التشکيک في إيجابية فکرة الإمام المهدي


الظاهرة الخامسة: ظاهرة التشکيک في إيجابية فکرة الإمام المهدي لسببين:

الأول: تکريس اليأس عن جدوي أي عمل ايجابي قبل ظهره، مادام الله سبحانه وتعالي قدّر أن تملأ الأرض ظلماً وجوراً قبل ظهوره.

الثاني: تکريس اليأس عن جدوي أي عمل إيجابي قبل ظهوره، مادام الله عز وجل قدّر أن تملأ - به - الأرض عدلاً وقسطاً، بغض النظر عن قلة أنصاره وکثرة أعدائه.

وهذان القدران يعلنا تعطيل أدوار الآخرين، وبالتالي يوحيان بتجميد کل الطاقات المؤمنة به، لأن أي عمل إيجابي - قبل ظهوره - لا يعني غير تحدّي القدر الذي يضحک من جميع المتحدين، وأي عمل بعد ظهوره لا يعني سوي مجاراة القدر الذي لا تنشطه المجاراة.

والجواب:

أولاً: إن الله إذا قدّر شيئاً لا يعني أنه يوجده من الفراغ، بل أبت عادة الله أن لا يقدّر شيئاً إلا إذا توفرت أسبابه. فالقدر لا يلغي دور الأسباب، وإنما يعزز دور الأسباب، والاطلاع علي وجود قدر معين - عن طريق مصادر الوحي - يدفع إلي محاولة إيجاد أسبابه، لأنه يوحي بأن هذه المجادلة لا تواجه معاکسات، وإنما تتکامل حتي تصل إلي نتيجة إيجابية، ومعرفة نجاح المحاولة تشّجع عليها ولا تثبط عنها أبداً.

ثانياً: إن الاطلاع علي أن الأرض ستملأ ظلماً وجوراً قبل ظهور الإمام المنتظر، لا يوحي باليأس عن جدوي أي عمل إيجابي بما يلي:

أ - إننا لا نعلم - بالضبط - متي يظهر الإمام المنتظر، فربما يکون ظهوره بعد هذا التاريخ بعشرات أو مئات السنين - لا سمح الله -.

ب - أقصي ما يمکن أن يقال: أن معرفتنا بأن الأرض ستملأ قبل ظهور الإمام ظلماً وجوراً توحي بأن الأعمال الإصلاحية لا تنتج علي المستوي العالمي، بل يبقي الظلم والجور طاغيين علي الوضع العام العالمي، وهذا لا ينافي في نجاح المحاولات الإصلاحية علي المستويات المحلية.

ج - حتي مع لو علمنا - وبکل تأکيد - أن المحاولات الإصلاحية لا تثمر علي الإطلاق، فهذا العلم لا يلغي التکليف، لأن الأعمال الإصلاحية تنعکس علي القيمين عليها قبل أن تنعکس أو لا تنعکس علي سواهم، فالمفروض عليهم أن يقوموا بها تصعيداً لمستواهم، بالإضافة إلي أن الأعمال الإصلاحية لو لم تنعکس إيجابياً علي الناس فإنها تنعکس عليهم سلبياً، فتکون من باب إتمام الحجة، الذي لابد منه لتثبيت المفاهيم، وإفراز العناصر الممّوهة عن بعضها وإعادة کل إلي واقعه، ليحق الحق وليهلک من هلک عن بينة ويحيي من حيّ عن بينة.

ثالثاً: إن الاطلاع علي أن الله قدّر أن تملأ - به - الأرض عدلاً وقسطاً، لا يعني أنه وحده - وبطريقة معجزة - يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وإنما يعمل ذلک بأنصاره، وإلا لماذا ينتظر أن يتکاملوا (313) رجلاً.

