عشية الرحيل


لم تشرق شمس اليوم الثامن من ربيع الاول وظلّت غائبة وراء السحب الکابيةالتي تراکمت علي امتداد الليل الشتائي الطويل.

اليوم هو الاول من کانون الثاني من العام الميلادي الجديد «874» حدثت فيالرواق حرکة غير عادية عندما أعلن عقيد الخادم عن رحيل زعيم البيت العلويالامام الحسن واستحال المنزل الواقع في «درب الحصا» الي خيمة تعصف بها الريحمن کل مکان..

برقت عينا جعفر بالغدر وقد ضجّت في أعماقه المظلمة أصوات تشبه عواءذئاب مجنونة...

ها هو يستيقظ علي صيحات المأتم فهبّ کمن لسعته عقرب وراح يتصرفکالسيّد المطاع وربّ المنزل.. وحاول جاهداً أن يضفي علي نفسه مسحة من الوقارکاءمام جديد للشيعة!

ان جميع الظروف قد باتت مواتية، فأخوه قد رحل عن الدنيا دون وصيةظاهرة، وأذن فقد أصبح کل شيء له... اءنه الوريث الذي لن ينازعه أحد.. ولکنماذا لو ظهر ابن أخيه؟!

خامره أحساس بالقلق وسرعان ما تبدّد.. ان صبياً تبحث الجواسيس عنه لنيجرؤ علي ذلک..

اتخذ جعفر مکانه في باب المنزل لاستقبال الوافدين من المعزّين.. سوف يصلزعماء کبار من البلاط وشخصيات بارزة في صفوف الشيعة وها هو يشعر بالانتشاءلاول تهنئة يتلقاها من الشيعة مصحوبة بکلمات عزاء رقيقة..ها هو يهنأ لاول مرّةبالاءمامة.. لقد أصبح اءماما لطبقات واسعة من الناس!

وصل «أبو الاديان» درب الحصا وسمع من بعيد أصوات المناحة واذ ألفيجعفراً واقفاً في الباب يتلقي التعازي والتهاني همس في نفسه بأسي:

ـ ان يکن هذا هو الاءمام فقد بطلت الامامة اءذن..

کيف يصبح اماماً وهو يکرع کؤوس النبيذ ويقامر في قصر الجوسق ويلعببالطنبور؟!

واضطر أبو الاديان الي مصافحته وتقديم التعازي والتهاني.. وعندما ولج المنزلرأي حشداً من المعزّين، وقد برز فيهم عثمان بن سعيد وکيل الامام الراحل.. وکانواجماً غارقاً في حزن مرير..

وتوهّجت في ذاکرة أبي الاديان البصري کلمات الامام الراحل في حقه فيحضور وفد قادم من اليمن: «امض يا عثمان فاءنّک الوکيل والثقة المأمون علي مالالله» فقال أحد أعضاء الوفد مخاطباً الامام: «يا سيدنا ان عثمان لمن خيار شيعتکولقد زدتنا علماً بموقعه من خدمتک، وانه وکيلک وثقتک علي مال الله؟

فقال الامام عندها: نعم.. واشهدوا علي ان عثمان بن سعيد العمري وکيلي، وانابنه وکيل ابني.. مهديکم».

کان عثمان بن سعيد قد انتهي توّاً من مراسم تجهيز جثمان الراحل العظيم للصلاةعليه، وانتبه أبو الاديان الي صوت عقيد الخادم يخاطب جعفراً:

ـ يا سيّدي قد کُفّن أخوک.. فقم للصلاة..

مرّت اللحظات حساسة.. کان جعفر يخطو باتجاه نعش أخيه.. سوفيکتسب جعفر باقامة الصلاة علي الامامه امتيازاً کبيراً.. فهناک قناعة لدي عموم الشيعة في أن الامام لا يصلّي عليه اءلاّ اءمام!

