خلف العسکري


الاحتجاج: أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي: ج2 ص277 - 279: عن الشيخ الموثوق أبي عمرو العمري (رحمه الله) قال: تشاجر ابن أبي غانم القزويني وجماعة من الشيعة في (الخلف) فذکر ابن أبي غانم: أن أبا محمد (عليه السلام) مضي ولا خلف له، ثم أنهم کتبوا في ذلک کتاباً وأنفذوه إلي (الناحية) وأعلموا بما تشاجروا فيه.

فورد جواب کتابهم بخطه (صلي الله عليه وعلي آبائه):...

بسم الله الرحمن الرحيم. عافانا الله وإياکم من الفتن، ووهب لنا ولکم روح اليقين، وأجارنا وإياکم من سوء المنقلب.

إنه أنهي إليّ ارتياب جماعة منکم في الدين، وما دخلهم من الشک والحيرة في ولاة أمرهم [1] فغمّنا ذلک لکم لا لنا، وساءنا فيکم لا فينا، لأن الله معنا فلا فاقة بنا علي غيره، والحق معنا فلن يوحشنا من قعد عنّا، ونحن صنايع ربنا والخلق بعد صنايعنا [2] .

يا هؤلاء؛ ما لکم في الريب تترددون، وفي الحيرة تتسکّعون؟ أو ما سمعتم الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منکم) [3] ؟ أو ما علمتم ما جاءت به الآثار مما يکون ويحدث في أئمتکم؟ علي الماضين والباقين منهم السلام. أو ما رأيتم کيف جعل لکم الله معاقل تأوون إليها، وأعلاماً تهتدون بها؟ من لدن آدم (عليه السلام) إلي أن ظهر الماضي (عليه السلام) [4] ؟ کلما غاب علم بدأ علم، وإذا أفل نجم طلع نجم، فلما قبضه الله ظننتم: أن الله أبطل دينه [5] وقطع السبب ببيه ربين خلقه [6] کلاّ ما کان ذلک ولا يکون، حتي تقوم الساعة ويظهر أمر الله وهم کارهون.

وأن الماضي (عليه السلام) مضي سعيداً فقيداً علي منهاج آبائه (عليهم السلام) (حذو النعل بالنعل) وفينا وصيته وعلمه، ومنه خلفه ومن يسدّ مسدّه، ولا ينازعنا موضعه إلا ظالم آثم، ولا يدعيه دوننا إلا کافر [7] جاحد، ولو أن أمر الله لا يغلب، وسرّه لا يظهر ولا يعلن، لظهر لکم من حقنا ما تبهر منه عقولکم [8] ويزيل شکوککم، ولکن ما شاء الله کان، ولکل أجل کتاب، فاتقوا الله وسلموا لنا، وردوا الأمر إلينا، فعلينا الإصدار کما کان منّا الإيراد، ولا تحاولوا کشف ما غطّي عنکم، ولا تميلوا عن اليمين وتعدلوا إلي اليسار، واجعلوا قصدکم إلينا بالمودة علي السنّة الواضحة.

فقد نصحت لکم، والله شاهد عليّ وعليکم، ولولا ما عندنا من محبة صاحبکم ورحمتکم، والإشفاق عليکم، لکنّا عن مخاطبتکم في شغل، مما قد امتحنّا به منازعة الظالم العتلّ الضالّ، المتتابع في غيّه المضادّ لربّه، المدّعي ما ليس له، الجاحد حق من افترض الله طاعته، الظالم الغاصب [9] وفي ابنة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) وعليها لي أسوة حسنة [10] وسيتردّي الجاهل رداء عمله، وسيعلم الکافر لمن عقبي الدار.

عصمنا الله وإياکم من المهالک والأسواء، والآفات والعاهات کلها، برحمته فإنه وليّ ذلک، والقادر علي ما يشاء، وکان لنا ولکم وليّاً وحافظاً، والسلام علي جميع الأوصياء والأولياء والمؤمنين ورحمة الله وبرکاته، وصلي الله علي النبي محمّدٍ وآله وسلّم تسليماً.


