حتمية الظهور


سنتناول في هذا الفصل طائفة من الآيات التي تشير الي حتمية ظهور القائم من آل بيت محمدصلي الله عليه وآله والتي تشير بالوقت نفسه الي الغرض الإلهي من خلق البشرية الذي لم يتحقق في التاريخ ولازالت الاُمة تترقبه، وأخيراً الإشارة الي الکيفية التي ستنتهي بها المعرکة بين الحقّ والباطل والتي لم تضع أوزارها حتي الآن.

1 -«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» [1] .

الآية تشير بأن الغاية من إيجاد البشرية والغرض الأساس لخلقها هو إيجاد العبادة الکاملة في ربوع البشرية ومعني العبادة الکاملة تحقيق کل صورها من حيث إيجاد الفرد الکامل والمجتمع الصالح الذي يعيش مستوي العدل والاخلاص والتجرّد من کل شي ء سوي عبادة اللَّه تعالي، تلک العبادة التي تتضمن تربية الفرد والمجتمع والارتباط بکل شي ء علي مستوي العدل الإلهي، ومن ثم إيجاد الدولة العادلة التي تحکم المجتمع بالحقّ والعدل وبشريعة اللَّه وتکون هي المسؤولة عن السير قدماً بالمجتمع والبشرية نحو زيادة في التکامل في الطريق الطويل غير المتناهي الخطوات، هذا هو خلاصة لمعني العبادة في الآية الکريمة، وکل ما سوي ذلک فهو تقصير في العبادة الحقيقية تجاه اللَّه سبحانه.

والآية تؤکد ما قدمناه من المعني ذلک بقرينة وجود التعليل في قوله تعالي ليعبدون مع الحصر المستفاد من الآية من وقوع أداة الاستثناء(إلّا)بعد النفي حين قال عزّ من قائل:«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ».

وبهذا يتقرر الهدف الوحيد من خلقة البشرية الذي ينحصر بالعبادة وهو هدف ملحوظ ومخطط له بشکل خاص منذ بدء الخليقة ويبقي بطبيعة الحال مواکباً لها مادامت البشرية في الوجود.

وهذه العبادة لم تکن إلّا لمصلحة العباد، لأن اللَّه غني عن العالمين وبها تحصل البشرية علي کمالها المنشود.

ومن المعروف أنّ العبادة بهذا التصوير لم تتحقق في التاريخ إذاً فهي من الآيات التي تشير الي حتمية ظهور الدولة العالمية بقيادة المعصوم المهدي بن الحسن عليه السلام.

2 - قوله تعالي:« هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَي وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ کُلِّهِ وَلَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ» [2] .

وهذه من الآيات التي يمکن تطبيقها علي دولة الإمام المهدي العالمية في آخر الزمان، لأن إظهار الدين الإسلامي وسيادته علي کل الأديان وفي کل العالم لم يتحقق في التاريخ لحد الآن، ولمّا کان المولي صادق الوعد فلابد من إيجاد الظهور في التاريخ والروايات تشير الي هذا المعني.

عن المقداد بن الأسود، قال سمعت رسول اللَّه صلي الله عليه وآله يقول:«لا يبقي علي ظهر الأرض بيت مَدَر ولا وَبَر إلّا أدخله اللَّه کلمة الإسلام يعز عزيز ويُذل ذليل، أما يُعزهم فيجعلهم من أهله أو يُذلهم فيدينون لهم» [3] .

عن عائشة أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه وآله قال:«لا يذهب الليل والنّهار حتي تُعبد الّلات والعزّي».

قالت عائشة فقلت: يا رسول اللَّه، إنّي کنت أظن حين أنزل اللَّه تبارک وتعالي:« هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَي وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ کُلِّهِ وَلَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ»انّ ذلک يکون تاماً؟

فقال صلي الله عليه وآله:«إنّه سيکون من بعد ذلک ما شاء اللَّه، ثم يبعث اللَّه ريحاً طيبة، فيتوفي من کان في قلبه مثقال حبة من خردلٍ من خير، فيبقي من لا خير فيه فيرجعون الي دين آبائهم» [4] .

وعن تميم الذاري، قال: سمعت رسول اللَّه صلي الله عليه وآله يقول:

«ليبلُغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنّهار، ولا يترک اللَّه بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلّا أدخله هذا الدين، يُعزّ عزيز ويذلّ ذليل، عِزّاً يعزّ اللَّه به الإسلام وأهله، وذُلاً يُذلّ به الکفر وأهله» [5] .

