الحکام بالکتاب بعد رسول الله


قال تعالي:«فلا وربّک لا يؤمنون حتّي يحکّموک فيما شَجَر بينهم» [1] ، حيث تبيّن الآية إحدي وظائف الأنبياء وهي حکومتهم وإرادتهم لمجتمعاتهم.

بالنسبة الي خاتم الرسل صلي الله عليه وآله، وردت آيات تتحدث عن هذه الوظيفه للرسول بلفظة الأولوية، قال تعالي:«النبي أولي بالمؤمنين من أنفسهم» [2] ، وبمعناه قوله تعالي:«وما کان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي اللَّه ورسوله أمراً أن يکون لهم الخيرة من أمرهم». [3] وبلفظ الولاية قال عزّ وجل:«وإنّما وليّکم اللَّه ورسوله والذين آمنوا» [4] .

فمن الواضح أن هذه الوظيفة تثبت للنبي حتي من دون حصوله الفعلي علي مقاليد الاُمور والحکومة الواقعية، وإن کانت الحکومة أجلي مصاديقها مع التمکن.

فرسول اللَّه أولي بالمؤمنين من أنفسهم وإن کان مطارداً کما حدث في مکة قبل الهجرة، وأولي منهم وإن کان مطارداً کما حدث في مکة قبل الهجرة، وأولي منهم وإن کان جيشه مهزوماً ورباعيته تنزف دماً، فکونه أولي من المؤمنين من جملة حقوقه، ومنها حقّ حکم المجتمع، لا أن ذلک الحقّ ثابت فقط عند نجاحه في السيطرة علي السلطة السياسية.

ووظيفته کحاکم إنما هي وظيفة أساسية يحتاجها المجمع الإسلامي أثناء حياة الرسول وبعد وفاته، بل إن الصحابة أفرطوا في حماسهم بعد رحيل الرسول صلي الله عليه وآله الي الدرجة التي ترکوا معها جثمان الرسول وذهبوا الي السقيفة لبحث هذا الأمر، فکيف يقال أن رسول اللَّه صلي الله عليه وآله لم يتحدث عن هذا الأمر المهم؟

وأما مصير هذه الوظيفه بعد الرسول فقد صرح القرآن بوجود أشخاص آخرين لهم نفس هذا الحق الذي کان لرسول اللَّه في قومه تعالي:«أطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول واُولي الأمر منکم» [5] ، فالآية قد قرنت طاعة أولي الأمر بطاعته صلي الله عليه وآله، مما يشعر بثبوتها بنفس الکيفية الثابته لرسول اللَّه صلي الله عليه وآله.

إذاً، فهناک عصبة من الشهداء والعلماء اصطفاهم اللَّه تعالي، وقد ضم اللَّه الي ذلک کلّه فضيلة اُخري هي الحکم ليتم بها إکتمال أرکان الحجة، فماذا کان موقف الناس من هذا الأمر بالطاعة.

لقد صرّح القرآن الکريم بأن الذين اُوتوا الملک العظيم - وهي عبارة اُخري عن حق الحکم هم من قبيل آل إبراهيم في قوله تعالي:«أم يحسدون الناس علي ما آتاهم اللَّه من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الکتاب والحکمة وآتيناهم ملکاً عظيماً» [6] ، وزاد فيه بيان موقف الناس منهم.

فالآية تتحدث عن فضل قوبل بالحسد، وعن جعل سماه هنا إيتاء، وعن شبيه للمتفضل عليهم هم آل إبراهيم... إذاً، فالآل هنا هم آل محمدصلي الله عليه وآله الذين حسدهم الناس.

