تفنيد التشکيک دينياً


2- وأما مناقشته دينياً فکما يلي:

الأول: تقول المصادر الدينية بأن العديدين من البشر عاشوا طويلاً، فالنبي نوح کانت فترة رسالته قبل الطوفان تسعمائة وخمسين سنة کما يقول القرآن الکريم: (فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان) [1] وحياة نوح وسعت ثلاث مراحل، المرحلة الأولي، تبدأ بميلاده وتنتهي ببعثته رسولاً إلي قومه. المرحلة الثانية، تبدأ ببعثته رسولاً إلي قومه وتنتهي بالطوفان، المرحلة الثالثة تبدأ بالطوفان وتنتهي بوفاته. وفي بعض الحديث أن مجموع حياته بلغت ألفين وخمسمائة سنة [2] .

والحضر وإلياس کانا من قبل موسي بن عمران، ولا زالا حيين يرزقان. وعيسي ابن مريم ولد قبل حوالي ألفي سنة وعاش إلي اليوم، ولن يموت قبل أن ينزل من السماء، ويوجّه المسيحيين إلي الدين الحق، کما يقول القرآن: (وإن من أهل الکتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يکون عليهم شهيداً) [سورة النساء: الآية 159] [3] والأعور الدجال کان قبل أيام النبي الأکرم (صلّي الله عليه وآله) ولا زال حياً. وسيبقي حتي يقتل بيد عيسي ابن مريم عند ظهور الإمام المنتظر، وعوج بن عناق - سبط آدم - عاش ثلاثة آلاف سنة حتي قتله موسي بن عمران. حسب النصوص الواردة في شأنه.

وإذا عاش غير الإمام المنتظر طويلاً فماذا يمنع أن يعيش الإمام المنتظر طويلاً، وهو لم يبلغ حتي الآن من العمر ما بلغه أولئک.

سؤال: إذا کان الإنسان القديم يعيش طويلاً، فلأن معدل الأجسام والأعمار لکل الکائنات الأرضية کان أعلي نتيجة لفتوّة الأرض وقوة حرارتها الباطنية، أما في هذه الفترة من عمر الأرض، التي انخفضت فيها حرارة الأرض الباطنية، وبالتبع انخفضت معدل جميع الکائنات الأرضية فلا يمکن لإنسان أن يعيش أطول من المعدل بکثير.

جواب: أولاً: صحيح أن نسبة الحرارة الباطنية للأرض تنعکس علي معدلات الکائنات الأرضية، ولکنها ليست السبب الوحيد لتحديد تلک المعدلات، فالترکيبات الکيمياوية هي التي تقرر المعدلات، وحرارة الأرض تساهم في تقرير المعدلات عن طريق انعکاسها علي الترکيبات الکيمياوية، فإذا أمکن التوفير علي تلک الترکيبات ارتفعت المعدلات حتي مع انخفاض حرارة الأرض، وإذا حدث التهريب لنسبة معينة من تلک المرکبات انخفضت المعدلات حتي مع ارتفاع حرارة الأرض.

ومن هنا تسود الأوساط العلمية فکرة تسميد الکائنات النباتية والحيوانية بالمواد الکيمياوية لتصعيد معدلاتها.

ثانياً: إن أکثر المعمرين الذين ذکرناهم لا يعتبرون من الإنسان القديم، لأنهم لازالوا أحياء حتي اليوم، کالخضر وإلياس والمسيح والدجال.

الثاني: تؤکد النصوص المبشرة بالإمام المنتظر، علي أنه هو المهدي بن الحسن العسکري بن علي بن محمد بن علي بن موسي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأنه هو الذي يملأ الله به الأرض عدلاً وقسطاً بعد أن تملأ ظلماً وجوراً، وقد وردت بشأنه تلويحات سماوية في الکتب المقدسة، وتصريحات نبوية عن جميع الطرق الإسلامية، والنصوص التي تصرح باستمرار حياته حتي يظهر ويظهر الله به دينه علي الدين کله مستفيضة إن لم تکن متواترة.

والأحاديث التي وصلتنا عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) حول المهدي المنتظر. ونسبه ومواصفاته النفسية والجسدية. تتجاوز ألف حديث (نذکر في هذا الکتاب قسماً منها) وردت بجميع الطرق الإسلامية وتتواجد في کافة الصحاح والمجاميع المعتبرة، وبأسانيد فيها مجموعة موثقة لدي جميع المسلمين.

وهل باستطاعة مسلم أن يجد هذا الحشد الکبير من الأحاديث عن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) ثم ينکر محتواها؟ مع العلم بأن المسلمين يأخذون بالخبر الواحد. وبالسند الواحد إذا کان موثقاً.

الثالث: إن الناس - عادة - إذا وثقوا بشخص أو بمصدره يقبلون کل ما يصلهم منه ويخطئون أنفسهم إذا لم يستطيعوا هضم بعض ما يصلهم منه، فأنت تضع نفسک في کف قائد طائرة تقلها، وأنت لا تعرف شخصه ولا شيئاً من خبره ثقةً بإدارة شرکة طيران لا تعرف شيئاً منها، رغم کل ما تسمع وتقرأ عن أخطاء قادة الطائرات، وربما تسلم قلبک أو دماغک لمبضع جراح، ثقة في المعاهد التي تخرّج الأطباء، رغم کل ما يتناهي إليک من زيف الشهادات ومداهنة المعاهد لطلابها، والجندي يخوض معرکة ساخنة فيها الموت، ثقة بقيادته التي قد يعرفها بالطيش والمجون... وهکذا الناس يتعاملون مع المصادر التي استقطبت ثقتهم فيما يفهمون وفيما لا يفهمون من توجيهاتها اتکالاً علي ثقتهم بها، ويسفهون أنفسهم فيما يستغربون تطميناً لتلک الثقة أن لا تخدش. فالأحري بمن آمن بالله ورسله ورسالاته، إيمان العقل والقلب والضمير. أن لا يتردد في قبول ما قد يبدو له لديه مستغرباً أو مستبعداً، خاصة وهو يعلم أن قدرة الله مطلقة، وأن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