وقف جعفر قبال النعش استعداداً للصلاة.. وانتظمت خلفه صفوف المصلّين..کان أبو الاديان واقفاً جنب عثمان بن سعيد في الصف الاول.. وکان جعفر علي وشکالتکبير.. عندما ظهر صبي بوجهه سمرة متموج الشعر.. تقدّم الصبي بخطي واثقةنحو جعفر وجذب رداءه قائلاً بصوت فيه حزم:

ـ تأخّر يا عمّ، فأنا أحق بالصلاة علي أبي.

اصفرّ وجه جعفر واربدّ وهو يتأخر واقفاً خلف الصبي الذي بدأ مراسم الصلاةعلي والده الراحل..

ودمعت العيون للصوت الحزين يصلّي علي الراحل کان ذهن أبي الاديان متوتراًللمفاجأة..

انه يشهد أولي علامات الامام الحق.. لقد أخبره الراحل: ان الذي سيصلّيعليّ هو الامام.. بقيت علامتان..

الاولي أن يطالبه الصبي بالرسائل الجوابية التي يحملها من المدائن..

تمّت مراسم الصلاة والتفت الصبي الي أبي الاديان قائلاً:

ـ يا بصري هات جوابات الکتب التي معک!

لم يکن هناک مجال للشک، و سلّم أبو الاديان مجموعة من الرسائل الي الصبيالذي اتجه نحو ستائر اءحدي الحجرات ليتواراي وراءها.. تقدّم رجل نحو جعفرالذي ما يزال حانقاً.. أراد أن يحرجه أکثر فقال له متسائلاً:

ـ يا سيّدي من الصبي؟!

أجاب جعفر بحنق:

ـ والله ما رأيته قطّ ولا أعرفه!!

وارتسمت علي وجه الرجل ابتسامة ساخرة من هذا الذي يدّعي ما ليسله.. وها هو يتراجع أمام صبي يبدو عليه أنه في التاسعة من عمره.. اءنها قوّة الحقالتي لن يصمد أمامها جعفر وامثال جعفر حتي لو کان من ذرّية الامام!

کانت المفاجأة لا تزال تسيطر علي بعضهم خاصّة الّذين رأوا الصبي لاولمرّة..

وحدثت ضجة خارج المنزل.. لقد وصل أخو الخليفة وممثله في مراسم التشييعوالصلاة الرسمية..

استقبل جعفر مبعوث الخليفة وأخاه أبا عيسي بن المتوکل الذي نقل تعازيهوتعازي الخليفة بالمناسبة..

وحُمل النعش الذي ما کاد يغادر المنزل حتي استقبل بالبکاء والنحيب.. لقدرحل السلام.. رحل الانسان الطاهر.. کحمامة بيضاء شهيدة کان النعش المحمول يسير باتجاه المسجد الجامع مخترقاً الشارع الرئيسي المعروف بشارع أبيأحمد..

نسائم کانون الباردة تلفح الوجوه في يوم غائم کئيب.. وکانت مشاعر مزيجةمن الاحساس بالغربة واليتم تغمر القلوب الحزينة لکأن الامام شمس تبعث الدفءوالنور فاءذا غاب غمرت الظلمات النفوس..

وتذکر الناس يوماً حزيناً قبل ستة أعوام يوم شيعوا والد هذا الانسان الطيبالذي وافاه الاجل وهو في ريعان الشباب..

وتساءل البعض في دهشة عن سرّ وفاته؟! انه لم يشتک من علّة قبل ذلک فماالذي حصل؟! لقد اعتادت سامراء علي هذه الظاهرة.. کثيرون لقوا حتفهم فيظروف غامضة!

