النظرية الإسلامية في تکامل الإنسان


هناک حديث طويل في هذا المضمار وهو الحديث عن کامليّة الإنسان الکامل في عالم التکوين، هذا الحديث يحتاج إلي وقت مفصّل وطويل نتحدّث عن نمط التکوين ونمط التکامل في هذا الإنسان وکيف ولماذا کانوا هؤلاء ولم يکونوا غيرهم، فهناک عدّة أسئلة تطرح ويمکن أن تطرح وتحتاج إلي أوقات لشرح تلک الجوانب.

لکن أريد أن أتعرّض للنوع الثاني من الإنسان وهم باقي البشر، باقي البشر الله سبحانه وتعالي خلقهم وحسب النظرية الفلسفيّة في الحکمة المتعالية لصدر الدين الشيرازي المعروف بملاّ صدرا صاحب کتاب الأسفار، وهو أرقي ما وصل إليه الفکر الديني والإنساني في تفسير کثير من المسائل الوجوديّة فلسفيّاً وتوضيح مواقعها في خارطة الوجود علي أکمل وأتم أوجه التفسير لتلک التساؤلات.

أريد أن أقول من هذه النظريّة ـ ولم نجد لها معارضاً بين الفلاسفة المسلمين فضلاً عن غير المسلمين ـ هو أنّ الإنسان أوّل ما يخلق لم يخلق من کمال وإنّما خلق من طين لازب ـ کما يقول القرآن [1] ـ يعني هذا الطين العادي الذي فخره الله سبحانه وتعالي بفخار القدرة.

طبعاً لا أريد أن أتعرّض عن بداية الإنسان ومن أي شيء کان الإنسان، وما يذکره دارون وغيره، الآن لا أريد أن أتعرّض لهذه التفاصيل ورؤية الدين والإسلام بما يطرح علي هذا المستوي من الطرح العلمي وغير العلمي.

وإنّما أريد أن أقول أنّ هناک شيئاً اسمه إنسان طيني، هذا الإنسان الطيني يخلق أوّل ما يخلق في الجوانب الأولي من ظهوره في الوجود بتعبير القرآن)مِنْ مَنِيٍّ يُمْني) [2] ثم بعد ذلک هذا يتحوّل إلي علقة ثم مضغة مخلّقة وغير مخلّقة ثم عظام فيکسو العظام لحماً فيکون جنيناً في بطن الأم تلجه الروح.

هذا الإنسان الطيني من حيث الکمال لم يملک کمالاً، ولکن فيه قدرة وقابليّة الکمال والترقّي، هذا الکمال والترقّي فيه تعاطف وتناغم بين جنبتي الطينيّة والروحيّة.

کيف بعد ذلک تظهر الروح وتنشأ الروح في الإنسان في بطن أمّه کجنين ثمّ يکون خلقاً آخر کما يقول الله تبارک وتعالي:)فَتَبارَکَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [3] هذا التناغم الطيني والروحي في بطن الأم والتناسل والتبادل يدخل کل واحدٍ منهما في ترکيبة الإنسان الکامل، أي أن کون الإنسان خلق من هذه الصورة الطينيّة، من هذا الدماغ، من هذا القوام، من هذا الشکل له أثر في کمال الإنسان، کما أنّ الذي له الأثر الکبير في کمال الإنسان هو الجانب الثاني وهو الجانب الروحي.

عندما يولد الإنسان، يقول القرآن:)وَاللَّهُ أَخْرَجَکُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِکُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئ) [4] الآن لا أريد أن أتحدّث عن نظريّة المعرفة عند الإنسان، سواء کانت نظريّة المعرفة عند الفلاسفة التجريبيّين أو الفلاسفة العقليّين أو غير ذلک ممّا طرح من نظريّات حول نظرية المعرفة، لکنّنا کإسلامييّن ومسلمين نؤمن ـ کما قال القرآن الکريم ـ أنّ الکمال المعرفي عند الإنسان يکون من نقطة الصفر في بطن الأم، يعني يولد الإنسان وهو خالٍ من المعرفة، خلافاً لمفاهيم ديکارت الذي يؤمن ويحاول أن يبرهن أنّ المبادئ الفطريّة الأوليّة تلد مع الإنسان.

بطبيعة الحال لا أريد أن أتحدّث عن کل هذه التفاصيل، لکن هذه التفاصيل لها أثر کبير في کمال الإنسان.

علي کل حال يولد الإنسان وهو لا يملک هذا الکمال، بل تبدأ معارفه الحسيّة ـ هي أوّل المعارف التي تتکون في عقل الإنسان ـ تظهر من خلال تجاربه مع الواقع الخارجي، ولذلک نعتبر نحن، حتّي الإسلاميّين، أنّ المعارف الحسيّة، وإن لم تکن هي المعارف الکماليّة للإنسان کإنسان ولکن هذه المعارف الحسيّة تعبّر عن الموجود الأوّل للمعرفة، يعني أنها تشکّل المعرفة الإنسانيّة في بداياتها: من المعرفة الحسيّة ثمّ تترقي إلي المعرفة العقليّة.

وهذا يعني أننا نختلف مع الحسّيين حينما نقول أنّ المعرفة الحسيّة تترقّي إلي معرفة عقليّة ونختلف مع العقليين أو الفلاسفة العقليين أو الذي يعبّر عنهم بالمثاليين، سواء في المثالية القديمة أو بالمثالية الجديدة التي بشّر بها الفيلسوف الألماني هيگل أو غير ذلک، بدون لحاظ لهذه التصوّرات أنّ الإنسان تبدأ عمليّة التکامل ـ تکامل إنسانيته ـ من خلال ظهور الإنسانية، وهو أن تؤدّي الجوارح والطينيّة والجسم تؤدّي دورها في إعطاء المجال للقوي العاقلة في الإنسان أن تتکامل وتصل بمستويات أعلي، قادرة هذه المستويات أن تخرق العالم الطيني أو العالم الناسوتي ـ کما يقول الفلاسفة ـ وترتقي إلي عوالم أخري کعالم الجبروت مثلاً، فيطّلع ويتکامل الإنسان، يکون في أعلي عليّين وهو في الدنيا.


پاورقي

[1] الصافات (37): 11.

[2] القيامة (75): 37.

[3] المؤمنون (23): 15.

[4] النحل (16): 78.