وإذا سألت أحد المؤمنين بالله: هل يستطيع أن يخلق من هذه الأرض. ومن مثل هذه البيئات المعاصرة، إنساناً يعيش بکامل نشاطه النفسي والجسدي ملايين السنين دون أن يهدّه الزمان؟ فسيکون الجواب حتماً بالإيجاب. وطالما هو يحمل مثل هذا الإيمان بقدرة الله، فکيف يمکن له أن ينکر أو يشکک في حياة إنسان عاش ألفاً واحداً من السنوات، بعد أن ثبت في الأوساط المعبرة عن الله، أن الله خلق هذا الإنسان، ولا يزال يهيئه لإحداث تطور عالمي کبير.

فالإيمان بالله، والعلم بأن رسول الله قد أخبر بالإمام المنتظر، لا يتوافقان مع إنکاره أو التشکيک فيه مهما کانت المبررات. والذي ينکر الإمام المنتظر أحد شخصين: إما غير مؤمن بالله في قرارة نفسه وإن تظاهر بالإيمان، فيأخذ بمعطيات عقله علي حساب مقتضيات إيمانه. وإما شاک في أن رسول الله (صلّي الله عليه وآله) قد أخبر بالإمام المنتظر.

فعلينا أن نحول الشخص الأول علي الأدلة التي تقول بأن وجود إنسان ألف عام أو أکثر ممکن علمانياً، وأن نحول الشخص الثاني علي المصادر التي يأخذ منها دينه ليجد فيها وجه الإمام المنتظر.


پاورقي

[1] سورة العنکبوت: الآية 14.

[2] وهنا يحاول البعض التخلص من دلالات القرآن والتاريخ علي أن الإنسان قد يعيش طويلاً، فيقول: (إن العرب في الجاهلية لم يکونوا يعرفون السنين والحساب، ولم يکونوا يفهمون من الظاهر الکونية سوي القمر، فکانوا يحسبون به الأيام، فکان الشهر عندهم سنة، فإذا قالوا خمسين سنة - مثلاً - عنوا خمسين شهراً).

ويمکن الإجابة علي هذا القول:

أولاً: إن العرب في الجاهلية لم يکونوا بهذا المستوي.

ثانياً: إن التعبير بالسنة لم يکن مختصاً بالعرب، فکل الناس کانوا يضبطون أعمارهم وأعمالهم بالسنة کما کانوا يضبطونها بالشهر وبالأسبوع وباليوم وبالساعة.

ثالثاً: إن صح هذا القول فعلينا أن نعدل جميع التواريخ، فکلما وردت کلمة (سنة) نبدلها بکلمة (شهر).

رابعاً: علينا بعد ذلک أن نُخطّئ کل التواريخ، لأنها تقول - مثلاً -: فلان عاش سبعين سنة، وتزوج (کذا) من النساء ورزق (کذا) ولداً، وفتح (کذا) بلداً، مما لا يمکن أن يقوم به طفل کل عمره أقل من ست سنوات.

خامساً: إن النصوص الإسلامية التي تحدد أعمار نوح وخضر وإلياس و... نصوص لم تصدر في الجاهلية، وإنما صدرت في الإسلام.

سادساً: إن القرآن بنفسه يتولي تحديد مفهوم السنة في کل الشرائع، فيرکز علي أن السنة تهني اثني عشر شهراً في کل الديانات، لأن الله قررها هکذا منذ الأزل، فيقول: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في کتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلک الدين القيم...) [سورة التوبة: الآية 36]. ولا يمکن أن يعلن القرآن هذا القرار بمثل هذا الزخم، ثم يخرج القرآن ذاته علي هذا القرار فيستخدم المفهوم الجاهلي للسنة.

[3] قد يناقش في ذکر عيسي ابن مريم مع بقية العمرين، بأنه يعيش في السماء، فهو خارج عن نطاق هذا البحث، الذي يدرس حدود حياة إنسان الأرض، ولا يحاول دراسة حدود حياة إنسان السماء التي قد تکون حياة روحية أشبه بحياة الملائکة.

وقد نجيب علي هذه المناقشة بما يلي:

الأول: صحيح أن الحديث مکرس لمعرفة دود حياة إنسان الأرض، ولکن عيسي ابن مريم إنسان الأرض، وقد عاش فترة من عمره علي الأرض، وسيعيش فترة أخري من عمره علي الأرض، وبين هاتين الفترتين يمضي فترة من عمره في السماء وهذا لا يخرجه من نطاق إنسان الأرض.

الثاني: إن أرضنا هذه وکل الأجرام السابحة في الفضاء وکل السماوات داخلة في نطاق الدنيا، فعالم الأرض وعالم السماء عالم واحد، ولعل مقاييس الجسم البشري فيهما واحدة.

الثالث: إن عيسي ابن مريم يعيش الآن في السماء مجسمة الترابي، ولا يعيش بروحه عيشة روحية کالملائکة، وحينما يرجع من السماء إلي الأرض يرجع بجسمه الترابي، وتأکيد القرآن علي أن لم يقتل ولم يصلب، للدلالة علي أن الله رفعه إليه بجسمه الترابي، وإلا لم تکن مزية لعيسي ابن مريم علي غيره، فکل الأموات يرفعون بأرواحهم إلي الله.