فوارق الأجهزة الإلهية مع الأجهزة البشرية


کما أنه لابد من بيان فوارق هيکليّة بين الأجهزة الإلهية والأجهزة البشرية:

1- في الأجهزة البشرية يکون رئيس مجلس الوزراء غير رئيس المجلس التشريعي، إلا في حالات استثنائية يعطّل فيها الدستور وتعطل فيها الديموقراطية، وذلک لسببين:

الأول: ألاّ يتعرض رئيس المجلس التشريعي للضغوط، فيشرع بحرية کاملة ما يمليه ضميره حسب رؤيته للمصلحة العامة، ولا يشرع ما تمليه مصلحته أو مصالح الآخرين بخلاف رؤيته للمصلحة العامة.

الثاني: أن يبقي رئيس مجلس الوزراء ووزرائه - دائماً - تحت طائلة الحساب من قبل المجلس التشريعي، فلا تؤثر فيهم الضغوط المختلفة التي يتعرضون لها - باستمرار - من قبل أصحاب المصالح الکبار.

بينما في الأجهزة الإلهية کثيراً ما يکون رجل واحد قمة لجهاز الإدارة التنفيذية وقمة لجهاز الإدارة التشريعية جميعاً، وذلک لسببين:

الأول: المفروض فيه أنه معصوم. فلا تؤثر فيه الضغوط المختلفة التي يتعرض لها. مع العلم بأنه لا يتعرض للضغوط بمقدار ما يتعرض لها رئيس مجلس وزراء. لأن مسلکية رئيس مجلس الوزراء، لا تختلف عن مسلکية مطلق فرد. فيعرف الناس مداخلة ومخارجه، وغالباً ما يکون وصوله إلي مرکزه عن طريق التملق واستجداء الثقة، فيکون مطمعاً للآخرين في الوقت الذي تکون فيه مسلکية النبي أو الإمام مترفعة عن کل ما يغري ويرهب. فتنحسر عنه أطماع أصحاب المصالح الخاصة.

الثاني: أنه يري نفسه - دائماً تحت طائلة الحساب من قبل الله سبحانه وتعالي، فلا يسمح لنفسه بالتفکير في محاورة الضغوط مطلقاً.

2- في الأجهزة البشرية، يکون مجلس الوزراء جهازاً تنفيذياً مستقلاً، فبمجرد انتخاب أعضائه من قبل الشعب، يصبح ذا سلطة مستقلة في التشريع، ويصبح مصدر الشرعية - حسب معطيات الأنظمة الديموقراطية، صحيح أن الملک أو رئيس الجمهورية - في بعض النظم - يکون صاحب القرارات الهامّة، أو رئيس الجمهورية - في بعض النظم - يکون صاحب القرارات الهامّة، أو صاحب الأطروحة التي لا ترد، ولکن هذه ديموقراطية - بمفهومها الکامل - بالإضافة إلي أنه يبقي للمجالس التشريعية حدّ أدني من الصلاحية وصحيح أن قرارات المجالس لا تصبح سارية المفعول. إلا إذا حملت توقيع الملک أو رئيس الجمهورية، ولکنه نوع من الروتين، فلا تتخذ المجالس التشريعية قراراتها إلا ويوقعها الملک أو رئيس الجمهورية وإذا کانت لديهما نوايا مختلفة فإنهما يبذلان تأثيرهما علي المجالس التشريعية حتي لا تتخذ المجالس التشريعية مقررات لا يرغبان فيها، أما إذا فشلا واتخذت مقرراتها، فإنهما لا يترددان - عادة - في التوقيع عليها حفاظاً علي الحدّ الأدني من المبادئ التي يتظاهران بها.

فيما يختلف الأمر بالنسبة إلي الأجهزة الإلهية تماماً، فالجهاز التنفيذي - حتي بعد تعيين أعضائه من بل الله تعالي - لا يصبح ذا سلطة مستقلة في التنفيذ، لأنه برمته ليس قادراً علي شيء إلا بإرادة مباشرة من الله سبحانه. کما أن الجهاز التشريعي - حتي بعد تعيين أعضائه من قبل الله عز وجل - لا يصبح ذا سلطة مستقلة في التشريع، لأن الله جلّ جلاله، يبقي هو المصدر الوحيد للشرعية، وهو الذي يشرع ما يشاء بحکمته، وأما الجهاز التشريعي فليس - في الواقع - أکثر من جهاز تبليغي، وليست له أية سلطة أو صلاحية في التشريع وإنما عليه أن يبلغ إلي الناس - حرفياً - کل ما يصل إليه من الشريعة من قبل الله تعالي. أسمعت قول الله سبحانه - وهو يخاطب أعم أنبيائه-: (فإنما عليک البلاغ) [1] ، (فذکر إنما أنت مذکر) [2] (ما أنزلنا عليک القرآن لتشقي إلا تذکرة لمن يخشي) [3] ، (ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقي في جهنم ملوماً مدحوراً)- [4] ، (ولولا أن ثبتّناک لقد کدت ترکن إليهم شيئاً قليلاً إذن لأذقناک ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لک علينا نصيراً) [5] ، (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منکم من أحد عنه حاجزين) [6] .

