احتجاج الشيخ المفيد


هو الاِمام أبو عبدالله محمد بن محمد بن النعمان، المعروف بالشيخ المفيد، وابن المعلم، انتهت رئاسة الاِمامية في وقته إليه، وفضله أشهر من أن يوصف في الفقه والکلام والرواية والثقة والعلم، وکان؛، خاشعاً متعبداً متألهاً کثير الصلاة والصوم والصدقات، توفي في بغداد سنة 413 هـ.

روي السيد المرتضي قدس سره عن الشيخ المفيد، أنّه قال: سأل بعض المعتزلة شيخاً من أصحابنا الاِمامية وأنا حاضر في مجلس قد ضمَّ جماعة کثيرة من أهل النظر والمتفقهة، فقال له: إذا کان من قولک إنّ الله يردَّ الاَموات إلي دار الدنيا قبل الآخرة عند قيام القائم ليشفي المؤمنين کما زعمتم من الکافرين، وينتقم لهم منهم کما فعل ببني إسرائيل فيما ذکرتم حتي تتعلقون بقوله تعالي: (ثُمَّ رَدَدنَا لَکُمُ الکَرةَ عَلَيهِم وأمدَدنَاکُم بأموالٍ وبَنِينَ وجَعلنَاکُم أکثَرَ نَفيراً) [1] فخبّرني ما الذي يؤمنک أن يتوب يزيد وشمر وعبدالرحمن بن ملجم ويرجعوا عن کفرهم وضلالهم، ويصيروا في تلک الحال إلي طاعة الاِمام، فيجب عليک ولايتهم والقطع بالثواب لهم، وهذا نقض مذهب الشيعة؟



[ صفحه 89]



فقال الشيخ المسؤول: القول بالرجعة إنّما قبلته من طريق التوقيف، وليس للنظر فيه مجال، وأنا لا أُجيب عن هذا السؤال لاَنّه لا نصَّ عندي فيه، وليس يجوز أن أتکلّف من غير جهة النصّ الجواب، فشنّع السائل وجماعة المعتزلة عليه بالعجز والانقطاع.

فقال الشيخ المفيد قدس سره: فأقول أنا: إنَّ علي هذا السؤال جوابين:

أحدهما: إنَّ العقل لا يمنع من وقوع الاِيمان ممّن ذکره السائل، لاَنّه يکون إذ ذاک قادراً عليه ومتمکناً منه، لکن السمع الوارد عن أئمة الهدي عليهم السلام بالقطع عليهم بالخلود في النار والتدين بلعنهم والبراءة منهم إلي آخر الزمان، منع من الشکّ في حالهم، وأوجب القطع علي سوء اختيارهم، فجروا في هذا الباب مجري فرعون وهامان وقارون، ومجري من قطع الله عزَّ اسمه علي خلوده في النار، ودلَّ بالقطع علي أنهم لا يختارون أبداً الاِيمان، وأنهم ممّن قال الله تعالي في جملتهم: (ولو أننا نَزَّلنَا إليهُمُ الملائکَةَ وکَلَمهُم الموتي وحَشرنا عَليهِم کُلَّ شَيءٍ قُبُلاً ما کانُوا ليُؤمِنُوا إلاّ أن يَشاءَ اللهُ) [2] يريد إلاّ أن يلجئهم الله، والذين قال الله تعالي فيهم (إنَّ شَرَّ الدوابِ عِندَ اللهِ الصُمُ البُکمُ الَّذينَ لا يعقلُونَ، ولو عَلِمَ اللهُ فِيهِم خَيراً لاَسمَعَهُم ولو أسمَعَهُم لتَولَوا وهُم مُعرِضُونَ) [3] .

ثم قال جلَّ من قائل في تفصيلهم وهو يوجه القول إلي إبليس: (لاَملاَنَّ جَهنَّم مِنکَ ومِمن تَبِعَکَ مِنهُم أجمَعينَ) [4] وقوله: (وإنَّ عَليکَ لَعنَتي



[ صفحه 90]



إلي يَومِ الَّدِينِ) [5] وقال: (ولَو ردُّوا لَعادُوا لِمَا نُهُوا عَنهُ) [6] وقال: (تَبَّت يَدا أبي لهبٍ وَتَبَّ، ما أغني عنهُ مالُهُ وما کَسَبَ، سَيَصلَي ناراً ذَاتَ لَهبٍ) [7] فقطع عليه بالنار، وأمن من انتقاله إلي ما يوجب له الثواب، وإذا کان الاَمر علي ما وصفناه بطل ما توهّموه علي هذا الجواب.