وُضع النعش قريباً من جدران المسجد لاقامة الصلاة وتقدّم مبعوث الخليفةوأخوه الي النعش وکشف عن وجه الراحل ليبدّد هواجس قد تراود بعض الناس و يدفع شبهة الاغتيال عن الدولة فأعلن أمام شخصيات البيت الهاشمي من العباسيينوالعلويين، وقادة الجيش وکبار موظفي الدولة والبلاط قائلاً:

ـ هذا الحسن بن علي بن محمد بن الرضا مات حتف أنفه علي فراشه وحضرهمن خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان.. والقضاة فلان وفلان ومن الاطباء فلان و فلان وراح يستعرض الشخصيات التي امضت الليالي الاخيرة في منزل الاماملاهداف غامضة.. ثم غطّي باحترام وجه الراحل العظيم.

وأُقيمت الصلاة علي الجثمان الطاهر ليُحمل مرّة أخري ويعود الي المنزل الواقعفي «درب الحصا» وهناک سيواري الثري الي جانب والده الراحل تنفيذاً لوصيته.

وبدا ذلک اليوم الغائم اشبه بيوم القيامة وقد حشر الناس ضحي فالامواجالبشرية تتدافع لتلمس النعش الطاهر تبرکاً لکأنها تمدّ يداً تصافحرسولالله..

القلوب يغمرها الاسي واءحساس بالفجيعة يملا صدور المؤمنين.. ويلج النعشمنزل صاحبه وفاحت رائحة الثري المعطور حيث سيرقد الامام الي جانب والده..لقد وصلا معاً هذه المدينة علي قدر قبل ربع قرن فرحل الوالد قبل ستة أعواموالتحق به الابن في هذا اليوم..

ان الذين يرون ما وراء الافق البعيد سيرون مآذن تشق قلب التراب في هذاالمنزل المبارک، لتستحيل هذه البقعة الطاهرة الي مساجد يذکر فيها اسم الله کثيراً.والي واحة خضراء يتفيأ ظلالها الوارفة المتعبون في دورب الحياة والزمان.

استمر المأتم وکانت رائحة طيبة تشبه رائحة الطين المعطور تفوح في فضاءالمنزل.. الشمس ما تزال مستورة بالسحب بالرغم من أن قرصها المستدير قد بداشفافاً يشبه القمر في لحظات الغروب.

وفي أصيل ذلک اليوم وصل وفد من مدينة قم يحمل معه رسائل من أهلها اضافةالي هميان يشتمل علي الحقوق الشرعية التي يتوجب تسديدها الي الاءمام أو منيوکّله..

في حجرة السيدة نرجس جلست النسوة وکانت أم الحسن اکثرهن اءحساساًبالفجيعة، حتي ان المرء اءذا رآها في تلک الحال سيحدس أنها لن تعيش بعد ابنها اءلاّ أياماً معدودات، أما السيدة نرجس فقد بدا وجهها سماءً مثقلة بغيوم ممطرة.. عيناهاتبحثان عن عزيز فقدته.. زوج کريم رحل وترکها وحيدة وولد طاهر تحمّل أمانةکبري وقرّر خوض ملحمة الصراع المرير أمام أعداء لا يُعرف لهم عدد.. حتي عمّهجعفر غدر بهم.. انه لم يعد يري شيئاً سوي نفسه وسوي اطماعه وحرصه وجشعهوتهافته علي حطام الحياة الدنيا!

تساءل أحد رجال الوفد عن الشخص الذي يقدّمون اليه التعازي فأشير اليجعفر!!

کانت آثار السفر ما تزال تبدو علي أفراد الوفد وهم يصافحون جعفراً الذيرقص قلبه طرباً.. انه يدرک حجم ما معهم من الاموال التي سيقبضها هذااليوم!

تلقي جعفر بانتشاء تعازي القميين وتهنئتهم له بالاءمامة، ولم يستطع اخفاءاءبتسامة صفراء باهتة ارتسمت علي شفتيه.

قال رجل حنکته التجارب:

ـ اءن معنا کتباً وأموالاً..

قال جعفر مستعجلاً:

ـ هاتوها!

قال الرجل بهدوء وحذر:

ـ ألا تقول ممن الکتب؟ وکم المال؟

ـ ومن أين لي أن أعرف ذلک؟!