صحيح أن لبعض الأنبياء الکبار نوعاً محدوداً من الصلاحية، فمثلاً: إبراهيم الخليل رأي أشياء کالختان، وتقليم الأظافر، وإزالة الشعر من الجسد... فمارسها، فأقرها الله في الدين، وعرفت - فيما بعد - بـ(سنن إبراهيم). ومثلاً: کانت فرائض الصلوات، التي أمر الله نبيه بتبليغها رکعتين رکعتين، فرأي النبي (صلّي الله عليه وآله) أن يضيف رکعة سبحانية إلي صلاة المغرب، وأن يضيف رکعتين سبحانيتين إلي کل من صلاة العشاء، وصلاة الظهر وصلاة العصر، فأقرّ الله ذلک، وعرفت - فيما بعد - بـ(سنة رسول الله).

والواقع أن کل ما ورد من الأحاديث عن سنن المرسلين من أمثال هذين الموردين، لابد أن نوجههما بأحد توجيهين:

الأول: أن هذه الأحاديث لا تعني أن المرسلين کانوا يشرّعون بالمفهوم المتداول للتشريع بمعني سنّ القانون - وإنما تعني أنهم في بعض الأحيان کانوا يخرجون من إطار المعني الحرفي للنص إلي روح النص، من باب تنقيح المناط، ثم يطبقون المناط المستخلص علي المصاديق التي لم ترد في نص الوحي، وکان اجتهادهم صحيحاً، لأنهم کانوا في المستوي المناسب. بدليل إقرار الله سننهم مع أن الله لا يستحيي من الحق، ومع ملاحظة النصوص السابقة التي تحدد صلاحية الرسول الأکرم (صلّي الله عليه وآله) في التبليغ. وهذا يعني أن سننهم کانت حصيلة اجتهادات صائبة، لا أکثر.

الثاني: أنهم ربما کانوا يتفاعلون مع أشعة الوحي، بمعني أنهم کانوا يتلقون نوعاً من الوحي الخفيّ - خارجاً عن نطاق المضمون الصريح للوحي - بحيث ربما کان يتراءي أنه شيء منهم، ثم کان الله تعالي يقرّ ذلک، تعبيراً عن تکريم الله إياهم.

وصحيح أيضاً أن في الأحاديث الصحيحة، مجموعة أحاديث تقول: (إن الله أدب نبيّه بتأديبه. ففوض إليه دينه).. وهذه المجموعة من الأحاديث. کانت تاريخياً نقطة الانطلاق لفرقة (المفوّضة) الذين ادعوا بأن الله سبحانه وتعالي اعتزل أمر الشريعة کليّاً. وترکها للنبي يقرر فيها ما يشاء.

ويمکن دراسة هذه المجموعة من الأحاديث من منطلقين:

الأول: منطلق النقض، بأن هذه المجموعة من الأحاديث - حسب تغيير المفوضة لها - تناقض الآيات التي تحدد صلاحية الرسول الأکرم (صلّي الله عليه وآله) في التبليغ، والحديث متي نقض القرآن سقط.

الثاني: منطلق الحلّ، بأن الجزء الأول من هذه الأحاديث يمهد فهم الجزء الثاني منها بشکل آخر، لأن معني (إن الله أدب نبيّه بتأديبه) أن الله تعالي أعطي لنبيّه مقاييس دينه بشکل تأديبي ترکه يتفاعل معها. حتي لا يعبر إلا عنها، ولا يقلع إلا من مواقعها، وعندما بلغ هذا المستوي فوض إليه بيان الحلال والحرام لا سن الحلال والحرام. وهو يعلم أن النبي (صلّي الله عليه وآله) کلما تحرک لا تخرج حرکته من نطاق هذه المقاييس. کما أنک قد ترّبي ابنک علي عملک حتي تري أنه تفاعل معه بعمق، وعندئذ تسلم إليه مقاليد عملک مطمئناً إلي أنه - مهما تعامل - لن يخرج - لا في الشکل ولا في المضمون - من المقاييس التي ارتضيتها لعملک.