واللَّه تعالي يسألهم: لماذا تحسدون اُناساً آتاهم اللَّه علم الکتاب والحکمة وآتاهم حقّ الحکم والملک، إلّا لأنهم آل النبي صلي الله عليه وآله؟

فلماذا وأنتم تعرفون من صريح آيات القرآن الکريم أن هذا الأمر له سابقة، إذ إننا آتينا آل إبراهيم الکتاب والحکمة والملک العظيم، فلماذا الحسد لمن يستحق ذلک؟

ولو فهمت أيها القارئ الکريم هذه الآية علي حقيقتها لأدرکت علة المصائب التي مني بها بيت النبي صلي الله عليه وآله، فالحسد کان هو الأصل في هذا العناد الذي مورس ضد أهل البيت عليهم السلام، حتي وصل الأمر الي قتلهم وسبي نسائهم في جيل عاصره الصحابة بل شارک بعضهم ببعض فصوله.

أما لو أردنا أن نعرف من هم أوّل الحکام بالکتاب نجد القرآن بعد أن صرح أن هناک حکّاماً ورثوا الکتاب، بين للناس من هم هؤلاء من أجل أن يطيعوهم ويعملوا بمنهجهم فقال:«إنّما وليّکم اللَّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاه ويؤتون الزکاة وهم راکعون» [7] .

قال السيوطي في(الدر المنثور): أخرج الخطيب في المتفق عن ابن عباس قال: تصدّق عليّ بخاتمه وهو راکع فقال النبي صلي الله عليه وآله للسائل: من أعطاک هذا الخاتم؟ قال: ذاک الراکع فأنزل اللَّه«إنّما وليکم اللَّه ورسوله».

عن ابن عباس في قوله تعالي:«إنّما وليکم اللَّه ورسوله».. الآيه نزلت في عليّ بن أبي طالب [8] ، قال ابن الجوزي:«وأذّن بلال بالصلاة، فخرج رسول اللَّه صلي الله عليه وآله فإذا مسکين يسأل الناس، فقال رسول اللَّه صلي الله عليه وآله:«هل أعطاک أحد شيئاً؟»قال: نعم قال:«ماذا؟»قال: خاتم فضة. قال:«من أعطاکه؟»قال: ذلک القائم، فإذا هو علي بن أبي طالب، أعطانيه وهو راکع، فقرأ رسول اللَّه صلي الله عليه وآله هذه الآية [9] .

والأمر لا يحتاج الي التحقيق في سند الروايات لأن هناک إشعار واضح في الآية أن الحديث عن شخص ما وعن واقعة هي التصدق في حال الرکوع، ولا يتوافق مع هذا الظاهر إلّا المعروف من أن الحديث عن تصدق عليّ عليه السلام بالخاتم وهو راکع، فهو المقصود، وهو أوّل الحکّام، ويتناسب مع کونه هو أوّل العلماء بالکتاب وأوّل الشهداء.

وأخيراً تبيّن أنّ حملة الکتاب لا تعني اليهود والنصاري بل صنف من اُمة الإسلام تشمل النبي وآله، ولا تشمل غيرهم وهکذا مفردة الاصطفاء التي تناولها القرآن فقد شملت النبي صلي الله عليه وآله ومجموعة اُخري تعينه بمن کانوا من السابقين بالخيرات وليس الظالمين ولا غيرهم وهذا ما يشير الي العصمة التي اختصوا فيها، والتي تعني أنهم لم يکونوا ظالمين مطلقاً، وکذلک مسألة الشهادة فالنبي وأهل بيته هم الشهداء علي الناس جميعاً.

وقد تبيّن أن العلماء وحملة الکتاب والورثة بعد النبي هم أهل بيته المعصومون الذين اصطفاهم اللَّه، ثم جعلهم الشهداء علي الکتاب وأخبرهم بالکتاب بعد الرسول، وهذه الاُمور تصدق علي المهدي المنتظر بن الحسن خاتم المعصومين والعدل للقرآن والعارف فيه والشهيد عليه والحاکم به والوراث له والمطبق لأحکامه.


پاورقي

[1] النساء: 65.

[2] الأحزاب: 6.

[3] الأحزاب: 36.

[4] المائدة: 55.

[5] النساء: 59.

[6] النساء: 54.

[7] المائدة: 55.

[8] الدر المنثور للسيوطي 104:30.

[9] زاد المسير، لابن الجوزي 227:2.