وعن أبي ثعلبة الخشني قال: کان رسول اللَّه صلي الله عليه وآله إذا رجع من غزاة أو سفرٍ، أتي المسجد فصلّي فيه رکعتين، ثم ثنّي بفاطمة رضي اللَّه عنها، ثم يأتي أزواجه، فلمّا رجع [ذات مرّة] خرج من المسجد، فتلقّته فاطمة عند باب البيت، وأخذت تقبّله وتبکي، فقال:

«يا بنيّة ما يُبکيک؟ قالت: يا رسول اللَّه ألا أراک شَعْثاً نصْباً قد اُخلولقت ثيابک؟ قال فقال لها: لا تبکي فإنّ اللَّه عزّ وجعل بعث أباک لأمرٍ لا يبقي علي ظهر الأرض بيت مدر ولا شعر إلّا أدخل اللَّه به عزّاً أو ذلاً، حتي يبلغ حيث بلغ الليل والنّهار» [6] .

ولما سألوا أبا هريرة عن تفسير قوله تعالي:« هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَي وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ کُلِّهِ وَلَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ»

قال:«هذا وعدٌ من اللَّه بأنه تعالي يجعل الإسلام عالياً علي جميع الأديان» [7] .

ولما سُئل السّدي عن تفسير الآية السابقة قال:

«وذلک عندَ خروج المهديّ» [8] .

« هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَي وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ کُلِّهِ وَلَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ»

ثم سأل الحاضرين:«هل ظهر الإسلام علي الدين کلّه، بعد أن أرسل رسوله بالهُدي ودين الحقّ؟»فقالوا: نعم! فقال لهم:

«کلا فوالذي نفسي بيده، لا تبقي قرية إلّا ينادي فيها بشهادة أن لا إله إلّا اللَّه، وأنّ محمداً رسول اللَّه بکرةً وعشياً» [9] .

وسألوا الإمام محمد الباقرعليه السلام عن تفسير الآية السابقة فقال:

«إنّ ذلک يکون عند خروج المهدي من آل محمّد فلا يبقي أحد إلّا أقرّ بمحمدصلي الله عليه وآله». [10] .

وسأل المفضل بن عمر الإمام جعفراً الصادق عليه السلام عن تأويلها، بعد أن أخبره بأنّ بعض المسلمين يدّعون أن الإسلام قد ظهر علي الأديان کلّها! فأجابه صلي الله عليه وآله:

«يا مفضل لو کان ظهر علي الدين کلّه، ما کانت مجوسية ولا فرقة، ولا خِلاف، ولا شک، ولا شرکٌ، ولا عبدةُ أصنام، ولا أوثان». [11] .

وفي تفسير البرهان عن الصدوق بإسناده عن أبي بصير: قال أبوعبداللَّه عليه السلام في قوله عزّ وجل:« هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَي وَدِينِ الْحَقِّ... الآية»واللَّه ما نزل تأويلها بعد ولا ينزل تأويلها حتي يخرج القائم فإذا خرج القائم لم يبق کافر باللَّه ولا مشرک بالإمام إلّا کره خروجه حتي لو کان الکافر في بطن صخرة قالت: يا مؤمن في بطني کافر فاکسرني واقتله».

وفي الدر المنثور: عن جابر في قوله:«لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ کُلِّهِ»قال: لا يکون ذلک حتي لا يبقي يهودي ولا نصراني صاحب ملّة إلّا الإسلام حتي تأمن الشاة الذئب، والبقرة الأسد، والإنسان الحية، وحتي لا تقرض فأرة جراباً، وحتي يوضع الجزية ويکسر الصليب ويقتل الخنزير، وذلک إذا نزل عيسي بن مريم عليه السلام.

والمراد بوضع الجزية أن تصير متروکة لا حاجة إليها لعدم الموضوع بقرينة صدر الحديث، وما دلّت عليه هذه الروايات من عدم بقاء کفر ولا شرک يومئذٍ يؤيدها روايات اُخري، وهناک روايات اُخري تدل علي وضع المهدي عليه السلام الجزية علي أهل الکتاب بعد ظهوره.

وربّما أيّده قوله تعالي في أهل الکتاب:«وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَي يَوْمِ الْقِيَامَةِ» [12] ،«فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَي يَوْمِ الْقِيَامَة» [13] ، وما في معناه من الآيات فإنها لا تخلو من ظهور ما في بقائهم الي يوم القيامة إن لم تکن کناية عن ارتفاع المودة بينهم ارتفاعاً أبدياً.