والجواب الآخر: أنّ الله سبحانه إذا ردّ الکافرين في الرجعة لينتقم منهم لم يقبل لهم توبة، وجروا في ذلک مجري فرعون لمّا أدرکه الغرق (قالَ آمنتُ أنّهُ لا إلهَ إلاّ الَّذي آمنَت بهِ بَنُوا إسرائِيلَ وأنا مِنَ المُسلمِينَ)، وقال الله سبحانه: (ءَالآنَ وقد عَصيتَ قَبلُ وکُنتَ مِنَ المُفسِدِينَ) [8] فرد الله عليه إيمانه، ولم ينفعه في تلک الحال ندمه وإقلاعه، وکأهل الآخرة الذين لا تقبل لهم توبة ولا ينفعهم ندم، لاَنّهم کالملجئين إذ ذاک إلي الفعل، ولاَنَّ الحکمة تمنع من قبول التوبة أبداً، وتوجب اختصاص بعض الاَوقات بقبولها دون بعض.

وهذا هو الجواب الصحيح علي مذهب أهل الاِمامة، وقد جاءت به آثار متظاهرة عن آل محمد عليهم السلام حتي روي عنهم في قوله سبحانه: (يَومَ يَأتِي بَعضُ آياتِ رَبِکَ لا يَنفَعُ نَفسَاً إيمانُها لَم تَکُن آمنَت مِن قبلُ أو کَسَبتْ في إيمانِها خَيرَاً قُلِ انتَظرُوا إنّا مُنتظِرُونَ) [9] فقالوا: إنَّ هذه الآية هو القائم عليه السلام، فإذا ظهر لم تقبل توبة المخالف، وهذا يسقط ما اعتمده السائل.



[ صفحه 91]



سؤال: فإن قالوا في هذا الجواب: ما أنکرتم أن يکون الله سبحانه علي ما أصّلتموه قد أغري عباده بالعصيان، وأباحهم الهرج والمرج والطغيان، لاَنّهم إذا کانوا يقدرون علي الکفر وأنواع الضلال، وقد يئسوا من قبل التوبة، لم يدعهم داعٍ إلي الکفّ عمّا في طباعهم، ولا انزجروا عن فعل قبيح يصلون به إلي النفع العاجل، ومن وصف الله سبحانه بإغراء خلقه بالمعاصي وإباحتهم الذنوب، فقد أعظم الفرية عليه؟

جواب: قيل لهم: ليس الاَمر علي ما ظننتموه، وذلک أنَّ الدواعي لهم إلي المعاصي ترتفع إذ ذاک، ولا يحصل لهم داع إلي قبيح علي وجهٍ من الوجوه ولا سببٍ من الاَسباب، لاَنّهم يکونون قد علموا بما سلف لهم من العذاب إلي وقت الرجعة علي خلاف أئمتهم عليهم السلام، ويعلمون في الحال أنهم معذّبون علي ما سبق لهم من العصيان، وأنّهم إن راموا فعل قبيح تزايد عليهم العقاب، ولا يکون لهم عند ذلک طبع يدعوهم إلي ما يتزايد عليهم به العذاب، بل تتوفّر لهم دواعي الطباع والخواطر کلّها إلي إظهار الطاعة والانتقال عن العصيان، وإن لزمنا هذا السؤال لزم جميع أهل الاِسلام مثله في أهل الآخرة وحالهم في إبطال توبتهم، وکون توبتهم غير مقبولة منهم، فمهما أجاب به الموحدون لمن ألزمهم ذلک، فهو جوابنا بعينه.