وربما يوحي الحديث الشريف - في وصف رسول الله -: (.. کان خلقه القرآن) بما يشبه معني تفاعل النبي (صلّي الله عليه وآله) مع المقاييس الإسلامية في صيغة عملية بنفس القوة التي يعبر بها القرآن عنها في صيغة نظرية، وحتي کأنهما وجهان لعملة واحدة، النبي وجهها العملي والقرآن وجهها النظري.

وربما يؤکد التحليل الذي ذکرناه لأحاديث التفويض، قول الله تعالي: (وما ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحي) [7] وهذا يعني أن النبي عطف هواه علي الوحي، حتي لم يبق له هاجس ولا کلام سوي الوحي، وتفويض الله دينه إليه - في مثل هذه الحالة - لا يعني إلا تفويضه صلاحية التعبير عن دينه في بيان الحلال والحرام لا صلاحية التشريع.

من کل ذلک نستخلص أنه - في مجال الأجهزة الإلهية - لا توجد سلطة مستقلة، فجهاز الإدارة التنفيذية لا تنفذ شيئاً إلا بإرادة الله، وجهاز الإدارة التشريعية لا تعبر إلا عما شرعه الله، والله تعالي وحده، هو صاحب السلطة المطلقة والمستقلة علي الجهازين، وعلي کل ما ينفذانه أو يعبران عنه.

3- في الأجهزة البشرية يکون الاعتماد علي الانتخاب فيعتمد في رئيس وأعضاء المجلس التشريعي علي الانتخاب العام ليشترک في التشريع کل من له صلاحية إعطاء الرأي، إما بنفسه إذا فاز في الانتخاب - ليکون رئيساً أو عضواً في المجلس التشريعي، وإما بواسطة منتخبه إذا لم يفز هو في الانتخاب، کما يعتمد في رئيس المجلس التنفيذي علي الانتخاب العام، عن طريق کسب ثقة أکثرية أعضاء المجلس التنفيذي علي الانتخاب ولو عن طريق رئيسه الذي نال الثقة من المجلس التشريعي المنتخب... فيبقي الرأي العام معتمداً - ولو بوسائط - ويبقي الشعب صاحب الحق المطلق في اختيار حکامه واتخاذ قراراته.

وأما بالنسبة للأجهزة الإلهية فالاعتماد کله علي التعيين فالله هو صاحب الحق الأول والأخير في اختيار قمة وأعضاء الإدارة التنفيذية والإدارة التشريعية، لأنه الوحيد المطلع علي ما في أعماق النفوس، وما وراء النوايا فهو الأولي بهذا الحق من غيره أياً کان. کما أنه هو صاحب القرارات کلها، لأنه أعرف من سواه بما يمکن أن تفسر عنه تلک القرارات في الآحاد القريبة والبعيدة، ولعل القرآن أشار إلي أنه لا يمکن الاعتماد علي انتخاب البشر، طالما هو معرض للخطأ ولو کان الناخب نبيّاً من أولي العزم في مستوي موسي ابن عمران (عليه السلام) فقال: (واختار موسي قومه سبعين رجلاً لميقاتنا) [8] ، (فلما جاء موسي لميقاتنا وکلمّه ربه قال رب أرني أنظر إليک قال لن تراني ولکن انظر إلي الجبل فإن استقر مکانه فسوف تراني فلما تجلي ربه للجبل جعله دکاً وخرّ موسي صعقاً فلما أفاق قال سبحانک تبت إليک وأنا أول المؤمنين) [9] .

ولعل القرآن - کذلک - أشار إلي أنه لا يمکن الاعتماد علي القرار البشري طالما هو معرّض للخطأ، فقال: (وما کان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمراً أن يکون لهم الخيرة من أمرهم) [سورة الأحزاب: الآية 36].

4- في الأجهزة البشرية يعتبر الجهاز التشريعي أهم من الجهاز التنفيذي، ولذلک يلزم أن ينتخب مباشرة من قبل الأمة، وأن يکون علي اتصال وثيق ودائم بالشعب، في الوقت الذي ينتخب الجهاز التنفيذي من قبل الجهاز التشريعي، أو يکتفي باکتساب رئيسه ثقة الجهاز التشريعي.

