهم بالغيب عن ربه بأنهم سيختلفون من بعده، [2] وسينحرفون [3] وسيفعلون ما يوجب لعنة الله عليهم. [4] .

ووقع ما أخبر به موسي عليه السلام، وبرزت قيادات هدفها التصارع علي الملک، وکان اختيار هذه القيادات يتم نتيجة لصفات القائد الشخصية وأحيانا الجسمانية، ولم يتطرق الاختيار إلي عامل الأصالة أو المرکز الديني، وتحت قيادة هذه الزعامات تسللت ثقافات عبادة العجول وغيرها من الأمم إلي بني إسرائيل، وعندما بعث فيهم داود عليه السلام ساقهم بعيدا عن عبادة المادة ووحد الدولة، ولکن هذا الاصلاح لم يدم طويلا. فبعد سليمان بن داود عليهما السلام انقسمت



[ صفحه 27]



الدولة إلي مملکتين لا قوة لهما ولا مهابة، کانت مملکة يهوذا في الجنوب وعاصمتها أورشاليم، بينما کانت مملکة إسرائيل في الشمال وعاصمتها (شکيم) ثم (السامرة)، وبين المملکتين اشتعلت الحروب والصراعات، وقامت في کل مملکة العديد من الانقلابات طمعا في الحکم، وکانت هذه الانقلابات تنتهي بمجازر دموية. وفي بعضها کان الطرف المنتصر يقوم بقتل الأسرة المالکة ليقضي علي النسل الملکي في المملکة المهزومة، وفي وسط هذا الظلام المتراکم قامت المسيرة الإسرائيلية تحت أعلام المملکتين. بعبادة البعل وبناء المشارف لتقديم الذبائح وصنعوا الشر وحادوا عن طريق الفطرة.

وبينما کانت المسيرة الإسرائيلية تتخبط في دروب الانحراف. جاء ملک آشور علي مملکة إسرائيل وقام بسبيهم (عام 721 ق). وجاء ملک بابل علي مملکة يهوذا وقام بسبيهم (عام 586 - ق م). وفي أرض السبي تغذت المسيرة الإسرائيلية من الثقافات العنصرية. ومن عقائد لا تؤمن بما وراء الحس. ولا ينقاد أتباعها إلا إلي اللذة والکمال المادي. وفي الحي اليهودي تلبست هذه الثقافات بلباس الدين. وظهرت مقولات الأخبار التي تصف اليهود بأنهم المخصوصون بالکرامة الإلهية لا تعدوهم إلي غيرهم. وبرروا ذلک بأن الله جعل فيهم نبوة وکتابا وملکا.

فلهم بذلک السيادة والتقدم علي غيرهم. وأخذوا من أفواه أحبارهم أن الدين الموسوي لا يعدوا بني إسرائيل إلي غيرهم، وعلي هذا فهو جنسية بينهم، ولما کانت هذه الکرامة والسؤدد أمر جنسي خص بني إسرائيل، فالانتساب الإسرائيلي هو مادة الشرف وعنصر السؤدد والمنتسب إلي إسرائيل له التقدم المطلق علي غيره. وتحت قيادة الحس والمادة أصبح القوم لا يقبلون قولا إلا إذا دل عليه الحس. وأن يقبلوا کل ما يريده أو يستحسنه لهم کبرائهم من جمال المادة وزخرف الحياة، وعلي امتداد هذا الفقه تناقضت الملکات الإنسانية قولا وفعلا بعد أن



[ صفحه 28]



کفر أصحابها بنعمة الله، وأنتج هذا التناقض العديد من الفتن المهلکة.

ولأن هذه الفتن تقود أصحابها إلي المسيح الدجال. وقعت المسيرة إلا من رحم الله في شراک الدجال. يقول النبي في (ص) وما صنعت فتنة منذ کانت الدنيا صغيرة ولا کبيرة إلا لفتنة الدجال. [5] .

ومن لطف الله تعالي بعباده بعث فيهم المسيح عيسي بن مريم عليهما السلام، ولکن بنو إسرائيل کذبوه وطالبوه بأن يعيد لهم الملک إن کان هو المسيح حقا، وهذه الروح الباغية التي دبت في قلوبهم جعلتهم يفسدون في الأرض ويميتوا الروح الإنسانية وآثارها الحاکمة في الجامعة البشرية، وکانت مقولة شعب الله المختار وأرض الميعاد أصل أصيل في الصد عن سبيل الله. لأن الفطرة تقول بأن الأرض لله يورثها الله من يشاء من عباده، والله تعالي لا يصطفي أحدا بالاستخلاف اصطفاءا جزافا ولا يکرم أحدا إکراما مطلقا من غير شرط ولا قيد، لأن الکرامة الإلهية ليست بذاک المبتذل السهل التناول حتي ينالها کل ناعق.

أو يحسبها کل محتال أو مختال کرامة جنسية أو قومية، بل يشترط في نيلها الوفاء بعهد الله وميثاقه والتقوي في الدين، فإذا تمت الشرائط حصلت الکرامة وهي المحبة والولاية الإلهية التي لا تعدوا عباده المتقين. وأثرها النصرة الإلهية والحياة السعيدة التي تعمر الدنيا وتصلح بال أهلها وترفع درجات الآخرة.