رابعاً: إن الإعلان المسبق عن نجاح أيّ قائد علي المستوي العالمي وانتصاره الساحق في معرکة التغيير، أقوي ما يرفع معنويات أنصاره فوق المستحيل، ويکرس في نفوسهم أملاً لا يتزعزع، ويسهل عليهم التضحية، لأن انتصاره خير ضمان لخلودهم حتي ولو سقطوا في الدرب قبل انتهاء المسيرة، فلذلک نجد أيّ قائد ينتفض من تحت الأرض يحاول تسکع البراهين المسبّقة لنجاحه وانتصاره حتي يضمن التفاف أنصاره حوله في الأزمات، فکيف يمکن أن يکون الإعلان المسبق عن الانتصار العالمي والنجاح المخيف - بالنسبة إلي الإمام المنتظر - ظاهرة سلبية تکرس اليأس في نفوس أنصاره والمؤمنين بإمامته؟

خامساً: إن تجربة التاريخ تؤکد إيجابية فکرة الإمام المهدي (عليه السلام) بشکل مخيف:

ففي الجانب السلبي نجد السلطات المعاصرة لميلاده، والسلطات التي تلت ميلاده حتي اليوم تعمل بأقصي طاقاتها للقضاء علي هذه الفکرة، فقديماً لم تکن التدابير العسکرية التي اتخذتها السلطات قبل ميلاده، وعنده ميلاده وبعد ميلاده للقضاء علي شخصه إلا أدلة قاطعة علي مدي صدمتهم بهذه الفکرة. وحديثاً ليس الإرهاب الفکري الذي يحاول تطويق هذه الفکرة إلا شاهداً علي مدي ما يعانيه أعداء التشيّع من أصل فکرة الإمام المهدي (عليه السلام) بعد أن يئسوا من إمکانية القضاء علي شخصه.

وفي الجانب الإيجابي نجد أن جميع أجيال الشيعة کانوا ولا زالوا يشجعون آمالهم ويهدهدون أحلامهم بفکرة الإمام المهدي (عليه السلام)، وأظن أنه لولا فکرة الإمام المهدي (عليه السلام) لما استطاع التشيع أن يخترق ظلمات التاريخ، وإنما کان يختنق بروائح المجازر وغياهب السجون، فليس الزخم الذي يخرج أنقاض التشيع من تحت الکوابيس والمآسي والويلات بفتوة عنفوان أکثر من ذي قبل إلا زخم فکرة الإمام المهدي (عليه السلام).

ولا أدلّ علي مدي حيوية هذه الفکرة من أن جميع الحروب والتهريجات التي شنّت وتشنّ عليها ما زادتها إلا نشاطاً وصفاءً في أذهان مئات الملايين.

ولا أدل علي مدي حيوية هذه الفکرة من الکثيرين في کل الأجيال الإسلامية وفي أکثر البلاد الإسلامية انتحلوا هذه الفکرة ليحرقوا بها المراحل إلي القمة، وما خاب ظن أحد منهم فلم ينتحلها أحد إلا ونال أکثر مما کان يطمح إليه رغم توفر الأدلة علي زيف کل من انتحلها حتي اليوم، وهل توجد أکثر إيجابية من فکرة ينجح بها کل من يدعيها ولو کذباً وزوراً؟

وإذا فحصنا التاريخ وجدنا فکرة النبوة أقوي الأفکار قبل النبي الأکرم (صلّي الله عليه وآله) الذي ختم النبوة، فقبله کان الکثيرون من طلاب السلطة والشهرة يحاولون الانتماء إلي النبوة بسبب أو نسب، وعن طريق الادعاء - مجرد الادعاء - کانوا ينالون الذي يريدون. وبعد النبي الأکرم (صلّي الله عليه وآله) حيث ختم النبوة أصبح المُتمهديون يقومون بدور المتنبين، وهذا يکشف أن المهدوية ورثت قوة النبوة.

إن فکرة لم ينتم إليها أحد بأي سبب أو نسب إلا وحلق فوق الرؤوس لا تکون فکرة سلبية، ولکن المهرجين ضدها في ضلال مبين.