سامرا.. مشهد ما قبل الولادة


البلاط في مطلع عام 253ه تقوده قدره غامضة مؤلفة من أم الخليفة المعتز«قبيحة» وهي زوجة الخليفة الذي لقي مصرعه في انقلاب سنة 247ه، يعاونهاالوزير النصراني الاصل ابن اسرائيل وأبو نوح وهو غلام نصراني کانت له علاقةقوية بالمتوکل واستطاع الفرار عشية مصرع المتوکل.

کانت سياسة المعتز تنهض علي أساس تصفية أعداء والده وخصومه أيا کانتاتجاهاتهم، ولذا قام بترقية الضباط المغاربة الذين اصبحوا عماد حرسه الخاص.

فيما عمّت موجة من الاعتقالات بغداد وسامراء طالت عشرات العلويين أو ممّنتُشمّ فيهم رائحة الولاء لاهل البيت: وکان في طليعة من اعتقل أبو هاشمالجعفري بأوامر شخصية من المعتز بذريعة أن البلاط يفکرّ في ارساله الي«طبرستان» للتفاوض مع الثائر العلوي «الحسن بن زيد» وتهدئة القلاقل هناک،فنقل مخفوراً الي سامراء وزجّ به في سجن خاص في تلک الفترة کما قلنا وصلتالسيدة نرجس سامراء واستقبلت من قبل الامام الذي ارسل وراء اخته حکيمةواطلعها علي وصول الفتاة وطلب منها أن تأخذها الي منزلها لتعلّمها شريعةالاسلام.

ومکثت الفتاة في منزل السيدة حکيمة شهوراً ويراها الامام الحسن في أخرياتعام 253ه أو مطلع عام 254ه وتورد الروايات تفاصيل عن لقاء غير عادي بينسيدنا الحسن عليه السلام والسيدة نرجس.

وتستأذن السيدة حکيمة أخاها في اجراء مراسم الزواج في منزلها وبعد أياميصطحب الامام الحسن زوجته الرومية الي منزل والده الکبير.

ونستطيع أن نحدس موقف البلاط من العلويين من خلال تعيين ابن أبيالشوارب رئيساً لسلطة القضاء وهو رجل معروف بموقفه العدائي التقليديللعلويين.

في 25 جمادي الاخرة توفي الامام علي الهادي وحضر مراسم العزاء نائباً عنالخليفة طلحة بن المتوکل الذي عرف بالموفق منذ سقوط بغداد بعد حصارها سنة251ه وطلحة سيکون هو الحاکم العسکري العام منذ مصرع المهتدي في سنة 256هوسيتولّي ابنه الخلافة وسيعرف فيما بعد ب «المعتضد» سنة 279 والاخير هو الذيذکرته مدوّنات الامامية بتنظيمه حملتين لاعتقال أو اغتيال من يوجد في بيت الامام الهادي.

افرزت الحرب الاهلية وضعاً قلقاً متوتراً في سامراء اتسم بالقلاقل التي عادة مايثيرها الضباط الاتراک الذين شهدت جبهتهم انشقاقات خطيرة وتناحر من أجلأسلاب الحکم والمزيد من النفوذ.

وفي سنة 255 شهدت ميزانية الدولة عجزاً في صرف مرتبات الجيش ويعودهذا في الاصل الي اختلاسات الطغمة الحاکمة بقيادة زوجة المتوکل التي تعد الحاکمالفعلي للبلاد يعاونها کما ذکرنا مجموعة من الاداريين الغامضين مثل ابن اسرائيل وأبينوح عيسي بن ابراهيم الذي ظل مصرّاً علي نصرانيته.

في جمادي الاخرة سنة 255ه قام صالح بن وصيف بعملية انقلابية وسيطرتقواته علي قصر الخليفة المعتز الذي نقل الي مکان مجهول فيما فرض الحصار الشديدعلي قصر والدته الثرية جدّاً.

وعقد صالح بن وصيف تحالفاً مع ضابط ترکي قوي هو «بايکباک» وفي تلکالفترة انتشرت في أوساط الشيعة شائعات قوية عن نيّة السلطات في اصطحابالامام الحسن الي الکوفة واغتياله في الطريق.