وفي الوقت الذي کانت الظلمات فيه بعضها فوق بعض، بعث الله تعالي رسوله محمد (ص) بالرسالة الخاتمة إلي الإنسانية جمعاء، ولأن الإنسان کائن حي يرغب ويحس ويدرک وينفعل ويتذکر. ويتعلم ويتخيل ويفکر ويعبر ويريد ويفعل، ولأن العلاقة بين الإنسان وبيئته علاقة أخذ وعطاء وفعل وانفعال وتأثير متبادل وصراع موصول. وهو في تعامله



[ صفحه 29]



معها يتأثر وينفعل بشتي الانفعالات. ويعبر عن أفکاره ومشاعره باللفظ تارة وبالحرکة والإشارة تارة أخري. ويکد ويسعي ويضرب في الأرض ويندمج في حلقات اجتماعية، فلأجل ذلک وغيره. قامت الرسالة الخاتمة بتوجيه الغرائز والانفعالات الإنسانية، ليتم التآلف بين العناصر المختلفة للشخصية وتتحد ويقوي ما بينها من ارتباطات. لتسلک مسلکا واحدا نحو هدف واحد.

وعلي امتداد عهد البعثة الخاتمة، خاطب القرآن والسنة المطهرة عقل الإنسان ووجدانه. وتم إرشاده إلي معرفة الله والإيمان به، وبينت له العبادات التي تدعم صلة الإنسان بربه وتزکي نفسه وتسمو بروحه، وانطلق الخطاب إلي المجتمع فبينت الأحکام والمبادئ التشريعية الأمور التي تنظم أمر المجتمع تنظيما عادلا متوازنا. وتخلصه من کل أسباب الصراع والانحراف وتتکافأ فيه الفرص لجميع الناس في حدود قدراتهم المختلفة، وأمر الشرع الحنيف برد أي اختلاف إلي الله ورسوله. قال تعالي: (وما اختلفتم في شئ فحکمه إلي الله). [6] .

وقال: (وما آتاکم الرسول فخذوه وما نهاکم عنه فانتهوا). [7] وأمر الله الذين آمنوا بأن لا يکون لهم اختيار أمام اختيار الله ورسوله. قال تعالي: (وما کان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمرا أن يکون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصي الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا). [8] وعلي هذا فمن حکم بغير حکم الله ورسوله يکون قد وقف في دائرة من دوائر ثلاث: دائرة الکفر لقوله تعالي: (ومن لم يحکم بما أنزل الله فأولئک هم الکافرون). [9] أو دائرة الظلم. لقوله تعالي: (ومن



[ صفحه 30]



لم يحکم بما أنزل الله فأولئک هم الظالمون) [10] أو دائرة الفسق لقوله تعالي: (ومن لم يحکم بما أنزل الله فأولئک هم الفاسقون). [11] وتحديد کل دائرة يخضع لفقه دقيق عال. فمن أراد الوقوف عليه فليراجع کتب العلماء.

والقرآن الکريم کتاب البعثة الخاتمة. يهدي العقول إلي استعمال ما فطرت علي استعماله. وسلوک ما تألفه وتعرفه بحسب طبعها. ويحث حثا بالغا علي تعاطي العلم ورفض الجهل. في جميع ما يتعلق بالسماويات والأرضيات والنبات والحيوان والإنسان من أجزاء عالمنا وما وراءه من الملائکة والشياطين وغير ذلک. ليکون ذريعة إلي معرفة الله سبحانه وتعالي، واشترط القرآن التقوي في التفکر والتذکر والتعقل وربط العلم بالعمل. للحصول علي استقامة الفکر وإصابة العلم وخلوصه من الأوهام الحيوانية والإلقاءات الشيطانية. والقرآن الکريم يتعرض بمنطقه لجميع شؤون الحياة الإنسانية. ويحکم علي الإنسان منفردا أو مجتمعا صغيرا أو کبيرا ذکرا أو أنثي. ويحکم علي الحاضر والبادي والعالم والجاهل والشاهد والغائب، في أي زمان کان وفي أي مکان کان، وجميع المعارف الإلهية والحقائق الموجودة في القرآن تستند إلي حقيقة واحدة هي التوحيد.

والدعوة الخاتمة لا تفرق بين أحد من رسل الله، لأن الدعوة الإلهية للبشرية دعوة واحدة، قال تعالي: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون کل آمن بالله وملائکته وکتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله). [12] فأمرت الدعوة بالإيمان بجميع الأنبياء والرسل. لأن من



[ صفحه 31]



کذب نبي من الأنبياء يکون في الحقيقة قد کذب جميع الأنبياء وفرق بين الله ورسله. قال تعالي: (إن الذين يکفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونکفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلک سبيلا أولئک هم الکافرون حقا). [13] .

وبالجملة:

إن البعثة الخاتمة تقضي بوقوف الاستکمال الإنساني. فعدم نسخ الدين وثبات الشريعة. يستوجب أن الاستکمال الفردي والاجتماعي للإنسان هو هذا المقدار الذي اعتبره القرآن في بيانه وتشريعه، والقرآن کتاب لا يقبل الإبطال والتهذيب والتغيير والنسخ، وثبات الشريعة يفيد بأن الحجة الدامغة قد أحاطت بالناس وهم يسيرون تحت سنة الامتحان لينظر الله إليهم کيف يعملون، وتحت هذه السنة نفي الله الدين الإجباري بعد أن تبين للناس الرشد من الغي. قال تعالي: (لا إکراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يکفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسک بالعروة الوثقي لا انفصام لها). [14] .


پاورقي

[1] أنظر: سفر اللاويين 1 / 9، 8 / 1 - 14.

[2] المصدر السابق 26 / 3 - 8.

[3] التثنية 31 / 4 2 - 29.

[4] المصدر السابق 38 / 15 - 36.

[5] رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح (الفتح الرباني 69 / 24).

[6] سورة الثوري آية 10.

[7] سورة الحشر آية 7.

[8] سورة الأحزاب آية 36.

[9] سورة المائدة 44.

[10] سورة المائدة 45.

[11] سورة المائدة 47.

[12] سورة البقرة آية 285.

[13] سورة النساء آية 151.

[14] سورة البقرة آية 256.