مشاهد أخري حتي عام 263 ه


وکان حصاد موسم الجفاف خلال العامين المنصرمين قحطاً وغلاءً فاحشاً فيالاسعار اکتوت بناره بغداد فاشتعلت مخيلة الفقراء وراحت تنسج حول مواقد کانونبواکير حکايات «السندباد» التاجر الذي يعود غانماً من رحلاته في البحار البعيدةفيهب الفقراء ذهباً ولؤلؤاً وأملاً بغدٍ أفضل... وستولد حکايات الليالي الطويلةالمثقلة بالرموز بعدما غابت الشمس واستترت وراء غيوم الضياع.

ما بال جعفر يبدو کمن أصابه مسّ من الجنون انه يتجه الي قصر رئيس الوزراءعبيدالله بن يحيي للاجتماع به علي انفراد، ويستقبله الرجل اکراماً لاخيه الراحل فاذابه يسمع من جعفر ما يجعله يسقط من عينه قال جعفر بحماقة:

ـ اجعل لي مرتبة أخي، وأنا أوصل اليک کل سنة عشرين ألف دينار!

ونظر عبيدالله بن يحيي الي جعفر... شتان ما بين الحسن وجعفر کأنه نقيضأخيه.. الحسن في عقله الکبير في کياسته.. في حلمه وتواضعه وطيبته وجعفر بخفتهوتفاهته!!

وهاهو يأتي يطلب من الدولة أن تجعله اءماما للشيعة وکأن الدولة هي التينصبت أخاه وأباه من قبل..

قال رئيس الوزراء وقد احتقره تماماً:

ـ يا أحمق.. السلطان أطال الله بقاءه جرّد سيفه في الذين زعموا أن أباکوأخاک ائمة ليردّهم عن ذلک فلم يتهيأ له ذلک.. فاءن کنت عند شيعة أبيک وأخيکاءماماً فلا حاجة بک الي سلطان يرتبک مراتبهم، ولا غير سلطان.. وان لم تکنعندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا..

وقام رئيس الوزراء بحرکة توحي بانتهاء اللقاء فنهض جعفر يجرّ أذيالالخيبة.. واصدر عبيدالله بن يحيي تعليمات مشدّدة بعدم استقباله مرّة أخري لکنجعفر بذهنه المريض انتبه الي شيء!

فما دام الخليفة يخشي الامام ويطارد الذين يقولون باءمامة أخيه وأبيه فلماذا لايسعي الخليفة الي تنصيب جعفر اءماما علي الشيعة وبهذا يکون أبطل الامامة وفرضهيمنته علي الشيعة؟!

من أجل هذا انطلق صوب الخليفة وعرض عليه اقتراحه ولوّح له بنفس المبلغالذي عرضه علي رئيس وزرائه قال الخليفة وهو يضع النقاط علي الحروف فلا داعيللتستر أمام جعفر:

ـ اعلم ان منزلة أخيک لم تکن بنا.. انما کانت بالله عز وجل.. ونحن کنا نجتهدفي حطّ منزلته والوضع منه.. وکان الله عز وجل يأبي اءلاّ أن يزيده کل يوم رفعة لماکان له من الصيانة وحسن السمت والعلم وکثرة العبادة..

فاءن کنت عند شيعة أخيک بمنزلته فلا حاجة بک الينا، واءن لم تکن عندهمبمنزلته ولم يکن فيک ما کان في أخيک لم نغن عنک في ذلک شيئا..

ان ما قاله الخليفة يعدّ اکبر اعتراف بعدالة قضية الامام الراحل.. ولم يکنالخليفة ليکون بهذه الصراحة لولا أن مخاطبه کان جعفر بکل سخافاته وحماقاته!؟

شيء واحد حصل عليه جعفر هو تأييد الخليفة له باعتباره الوريث الشرعيلترکة الامام الحسن.. ان لدي السلطان قناعة ظاهرة في أن الامام الحسن قد توفيولم يخلف وراءه ولداً وهذا أقصي ما يطمح اليه.

لقد انتهت الامامة اءذن ولم يعد هناک من اءمام بعد اليوم!

أدت الحوادث العاصفة بأسرة الامام الي أن تلزم أم الامام الحسن وزوجةالامام الهادي فراش المرض، فقد توفي ابنها الحبيب واعتقلت زوجته واضطرحفيدها الي الاختفاء، وها هو جعفر لا ينفک يتآمر لتمزيق أسرة أخيه الراحل..

نقلت الجدّة الطيبة الي منزل السيدة حکيمة شقيقة زوجها الراحل لتمريضهاولکن وقع الحوادث وقلقها علي مصير حفيدها قد جعلها هدفاً سهلاً لسهام القدر..

وفي لحظات الاحتضار أوصت أن تدفن الي جانب زوجها وابنها الاءمامينالراحلين..

ومرّة يقف جعفر موقف النذالة اءذ يرفض دفن هذه المرأة الصالحة صارخاً:

ـ هي داري لا تدفن فيها!

وفي مثل هذه اللحظات المصيرية، يتوجب علي الصبي الطاهر أن يظهر مباغتاًجعفر بسؤال استنکاري شديد اللهجة:

ـ يا جعفر! دارک هي؟!

ان الصبي لن يدعوه بعد اليوم بالعم.. لقد انسلخ جعفر من قبيلته ودينه وحتيانسانيته..

وبرقت عينا جعفر بالشرور والغدر وأراد الامساک بالصبي الذي تواري بينالناس، فيما ظل جعفراً حائراً..

وانطلق الصبي الاءمام الي مکان ما فلن يعرف مکانه أحد!