پاورقي

[1] لقد اعتبر الإمام المهدي - في هذا النص - الارتياب في أحد الأئمة (عليهم السلام) ارتياباً في الدين، لأن الإمامة هي القيادة، والقيادة من صميم الذين، سواءً کانت قيادة الأنباء أو الأوصياء، فکما أن الشک في نبوة الرسول الأکرم (صلّي الله عليه وآله) يعود إلي الشک في الدين، کذلک الشک في أي من أوصيائه يعود إلي الشک في الدين، لأن قيادته مستمرة فيهم.

مضافاً إلي أن التشکيک في أي شيء مما أمر الله به تشکيک في الدين، والله تعالي أمر باتّباع النبي وأوصيائه، فالتشکيک فيهم أو في أحدهم تشکيک في ما أمر الله به.

[2] إن الله سبحانه وتعالي أراد التسلسل في الخلق، وجرت بذلک سنته - حسب تعبير القرآن - فخلق (کلمات) وجعلها الطبقة الأولي من مخلوقاته. ومن بعضها خلق النور والظلمة، وجعلهما الطبقة الثانية من مخولوقاته. ومن موجات النور والظلمة خلق العناصر الأولية الستة والتسعين - وجعلها الطبقة الثالثة من مخلوقاته. ومن العناصر الأولية خلق الأجسام - اللطيفة والکثيفة - فجعلها الطبقة الرابعة من مخلوقاته.

ولو أراد الله أن يخلق الأجسام ارتجالاً من العدم لاستطاع، ولکنه أراد التسلسل في الخلق، مما أراد تسلسل البشر بالإنجاب. وهذه الإرادة لا تنافي إطلاق قدرته، لأن القدرة لم تتقيد بشيء خارج عنها، وإنما هي التي أرادت ذلک.

ويستظهر من بعض الآيات والروايات: أن أرواح الأنبياء والأوصياء هي کلمات الله تلک، التي ابتدأ بها الخلق.

فقد قال الله عن عيسي ابن مريم (عليه السلام): (إنما المسيح عيسي ابن مريم رسول الله، وکلمته ألقاها إلي مريم) سورة النساء، آية 171.

و(إن الله يبشرک بکلمة منه اسمه المسيح عيسي ابن مريم) سورة آل عمران، آية 45.

وفي الحديث عن الرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله): (أول ما خلق الله نوري) و(أنا أول ما خلق الله، وأول من تنشق عنه الأرض).

فإذا ثبت أن أرواح الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) کلمات الله، ثبت أنهم الطبقة الأولي من المخلوقات، وأن الله خلق بقيت المخلوقات منهم.

وهذا الموضوع ثابت في الحديث، وقد استقصي العلامة المجلسي قسماً وفيراً منه في (کتاب السماء والعالم) من موسوعته التي أسماها بـ(بحار الأنوار).

وهذا القول يشبه قولنا: إن الله خلق الإنسان والحيوان والنبات من التراب والماء والهواء والشمس.

وإذا ثبت أن الله خلق أرواح الأنبياء والأوصياء مباشرة، ثم خلق منها بقية خلقه، صح أنهم صنائع الله وأن الخلق صنائعهم. فهم أقرب إلي الله - في تسلسل الخلقة - من سائر الناس، فيحتاج إليهم الناس ولا يحتاجون إلي الناس. لاستغنائهم بالله عمن سواه.

وقد أثبت التسلسل الرسالي أنهم أقرب إلي الله، فالله أرشدهم مباشرة وأرشدهم من سواهم بهم.

[3] سورة النساء، آية 59.

[4] يقصد بالماضي أباه الإمام الحسن العسکري (عليه السلام).

[5] أي ظننتم أن سلسلة أوصياء رسول الله قد انقطعت، وهذا يساوي بطلان الدين لأن سلسلة الرسل قد اختتمت بخاتم النبيين فلم تبق بعده إلا سلسلة أوصيائه الذين يؤدون دوره من بعده، فلو انتهت بوفاة الإمام الحسن العسکري (عليه السلام) لتعرض دين الله للبطلان، لأن حجة الله في الأرض عاصمة الدين تنفي عنه تحريف المبطلين وبدع الظالمين فانقطاع الحجة يؤدي إلي تعرض الدين للزوال.

