حکمة الاخبار بالغيب


الإخبار بالغيب من الأمور التي يمتحن الله تعالي بها عباده. قال تعالي: (وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز) [1] قال في الميزان: المراد بنصره ورسله. الجهاد في سبيله دفاعا عن مجتمع الدين وبسطا لکلمة الحق، والمراد بعلمه بمن ينصره ورسله تميزهم ممن لا ينصر، وقوله تعالي: (إن الله قوي عزيز) إشارة إلي إن أمره بالجهاد إنما هو ليميز الممتثل منهم من غيره، لا حاجة منه تعالي إلي ناصر ينصره. إنه تعالي قوي لا سبيل للضعف إليه. عزيز لا سبيل للذلة إليه. [2] .

وعلي طريق الإخبار بالغيب يکون الثواب والعقاب في الحياة الدنيا والآخرة. ومن الذين يدخلون إلي دائرة الأمان کل من تحرک الحرکة الصحيحة نحو الأحداث التي تستقبل الناس والتي أخبر بها الأنبياء والرسل. قبل أن تأتي آيات الله لا ينفع نفسا إيمانها لم تکن آمنت من قبل أو کسبت في إيمانها خيرا، فدائرة الأمان يدخلها من تعامل مع الإخبار بالغيب تعامل المتفکر المتذکر لتکون حرکته في الدنيا مرتبطة بالله تعالي. وفي الآخرة يدخل الذين يخشون ربهم بالغيب. والذين أخذوا بأسباب الحياة الکريمة في مغفرة الله جل وعلا. قال تعالي: (إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر کبير) [3] قال في الميزان:



[ صفحه 41]



وعد سبحانه خشيتهم بالغيب. لکون ما آمنوا به محجوبا عنهم تحت حجب الغيب.

والله تعالي يعلم الغيب لذاته قال سبحانه (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) [4] فالآية أفادت معني الأصالة، فعلم الغيب في الأصل يختص بالله تعالي وغيره يعلمه منه سبحانه، وهو سبحانه يظهر لرسله ما شاء من الغيب. قال تعالي: (عالم الغيب فلا يظهر علي غيبه أحدا إلا من ارتضي من رسول). [5] .

وإخبار الأنبياء والرسل بالغيب عند ربهم. فيه لطف من الله لعبادة وهم تحت سقف الامتحان والابتلاء، فالله يعلم أن عباده يجهلون أکثر مصالحهم وطرقها في الحياة، ولذا سن سبحانه الشرايع وما فيه خيرهم.

ليدلهم علي الصراط المستقيم والسعادة الدائمة ويزجرهم عما فيه الفساد، ولعلمه سبحانه أن أکثر عباده لا يطيعونه فيما شرع لهم، أظهر لرسله بعض ما يستقبل الناس من أحداث في الدنيا والآخرة، ليکون هذا الإخبار بالغيب حجة وسراج يهدي إلي الطريق المستقيم. ليهلک من هلک عن بينة، والإخبار بالغيب في خطوطه العريضة لطف ورحمة. ولا يرفع هذا اللطف وهذه الرحمة أن يکون العباد متمرسين علي طاعته سبحانه غير منقادين إلي أوامره ونواهيه، لأنه سبحانه اللطيف بعباده الجواد الکريم. يلطف ويأمر بالطاعة لأنه مريد لها وينهي عن المعصية لأنه کاره لها.

ومنهج البحث في هذا الکتاب يتخذ من الإخبار بالغيب عمودا فقريا للوصول إلي الحقيقة التي يجلس علي قمتها آخر الزمان المهدي المنتظر رمزا لطائفة الحق. و المسيح الدجال رمزا للانحراف



[ صفحه 42]