ردّ الرجل:

ـ هذه عادتنا مع أخيک رحمه الله.

صرّ جعفر علي أسنانه بغيظ.

ـ تريدون منا أن نعلم الغيب.. أنتم تکذبون علي أخي.

أنتفض جعفر من مکانه وهو ينفض أثوابه.. واءنطلق صوب قصر الخلافة وقداستعرت في اعماقه حمّي الغدر.. هذه أفضل فرصة للقبض علي الصبي الذي يقف فيطريق تحقيق أحلامه المريضة.

ما اءن غادر جعفر المنزل حتي خرج من اءحدي الحجرات فتي يرتدي زي الخدموجاء اءلي رجال الوفد قائلاً:

ـ معکم کتب فلان وفلان وهميان فيه ألف دينار.. عشرة منها مطليّةبالذهب..

تبادل رجال الوفد نظرات ذات معني وقال الرجل المحنّک:

ـ الذي وجّه بک لاخذ ذلک هو الاءمام.

وسلّموا اليه الرسائل والهميان وغادروا المنزل بعد أن مکثوا قليلاً..

هبّت رياح کانون باردة کقطيع من الذئاب، وقد توارت الشمس وراء السحبوفي لحظة المغيب کان رجال الشرطة کذئاب غبراء تقتحم منزل الامام وتلقي القبضعلي السيّدة نرجس التي نسيت کل آلامها واستعدّت للمواجهة.

طولبت السيّدة بالصبي فانکرت أن يکون لها ولد.. وقامت بحرکة ذکية عندماتظاهرت بأنها تعاني من الوحام..

أوقف قائد المفرزة رجاله عن التفتيش وأمر باقتياد السيّدة الي بلاط الخليفة.

وأمر الخليفة بتسليم المرأة الطاهرة الي القاضي ابن أبي الشوارب رئيس سلطةالقضاء وقاضي سامراء لتکون تحت الرقابة المشدّدة.. فقد تکون حاملاً أو قد يحاولابنها الاتصال بها فيُلقي القبض عليه..

وشاء القدر أن يصل وفد آخر يضم رجالاً من أهل قم ومن مناطق الشمالالايراني المعروفة آنذاک بالجبل.. وبالرغم من مرورهم ببغداد ألاّ أنهم لم يسمعوابخبر وفاة الحسن فقدموا سامراء، ولم يکن قد مرّ علي وفاة الامام الحسن سويأيام..

وعندما سألوا عن سيدنا الحسن قيل لهم اءنه فقد!

فسألوا عن وارثه

قالوا:

ـ أخوه جعفر بن علي!

قال أحدهم:

ـ فأين نلقاه؟

ـ خرج متنزها، ورکب زورقاً في دجلة يشرب ومعه المغنّون!! أصيب الرجالبصدمة، وتبادلوا نظرات حائرة ثم خلصوا نجيّا قالوا هامسين:

ـ هذه ليست من صفة الامام.

قال أحدهم:

ـ لنعد من حيث أتينا ونعيد هذه الاموال الي أصحابها.

قال أبو العباس وهو رجل يمني نزحت اسرته الي قم:

ـ لننتظر هذا الرجل ونختبر أمره!

وانتظر رجال الوفد عودة جعفر من نزهته في دجلة.. حتي اءذا عاد الي منزلهدخلوا عليه قالوا:

ـ يا سيدنا نحن من أهل قم.. ومعنا جماعة من الشيعة وغيرها، وکنا نحمل اليسيدنا أبي محمد الحسن الاموال.

قال جعفر وقد سال لعابه:

ـ وأين هي؟

ـ معنا.

ـ احملوها الي اءذن.

ـ لا.

ـ لا.. لماذا؟!

ـ ان لهذه الاموال خبراً طريفاً.

ـ وما هو؟!