3 -«وَلَقَدْ کَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّکْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّلِحُونَ» [14] .

لا نريد أن نخوض في بحث ماهو الزبور وما المقصود منه فيما إذا کان کتاب داود أو المراد به القرآن أو مطلق الکتب المنزّلة علي الأنبياء بعد موسي.

کما لا نريد أن نخوض أيضاً في تفاصيل معني الذکر فيما إذا کان المقصود منه القرآن لنقض هذا القول من کون الزبور جاء بعد الذکر فمرتبته متأخرة عنه فلا يصدق من کونه القرآن أو المقصود منه اللوح المحفوظ وما الي ذلک من آراء بل غرضنا أن فکرة الوراثة للأرض علي أنها ستتم لعباد اللَّه الصالحين وهذا ما ينسجم مع التفکير المهدوي القائل بأن الارادة والتخطيط الإلهي سينتهي بالمجتمع الفاضل وهذا التخطيط له عمقه التاريخي ولم يکن وليد التفکير الإسلامي وإنّما نجد بذوره الاُولي مکتوبة منذ القدم في الذکر وفي الزبور، قال الإمام الصادق عليه السلام:«الزبور فيه ملأهم وتحميد وتمجيد ودعاء» [15] .

نعم جاءت الرسالة الإسلامية لتؤکده وتجذره وتعمل من أجله.

تبقي مسألة وراثة الأرض وما المقصود منها؟

قال البعض بأن المقصود من الوراثة هنا وراثة اُخروية بمعني أن المولي أعطانا وراثة الأرض التي تعني القرب من اللَّه سبحانه وهذه المرتبة أي مرتبة القرب من اللَّه معنوية، وقد حصلوا عليها في الحياة الدنيا فتکون هي السبب بأن يحصلوا علي نعيم الآخرة، ولولا وراثتهم للأرض من جهة القرب لما حصلوا علي الجنة، ويؤيده قوله تعالي حکاية عن أهل الجنة:«وقالوا الحمدللَّه الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوّأ من الجنة حيث نشاء» [16] .

وقال البعض لا يمکن حصرها بالوراثة الاُخروية ولا بالدنيوية وإنّما بالأثنتين معاً.

والرأي الثالث يقول بأنها وراثة دنيوية.

والمراد بها وراثة الأرض في الدنيا زمن ظهور الإمام المهدي عليه السلام والسيطرة علي برکاتها وخيراتها من قبل الصالحين من عباد اللَّه، الأمر الذي يستوجب تطهير الأرض من براثن الشرک والضلال والظلم والاستبداد وهذا لا يتم إلّا بوجود المجتمع الصالح الذي لا يشوبه شرک وضلال وتتجسد فيه العبادة بکل صورها وهذا لم يتحقق علي الأرض حتي الآن فعليه لابد من تحققه إنطلاقاً من هذه الحتمية الإلهية المترقبة الحدوث.

قال الإمام الصادق عليه السلام:«الصالحون، هم أصحاب المهدي عليه السلام» [17] .


پاورقي

[1] الذاريات: 56.

[2] التوبة: 33.

[3] مجمع الزوائد 14:6، ومستدرک الصحيحين 430:4.

[4] مستدرک الصحيحين 447:4، وقال حديث صحيح علي شرط مسلم ووافقه الذهبي.

[5] مجمع الزوائد 14:6، قال: رواه أحمد والطبري ورجال أحمد رجال الصحيح، مستدرک الصحيحين 430:4، وقال: صحيح ووافقه الذهبي في التخليص.

[6] مستدرک الصحيحين 155:3، وقال: صحيح وتعقبه الذهبي مضعفاً له ولم يفعل شيئاً، لأن الأحاديث السابقة شاهدة علي صحته.

[7] التفسير الکبير للفخر الرازي 40:16.

[8] تفسير أبي الفتوح 16:6.

[9] تأويل الآيات 689:2، ينابيع المودّة للحنفي القندوزي: 423.

[10] تفسير العياشي 87:2 ح50.

[11] الهداية الکبري: 82 - 74، البحار 4: 53.

[12] المائدة: 64.

[13] المائدة: 14.

[14] الأنبياء: 105.

[15] بحار الأنوار 47:51.

[16] الزمر: 74.

[17] اثبات الهداة 50:7 و 125:7.