والشذوذ، ومعني تتبع الإخبار بالغيب للوصول إلي الحقيقة، هو إيماني بأن النبوءة هي التي تفسر التاريخ وليس العکس، فالأنبياء يخبرون بالغيب عن ربهم فيما يستقبل الناس، وهذا الإخبار إما في دائرة التحذير وإما في دائرة التبشير، وکل دائرة لا بد أن يکون لها أصحاب وأتباع، والله تعالي له في کل موضع في هذا الکون شاهد وهذا الشاهد حجة، وبالنظر إلي هذه الدوائر بضوء الإخبار بالغيب يمکن أن نري حقيقة الحرکة الإنسانية. حرکة التاريخ تحت سقف الامتحان والابتلاء. ومن هذه الحرکة يمکن أن نخرج بمضمون وبقضية وبهدف. ويمکن أن نضع أيدينا بکل يسر علي العروة الوثقي التي نحکم بها علي المسيرة التاريخية. تلک المسيرة التي ظهر علي ساحتها العديد من أعلام الزينة والإغواء والأهواء ودخل أصحابها في دائرة التحذير. وعندما أصبحوا أعمدة في هذه الدائرة، حذرت النبوءة منهم ومن دوائرهم. ثم سلطت أضواءها علي دائرة التبشير ليتحرک الناس الحرکة التي يحبون أن ينظر الله إليهم وهم يتحرکونها. لأن سنة استخلاف الإنسان في الأرض تقوم علي حکمة لينظر الله کيف تعملون.

وبالجملة: لقد حذر الوحي من الشيطان. وحذرت النبوءة من المنافقين والمترفين الذين اتخذوا من الصد عن سبيل الله هدفا لهم، وفي دائرة التحذير وقف الشيطان وبرنامجه وأتباعه من أهل الأهواء تحت ضوء الإخبار بالغيب، ليتبين الناس الوقود الذي أمد المسيرة.

ويعلموا أن التاريخ وإن ظهر کوحدة واحدة، إلا أنه في الحقيقة وحدة إنسانية واحدة ذات حرکتين، حرکة حق وحرکة باطل، ولأن الحاضر ابنا للماضي فإنه يرث هذه الترکة وينطلق بها إلي المستقبل. وعلي الإنسان في هذه الحالة أن ينقب ويبحث وينظر فيما حوله من حجج عليه. لأنه مستخلف في الأرض. والاستخلاف يقتضي حرکة. والحرکة منظورة من الله.



[ صفحه 43]



. ولما کنا نهدف من هذه الدراسة أن نمسک بخيوط المسيح الدجال والمهدي المنتظر، فإننا لا يمکن أن ننحي مصادر أهل الکتاب جانبا، ومصادر أهل الکتاب وأقصد الکتاب المقدس. وأن کان قد ذهب منه الکثير من الوحي، ودخل فيه الشئ الکثير من الأوهام حتي أصبح الکتاب به الکثير من المتناقضات، وبهذا شهد علماء مقارنة الأديان والحضارة من أهل الکتاب أنفسهم، وشهد القرآن الکريم أن أيدي أهل الکتاب امتدت إلي النصوص بالحذف والإضافة. وبأنهم استبدلوا نصوص تحمل التوجيه الإلهي بغيرها تعبر عن المصلحة والهوي عند الأحبار والرهبان. إلا أن الکتاب المقدس لا يخلو من وحي إلهي ومعالم سماوية باهتة. وهذا الوحي الظاهر حجة علي أهل الکتاب لأنه يرشدهم إلي دعوة النبي الخاتم (ص)، أما المعالم الباهتة والمتناقضات فهي دعوة لقبول البينة التي حملها رسول من الله يتلو صحفا مطهرة.

وفي دراستنا هذه سنسلط الأضواء علي المسيرة التاريخية لبني إسرائيل. من واقع إخبار أنبيائهم بالغيب عن ربهم، وذلک لنقف علي الانحراف وحجمه وإلي أين قاد أتباعه، وعلي امتداد عملية الرصد هذه سنسلط الأضواء القرآنية علي هذه الأحداث والانحرافات، ليظهر طريق الخير وطريق الشر ونميز ما هو تقوي في هذه الأحداث مما هو فجور، وعند البحث عن الخلل في سيرة الأمة الخاتمة. سننطلق من الأصول وننظر في المسيرة من خلال إخبار النبي (ص) بالغيب عن ربه، ثم ننظر عليها وهي تشق طريقها نحو المستقبل، وعلي هذا التصور أقدم قراءتي لحرکة التاريخ.


پاورقي

[1] سورة الحديد آية 25.

[2] الميزان 172 / 19.

[3] سورة الملک آية 12.

[4] سورة الأنعام آية 59.

[5] سورة الجن آية 26.