سنحاول متابعة تفاصيل هامّة منذ يوم 26 رجب 255ه، فقد انفجرت أزمةخطيرة هددت حکومة المعتز بسبب العجز والتسويف في دفع مرتبات قطعات منالجيش واستنجد المعتز بوالدته التي امتنعت من دفع مبلغ 000/ 50 دينار وتذرّعتبأنها لا تملک هذا المبلغ، وتعللت بأن أموال الدولة لم تصل بعد من الاقاليم، لکنها فيالحقيقة کانت قد ارسلت رسالة مستعجلة الي موسي بن بغا في وقف العملياتالحربية في ايران والعودة بأقصي سرعة لمعالجة الوضع الخطير المتفجّر في سامراء.

وقبل أن يصل موسي بن بغا کان الوضع قد تدهور والقي القبض علي المعتزوتعرّض للتعذيب والاهانة ثم وقع وثيقة التنازل عن الخلافة باکياً.

وتم تنظيم المحضر باشراف رئيس سلطة القضاء ابن أبي الشوارب..

وتضمنت الوثيقة تعهداً من الضباط الاتراک بالحفاظ علي حياته وحياة والدتهوشقيقته.

وضرب الحصار علي قصر «قبيحة» ورابطت قوة من الجنود الاتراک عليبوابات القصر.

واعلن في الثاني من شعبان عن وفاة الخليفة المخلوع وقبل الاعلان کان قد تمتسمية محمد بن الواثق خليفة.

وعندما صدرت الاوامر باقتحام قصر قبيحة لمصادرة ممتلکاتها فوجيء الجميعباختفائها وفرارها عبر نفق.

وهکذا اختفت عن الانظار، فانتشر رجال الشرطة للبحث عنها کما رصدتجوائز مغرية لمن يدلّ عليها أو يقدّم معلومات تفيد في القبض عليها، وأُنذر الذينيساعدونها في الاختباء بأقسي العقوبات.

علي أن الشبهات کانت تحوم حول منزل تقطنه احدي زوجات القائد العسکريموسي بن بغا فوضع المنزل تحت المراقبة، ولکن القائد وصيف کان يتهيب اقتحامالمنزل خوفاً من خطوة انتقامية يقوم بها القائد موسي بن بغا الذي قد يصل سامراءبين لحظة وأخري.

وانفجرت أزمة الجيش مرّة أخري بسبب عجز صالح بن وصيف عن دفعمرتبات الجنود، ولذا أقدم القائد العسکري الذي يحکم البلاد بقوّة بتعريض ابناسرائيل وأبي نوح وابن مخلد للتعذيب فانهار الاخير واعترف بوجود خطة لاغتيالصالح بن وصيف باشراف قبيحة وابن اسرائيل وأبي نوح (عيسي بن ابراهيم) وشاءالقدر أن يتقدم أحدهم ليدلي بمعلومات حول وجود کنوز سرّية تعود لقبيحة فعثرعليها ووجدت أموال أسطورية دفعت صالح بن وصيف للتصريح قائلاً:

ـ قبّح الله قبيحة عرّضت ابنها للقتل في خمسين الف دينار وعندها هذه الاموالفي خزانة واحدة من خزائنها!

وتم تنفيذ حکم الاعدام بحق ابن اسرائيل وأبي نوح فيما قرّرت قبيحة الظهوروارسلت من مخبئها وسيطاً للتفاوض مع صالح بن وصيف.

ونسجّل هنا عدّة حوادث منها اندلاع ثورة الزنج في أهوار العراق واقتحاممدينة البصرة، وتقدّم قوّات الصفّار باتجاه العراق، واستمرار الاشباکات مع قواتالحسن بن زيد العلوي الذي أسس دولة طبرستان في الشمال الايراني.

وقام الخليفة المهتدي (محمد بن الواثق) باجراءات لکسب التأييد الشعبي منهاترحيل المطربين والمطربات الي بغداد واعدام بعضهن. وطرد الکلاب وتعطيلالملاهي، کما ترأس بنفسه محکمة الاستئناف وقد برّر کل ذلک بانه غيرة عليالعباسيين لانه لا يوجد بينهم من يسير بسيرة عمر بن عبدالعزيز.