وأما بخصوص الأجهزة الإلهية فالجهاز التنفيذي أهم من الجهاز التشريعي، إذ لا مجال للتشريع - بمفهومه المعروف من وضع القانون - في الأجهزة الإلهية، لأن الله تعالي هو المشرّع الوحيد والمطلق. فتنحصر مهمة الجهازين في التنفيذ بفارق بسيط، وهو أن الجهاز التنفيذي ينفذ في مجال الکون والجهاز التشريعي ينفذ في مجال الشريعة، وإذا انحصرت مهمة الجهازين في التنفيذ فالظاهر أن مهمة الجهاز التنفيذي أدق وأشمل، من مهمة الجهاز التشريعي الذي لا يعدو - غالباً - بتبليغ الشريعة وحمايتها من المعتدين عليها بمحاولة الدس فيها أو القضاء علي حملتها.

کل هذا فيما قد نفهم، ولعل غير ذلک هو الصحيح في الواقع والله العالم.

والملائکة الذين ما کان يروق لهم خلق خليفة في الأرض وقالوا الله: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفک الدماء) [سورة البقرة: الآية 30] وأجابهم الله تعالي منبّهاً إلي إحاطته بنواياهم بقوله: (واعلم ما تبدون وما کنتم تکتمون) [سورة البقرة: الآية 33] لعلهم کانوا يکتمون التحفظ من أن يغدو خليفة الأرض وليّاً عليهم، وقد تتابعت البوادر التي أکدت أن تحفظهم کان يعبّر عن واقع، فقد أمروا بالسجود لآدم فور نفخ الروح في جسمه، ثم استوعب الرموز التي لم يکن بمقدورهم استيعابها.

وحيث أن الله تعالي جعل للإمام - أي إمام معصوم - مهمتين: مهمة الولاية التکوينية، ومهمة الولاية التشريعية - کأهم ما جعل الله تعالي للإمام - فالغيبة عن الظهور في المجتمعات لا تعجزه عن القيام بأية من مهمتيه.

فأما بالنسبة إلي مهمته التکوينية فالإمام الغائب يؤديها في غيبته بتوفر ولعلها مهمته الکبري، فغيبته لا تؤثّر عليها مطلق لأن أداءها لا يتوقف علي الظهور بين الناس.

ولعل ما ورد في الأحاديث الشريفة من تشبيه فائدة الإمام الغائب بفائدة الشمس الغائبة خلف السحاب إشارة إلي أن الإمام في غيبة يؤدي ولايته التکوينية، کما أن الشمس الغائبة خلف السحاب تؤدي خدمتها في تربية الکائنات الدائرة في محيط شعاعها رغم السحاب الذي قد يحجب عنها بعضاً من تلک الکائنات.

وأما بخصوص مهمته التشريعية فالإمام المنتظر باعتباره استمراراً للنبي الأکرم (صلّي الله عليه وآله) لا تکون مهمته في التبشير بمفاهيم جديدة لم تکن معروفة من قبل حتي يتوقف أداؤها علي معايشة الناس. وإنما تتلخص مهمته الکبري في صيانة المفاهيم التي نزل بها القرآن وبشر بها الرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله). وأداء مهمة صيانة الشريعة لا يتوقف علي معايشة الناس، لأنه فور ما يجد أياً من المفاهيم الإسلامية معرضاً للتشويه، يستطيع المبادرة إلي إيضاحه وتأصيله بواسطة بعض من يمکنهم الاتصال به.

2- ولعل هناک سبباً آخر لانتقال الإمام المنتظر إلي هذا العالم قبل موعد ظهوره بفترة طويلة، وهو أعداده لمهمّات خاصة لم تطرح حتي اليوم علي الذهنية البشرية، ونحن - في هذه الفترة من عمر البشر - لا نستطيع استجلاء تلک المهمات، ولکن قد نستطيع أن نستشف بعض ملامحها من خلال الأحاديث المبشّرة بالحضارة المنتظرة (کالحديث الذي يقول بأنه يستنفد خيرات الأرض والسماء، وأنه يأتي ببقية العلم مائة حرف ويطيل أعمار الناس ويکمل عقولهم...)


پاورقي

[1] سورة آل عمران: الآية 20.

[2] سورة الغاشية: الآية 21.

[3] سورة طه: الآيات 2 و3.

[4] سورة الإسراء: الآية 39.

[5] سورة الإسراء: الآيات 74 و75.

[6] سورة الحاقة: الآيات 44 - 47.

[7] سورة النجم: الآية 3-4.

[8] سورة الأعراف: الآية 155.

[9] سورة الأعراف: الآية 143.