سواف يواکب حرکة التاريخ والزمن، اما علاقته بشعبه فسوف تکون عنطريق تاجر الزيت ذلک الرجل الصالح الذي نذر حياته لعقيدته ومبادئه.. وسيعرفالناس أن عثمان بن سعيد العمري هو السفير الاول بين المهدي وامّته..

اءنّه من السموّ بحيث نال ثقة الامام علي الهادي وابنه الحسن العسکري وهاهو

اليوم يصبح أول سفير للامام المهدي الذي قرّر الاختفاء عن الانظار منذ وفاةوالده.. وکيف لا يحظي بهذه المنزلة وهو الذي تولّي توزيع عشرة آلاف رطل منالخبز وعشرة آلاف رطل من اللحم علي الفقراء والجائعين يوم ولد المهدي.. وهوالذي أمره الامام الحسن بأن يعق عن الحجة بعشرات الاضاحي.

وهو الذي تولّي تغسيل الامام الراحل وتجهيز نعشه بأمر من الامام المهدي الذيلم يکن بوسعه أداء هذه المهمة.

ما يزال بلاط الدولة تراوده الظنون في وجود المهدي الموعود الذي سيظهرويقوّض أرکان حکمهم الي الابد..

فأمّه ما تزال رهن الاعتقال رغم مرور شهور عديدة علي اعتقالها ووضعهاتحت المراقبة لانهم يتصوّرون ان ابنها سيتصل بها وعند ذاک سوف يُلقي القبضعليه..

ولکن الامام کان حذراً في اتصالاته... وفي تلک الفترة صدر توقيع عنه يفيدبتحريم ذکره باسمه في المحافل:

ـ «ملعون ملعون من سمّاني في محفل من الناس».

وکان أول اءجراء اتخذه الامام أن أمر سفيره بنقل نشاطه الي بغداد.. فبغدادمرکز تجاري کبير، ومن الصعب علي الجواسيس مراقبة ما يجري فيها من اتصالاتتتخذ من التجارة غطاءً لها.. ومنذ ذلک الوقت لم يعد أحد يري عثمان بن سعيد يترددعلي سامراء کما کان الحال في زمن الامام الحسن. بل ان الامام نفسه سوف يرتديزي التجار.

وخلال الفترة من عام 260 الي عام 263ه تلاحقت الاحداث بشکل خطير

فقد بدأ الامبراطور باسيل الاول سلسلة من الغارات استهدفت المدن الحدوديةالاسلامية، کما شن الاعراب غاراتهم علي مدينة حمص وحدثت قلاقل في مدينةالموصل سببها عدوان الجنود علي الاهالي وانتهاکهم الاعراض..

وفيما کانت المعارک مع الزنوج مستمرة، اندفع الخوارج في هجومات جديدةبقيادة مساور الشاري وفي الشمال الافريقي حدثت انتفاضة شعبية ضد حکم احمد بنطولون في منطقة برقة قمعت بوحشية وفي تلک الفترة العاصفة ايضاً رأي يعقوب بنليث الصفار مؤسس الدولة الصفارية انتهاز الفرصة فاندفع باتجاه الاهواز وفارسواستولي علي مساحات شاسعة ثم راح يدنو باتجاه بغداد مما بعث الرعب في قلبالخليفة الذي عبأ قوّاته بقيادة أخيه الموفق لوقف الصفار عند حدوده..

وسرعان ما وقعت المعرکة الفاصلة في «دير العاقول» علي بعد 12 ميلاً منبغداد فسحقت قوات الصفار الذي ارتدّ بفلوله الي الاهواز.. ولکنه ظل يشکلخطراً علي الخلافة العباسية ثم وقع حادث غامض اءذ وقع رئيس الوزراء عبيدالله بنيحيي عن دابته عندما صدمه الخادم «رشيق» وتوفي بعد ساعات.

کما توفي الحسن بن محمد بن أبي الشوارب رئيس سلطة القضاء فتولّي رئاستهاأخوه علي بن محمد.

وقد أسهمت هذه الاحداث في التخفيف من محنة السيدة نرجس التي اُفرج عنهابعد اعتقال استمر اکثر من عامين وسوف تعيش حياة التشرّد مدّة من الزمن قبل أنيستجيب الله دعوتها فانتقلت الي الرفيق الاعلي تشکو الي بارئها ظلم الظالمين.

وکان الهمس حول وجود حقيقي للامام المهدي ما يزال مستمراً وأدرکالکثيرون أن الحقيقة توجد لدي عثمان بن سعيد ذلک الرجل الصالح الذي تمکن مناحاطة عدد کبير ممن يوثق بأمانتهم ووعيهم بوجود الامام المهدي.. ولکن الظروفالحساسة التي يمرّ بها الامام جعلته يتکتّم فکان لا يتحدث بهذا الشأن اءلاّ فيالمناسبات التي تستدعي ذلک، کما حدث في تلک الليلة الشتائية عندما جاءه في جنحالظلام رجل يبحث عن الحقيقة فقال له وهو يحاوره:

ـ اسألک بحق الله وبحق الامامين اللذين وثقاک هل رأيت ابن أبي محمد الذي هوصاحب الزمان؟!

غمرت الدموع عيني الرجل الصالح وقال:

ـ أخبرک علي أن لا تخبر أحداً ما دمتُ حيّا؟

وهز الرجل رأسه موافقاً فقال السفير:

ـ أجل قد رأيته.. يوم ولادته.. ورأيته وقد أيفع وأصبح فتي رشيداًموفّقاً.