ولا ننسي أيضاً انه باشرافه وبمبارکته صودرت کل ممتلکات قبيحة وابنائهاوالمقرّبين منها وتم ترحيلها الي مکّة وقد سجل الطبري صرخاتها الهستيرية وهيتودّع سامراء دون رجعة:

ـ اللهم اخز صالح بن وصيف کما هتک ستري وقتل ولدي وبدّد شملي وغرّبنيعن بلدي، ورکب الفاحشة مني.

والي جانب هذه الاجراءات قام المهتدي بخطوات احترازية لتثبيت حکمه منهاابعاد بعض الشخصيات العباسية في طليعتها طلحة بن المتوکل الذي اکتسب لقب«الموفق» منذ احتلال بغداد في الحرب الاهلية سنة 252ه.

کما قام باعتقال الامام الحسن وزجّه في سجن خاص مع تأکيدات بمعاملتهمعاملة قاسية، وقد سلّم صالح بن وصيف الامام الي علي بن أوتامش المعروفبفظاظته وقسوته وعدائه للعلويين.

وقد تعرّض صالح بن وصيف الي الانتقاد بعد أن وصلت القصر تقارير حولمعاملة طيبة للامام فقال القائد الترکي:

ـ وماذا تريدوني أفعل لقد سلّمته الي رجل ليست في قلبه رحمة، ولکن ابنأوتامش لا يرفع الان رأسه اجلالاً له.

في ذي القعدة ساد التوتر سامراء بعد انباء عن اجتياز موسي بن بغا وقواتهمرتفعات همدان في طريقه الي سامراء.

وتزامن ذلک مع توقيف ابن أبي الشوارب رئيس سلطة القضاء بتهمة الفساد.

ومع ان مدونات الامامية تذکر تاريخ 15 شعبان 255 هجرية کاحدي التواريخالتي ولد فيها المهدي عليه السلام لکن الدارس لتلک الحقبة العاصفة يستبعد ذلک لان الامامکان معتقلاً وقد نقل عنه حديثه مع أحد السجناء.

فقد سأل الامام السجين:

ـ هل رزقت ولداً؟

ـ لا

ـ اللهم ارزقه ولداً يکون له عضداً فنعم العضد الولد.

ثم تمثّل بقول الشاعر:

من کان ذا ولد يدرک ظلامتهان الذليل الذي ليست له عضد

ويسأل السجين الامام:

ـ ألک ولد

ـ اي والله سيکون لي ولد يملا الارض قسطاً، فأما الان فلا.

ويبدو أن الامام قد اعتقل سنتين ولم توجه له اتهامات واضحة کما وجهتلوالده الراحل.

ومن المؤکد ان اخبار المهديالذي سيولد قد انتشرت وافرزت هواجسللمؤسسة الحاکمة.

ونري أن المهتدي يطلق تهديدات تتوعد الشيعة بالفناء.

وقد تعرّضت مدينة قم وهي مرکز شيعي ناشط لحملة اضطهاد دفعت بأهلهاالي ارسال صيحات استغاثة للامام.

ومن الاضاءات المفيدة أيضاً أن نذکر وصول قوات موسي بن بغا سامراءوتقدمها لاحتلال قصور الخلافة قد زاد من ارباک الاوضاع، ولا ننسي ان قواتالصفار ما تزال تواصل تقدّمها وأن ثورة الزنوج باتت تشکل تهديداً خطيراً بسببسرعة انتشار لهيب الثورة سيّما وأن قائدها أراد أن يضفي علي نفسه المزيد من البريقبادّعائه الانتساب الي أهل البيت، اضافة الي الهزائم التي لحقت بالدولة في صراعهامع الروم، وسنري أن مؤسسة الحکم تحرص علي استصدار تصريح من الامام لتکذيب هذا الادّعاء.

وفي يوم عاشوراء من سنة 256ه کانت سامراء اشبه بمدينة محتلّة في قبضةقوات موسي بن بغا فيما فضل صالح بن وصيف الاختفاء عن الانظار.

وليس من باب الاعتباط أن يؤثر عن الامام الحسن عليه السلام حرز تعکس کلماتهخطورة الاوضاع التي عاشها الامام ونجد فيه ما يدفعنا الي التوقف مثلقوله:

ـ «احتجبت بحجاب الله النور الذي احتجب به عن العيون...

واحتطت علي نفسي وأهلي وولدي..».