سؤال آخر: وإن سألوا علي المذهب الاَول والجواب المتقدم فقالوا: کيف يتوهّم من القوم الاِقامة علي العناد والاصرار علي الخلاف، وقد عاينوا فيما يزعمون عقاب القبور، وحلّ بهم عند الرجعة العذاب علي مايعلمون ممّا زعمتم أنّهم مقيمون عليه، وکيف يصحّ أن تدعوهم الدواعي إلي ذلک، ويخطر لهم في فعله الخواطر، وما أنکرتم أن تکونوا



[ صفحه 92]



في هذه الدعوي مکابرين؟

الجواب: قيل لهم: يصحّ ذلک علي مذهب من أجاب بما حکيناه من أصحابنا بأن نقول: إنَّ جميع ما عددتموه لا يمنع من دخول الشبهة عليهم في استحسان الخلاف، لاَنَّ القوم يظنون أنّهم إنّما بعثوا بعد الموت تکرمة لهم وليلوا الدنيا کما کانوا، ويظنون أنَّ ما اعتقدوه في العذاب السالف لهم کان غلطاً منهم، وإذا حلَّ بهم العقاب ثانيةً توهّموا قبل مفارقة أرواحهم أجسادهم أنّ ذلک ليس من طريق الاستحقاق، وأنّه من الله تعالي، لکنّه کما تکون الدول، وکما حلّ بالاَنبياء.

ولاَصحاب هذا الجواب أن يقولوا: ليس ما ذکرناه في هذا الباب بأعجب من کفر قوم موسي وعبادتهم العجل، وقد شاهدوا منه الآيات، وعاينوا ما حلَّ بفرعون وملئه علي الخلاف، ولا هو بأعجب من إقامة أهل الشرک علي خلاف رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وهم يعلمون عجزهم عن مثل ما أتي به القرآن، ويشهدون معجزاته وآياته عليه وآله السلام، ويجدون مخبرات أخباره علي حقائقها من قوله تعالي: (سَيهُزَمُ الجَمعُ ويُولّونَ الدُبُرَ) [10] وقوله: (لَتدخُلُنَّ المَسجِدَ الحَرامَ إن شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [11] وقوله: (ألم، غُلِبَتِ الرُومُ، في أدني الاَرضِ وهُم مِن بَعدِ غَلَبِهِم سَيغلِبُونَ) [12] وماحلَّ بهم من العقاب بسيفه عليه وآله السلام، وهلاک کلّ من توعّده بالهلاک، هذا وفيمن أظهر الاِيمان به المنافقون ينضافون في خلافه إلي أهل الشرک والضلال.



[ صفحه 93]



علي أنَّ هذا السؤال لا يسوغ لاَصحاب المعارف من المعتزلة، لاَنّهم يزعمون أنّ أکثر المخالفين علي الاَنبياء کانوا من أهل العناد، وأنَّ جمهور المظهرين للجهل بالله يعرفونه علي الحقيقة ويعرفون أنبياءه وصدقهم، ولکنّهم في الخلاف علي اللجاجة والعناد، فلا يمنع أن يکون الحکم في الرجعة وأهلها علي هذا الوصف الذي حکيناه، وقد قال الله تعالي: (ولَو تَري إذ وُقِفُوا علي النَارِ فقَالُوا يَاليتَنا نُردُّ ولا نُکذّبَ بآياتِ ربّنا ونَکُونَ مِن المؤمِنينَ، بَل بَدا لَهُم ما کَانُوا يُخفُونَ مِن قَبلُ ولَو رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهوا عَنهُ وإنّهُم لکَاذِبُونَ) [13] فأخبر سبحانه أنَّ أهل العقاب لو ردّهم الله تعالي إلي الدنيا لعادوا إلي الکفر والعناد مع ما شاهدوا في القبور وفي المحشر من الاَهوال وما ذاقوا من أليم العذاب [14] .


پاورقي

[1] سورة الاِسراء 17: 6.

[2] سورة الانعام 6: 111.

[3] سورة الانفال 8: 22 ـ 23.

[4] سورة ص 38: 85.

[5] سورة ص 38: 78.

[6] سورة الانعام 6: 28.

[7] سورة المسد 111: 1 ـ 3.

[8] سورة يونس 10: 90 ـ 91.

[9] سورة الانعام 6: 158.

[10] سورة القمر 54: 45.

[11] سورة الفتح 48: 27.

[12] سورة الروم 30: 1 ـ 3.

[13] الانعام 6: 27 ـ 28.

[14] الفصول المختارة، للمرتضي: 153 ـ 157.