ـ ان هذه الاموال تُجمع، ويکون فيها من کافة الشيعة الدينار والديناران ثميجعلونها في کيس ويختمون عليه، وکنّا اءذا وردنا بالمال علي سيدنا أبي محمد يقول:جملة المال کذا وکذا دينار من عند فلان کذا ومن عند فلان کذا.. حتي يأتي عليأسماء الناس کلهم ويقول ما علي الخواتيم من نقش.

زعق جعفر وادرک صعوبة هذا الامتحان:

ـ کذبتم... تقولون علي أخي ما لا يفعله.. هذا علم الغيب ولا يعلمه اءلاّ اللهتبادل الرجال نظرات فيها شک في أن يکون جعفر اءماماً.

قال جعفر بفظاظة:

ـ احملوا هذا المال اليّ.

قال رجل يبدو عليه الوقار:

ـ اءنّا قوم مستأجرون.. وکلاء لارباب المال ولا نسلّم المال اءلاّ بالعلامات التيکنا نعرفها من سيدنا الحسن فان کنت الامام فبرهن لنا، واءلاّ رددناها الي أصحابهايرون فيها رأيهم.

وبرقت عينا جعفر بالشّر انه يعرف کيف ينتزع المال منهم، فانطلق الي بلاطالخليفة مرّة أخري.. وسرعان ما الُقي القبض علي رجال الوفد الذين سيقوا اليقصر الخلافة فمثلوا أمام الخليفة الذي قال وهو ينظر اليهم بطرف خفي:

ـ احملوا هذا المال الي جعفر!

قال الرجل الوقور:

ـ انا قوم مستأجرون.. وکلاء لارباب هذه الاموال وهي أمانة لجماعة وأمروناأن لا نسلّمها اءلاّ بعلامة ودلالة وقد جرت بهذه العادة مع أبي محمد الحسن بن علي.

قال الخليفة مستفسراً:

ـ فما کانت العلامة التي کانت لکم مع أبي محمد؟

قال الرجل الوقور:

ـ کان يصف لنا الدنانير وأصحابها والاموال وکم هي.. فاءذا فعل جعفر ذلکسلّمناها اليه..

وسکت لحظات ثم قال مشيراً اءلي جعفر.

ـ اءن کان هذا الرجل صاحب الامر فليقم لنا ما کان يقيمه أخوه والا رددناهاالي اصحابها:

زعق جعفر:

ـ يا أمير المؤمنين اءن هؤلاء قوم کذابون.. يکذبون علي أخي.. وهذا علمبالغيب!

قال الخليفة وقد أدرک ألاّ جدوي من وراء مساندة جعفر:

ـ القوم رسل وما علي الرسول اءلاّ البلاغ المبين.

وبهت جعفر وانخطف لونه.. وقال الرجل الوقور مبتهجاً بموقف الخليفة:

ـ نتمنّي علي أمير المؤمنين أن يرسل معنا من يودّعنا الي خارج المدينة.

قال الخليفة:

ـ سأرسل معکم رجالاً من الشرطة فلا تخشوا شيئاً..

وغادر الجميع قصر الخليفة.. کانت الحيرة تملا قلوب الرجال.. تري من هوالامام الحق بعد الحسن؟

کل شي يوحي بأن لا وجود لاءمام للشيعة بعد الحسن واءذا کان هناک من امامفهو جعفر الذي سيعرف بالکذاب لانه ادعي ما ليس له بأهل!

عاد الرجال الي خان المسافرين وتفقدوا دوابهم في «المربط» وقد صح عزمهمعلي مغادرة سامراء عائدين.. کانوا يتوجسون شرّاً من جعفر لانهم حدسوا أنهناک من يقف وراء جعفر مروّجاً لامامته لاسباب غامضة.. أو طمعاً في المالوأمضوا ليلتهم في الخان يتسامرون، وکانت الحيرة واضحة وهم يتحلّقون حولموقد مسجور.

وکان واضحاً من حيرة أبي العباس ان المستقبل قد بات مظلماً.. فقد بدا ساهماًغارقاً في الوجوم.. هل يمکن أن تنتهي الامامة هکذا؟! وهل يمکن أن تخلو الارضمن حجة لله.. من انسان کامل؟!.. ان الامام يمثل نقطة السلام في دنيا تموجبالزلازل وتعصف بها الحوادث..

وخفتت الاصوات وکان الجمر يخبو شيئاً فشيئاً.. وکان صوت عواء بعيديتناهي الي الاسماع.

فيالصباح الباکر وفيما کانت غيوم کانون تتراکم فوق بعضها البعض غادرالرجال الخان ليجدوا مجموعة من حرس الخليفة سوف يرافقونهم الي خارج سامراءحسب رغبتهم..

بالرغم من سهرهم الطويل وتبادلهم الاحاديث المتشعبة اءلاّ أن أجواء الحيرة ماتزال تسودهم.. فهم يعتقدون ان الامامة ستستمر حتي يوم القيامة.. لان الارضلا تخلو من حجة لله.. من اءنسان يقودهم نحو الکمال.. وهاهم يفدون علي اءمامهمفلا يجدونه.. ولا يجدون اءماماً يقوم مقامه..

قال أبو العباس وکان رجلاً حصيفاً:

ـ ان له ولداً ما في ذلک من شک.. وربّما أخفاه لسبب من الاسباب..

قال آخر:

ـ والله اءنها لحيرة ما بعدها حيرة! انني أقول اءن سيدنا الحسن رحمه الله کان اءماماًمفترض الطاعة ثابت الامامة، وقد توفي والارض لا تخلو من حجة.. فنحن ننتظرحتي يسفر الحق!!

وعندما وصلوا الجادّة المؤدية الي بغداد.. عاد الحرّاس فيما واصل الرجالطريقهم صوب «دار السلام».

لم تکد منازل سامراء تغيب في الافق حتي فوجيء الرجال بمن يدعوهمبأسمائهم.. وعندما التفتوا جهة الصوت شاهدوا فتي مضيء الوجه يناديهم:

ـ يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أَجيبوا مولاکم.

هتفوا بدهشة:

ـ أنت مولانا؟!

أجاب الفتي الذي يرتدي زي الخدم:

ـ معاذ الله.. أنا عبد مولاکم.. فسيروا اءليه.

وقادهم الفتي من طريق علي شاطيء دجلة بعد أن ترکوا دوابّهم مع أحدهموعندما ولجوا حجرة في المنزل وقعت عيونهم علي فتي عشاري القدّ جالساً عليسرير يرتدي ثياباً خضراً.. وخشعت قلوبهم لمرآه فحيّوه بأدب وردّ عليهم التحيةبأحسن منها وقال مبدّداً سحب الحيرة التي اکتنفت نفوسهم:

ـ جملة المال کذا وکذا دينار حَمَل فلان کذا وفلان کذا.. وراح يستعرضتفاصيل ما جاءوا به.. بل تعدّي وصفه للدواب التي حملتهم..

ألقي أبو العباس نفسه علي الارض ساجداً لله الذي أنعم عليه برؤية اءمامعصره..

ولم يبق من مجال للشک فقرّروا العودة الي محط رحلهم واحضار الامانات..

وفي لحظات الوداع أمرهم الامام بعدم المجيء الي سامراء مرّة أخري وأنه سوفينصب لهم وکيلاً في بغداد يحملون اليه الاموال وتخرج عنه التوقيعات..

کما دفع الامام الي أبي العباس شيئاً من الحنوط والکفن وخاطبه معزّياً:

ـ أعظم الله أجرک في نفسک..

فردّ الرجل الوقور بسکينة المؤمن:

ـ اءنّا لله واءنا اءليه راجعون.

ولم تکد القافلة تصل هضاب اقليم همدان حتي توفي الرجل الي رحمة الله.