[6] لأن ولي الله - کل ولي في عهده - صاحب الولاية الکونية، فهو السبب المتصل بين الله وبين للزوال.

[7] الکفر: الستر. فکل من ستر حقيقة فهو کافر لغة فإن ستر حقيقة دينية أصبح کافراً ديناً. وللکفر درجات تبدأ بإنکار أدني الحقائق الدينية، وتنتهي بإنکار أعظم الحقائق، وهو الله عز وجل، فليس کل کافر جاحداً بالله سبحانه بالضرورة، وإنما الکافر يعم الجاحد بالله والملحد في إحدي آياته، والإمامة من أهم آيات الله، فمن حجبها أو انتحلها دون أهلها فقد کفر بهذا المعني.

وقد فرق الإمام المهدي (عجل الله فرجه) بين من يتصدي لموضع الإمام أي لقيادة الأمة فاعتبره ظالماً آثماً: (ولا ينازعنا موضعه إلا ظالم آثم) وبين من يتصدي لصفة الإمام أي للسببية التکوينية والتشريعية بين الله وعباده، فاعتبره کافراً جاحداً: (ولا يدعيه دوننا إلا کافر جاحد). لأن الأول يعترض مسيرة الأمة شأن جميع الحکام بغير حق، بينما الثاني يعترض عقيدة الأمة شأن منتحلي الرسالات، وهذا شر من الأول. لأن مسيرة الأمة قابلة للتصحيح مادامت عقيدتها سليمة، فإذا فسدت عقيدتها استعصت علي العلاج.

[8] لأن في غيبة الإمام المهدي سراً يجب أن يبقي طي الکتمان، ويجب - بمقتضاه - علي الإمام المهدي أن يغيب عن الأضواء، ولولا ذلک لکان يعلن عن نفسه ويتابع خط المعجزات التي تبهر العقول، شأن جميع الأنبياء والأوصياء من قبله الذين فرضوا علي الکفر الإنساني علاقتهم المباشرة بالسماء عن طريق المعجزات، ولکن الإمام المهدي لا يمارس المعاجز - حالياً - لأن الله کتب عليه الغيبة، فاستغل غيبته المصلحيون، فنازعوه القيادة أو ادعوا دونه الإمامة.

[9] الظاهر أنه يقصد عمه جعفر بن الإمام علي الهادي (عليه السلام) شقيق الإمام الحسن بن علي العسکري (عليه السلام).

فجعفر بن علي ادعي الإمامة بعد أخيه الحسن العسکري، فامتحنه علماء الشيعة ورواتهم، فلما لم يجدوا فيه مواصفات الإمام المعصوم أطلقوا عليه لقب (الکذاب) ولم يشفع له أنه عم الإمام المهدي، لأن دين الله لا يؤخذ بالأنساب، وقد قال الله تعالي في شأن الرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله): (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منکم من أحد عنه حاجزين) سورة الحاقة آية، 47. إذ لا محاباة في الدين کما لا ممالئة في الحق.

ثم أن جعفر بن علي تاب، فخرج التوقيع من الناحية المقدسة بقبول توبته، وأن: (سبيله سبيل إخوة يوسف) فأطلق عليه لقب (التواب).

وحوله کلام کثير يمکن استشفافه من خلال هذا التوقيع والتوقيع الذي يليه، ولکني لا أود البحث عنه کرامة لنسبه المقدس، خاصة بعد أن قبلت توبته، ولکني - إجلاءً للواقع وإظهاراً للحقيقة - أثبت هنا حديثين، يکفيان لإيضاح وموقف جعفر بن علي الذي أدي إلي صدور توقيعين ضده. وفيما يلي نصهما:

الأول:

أ: ينابيع المودة، سليمان بن إبراهيم البلخي ص461 عن أبي الأديان.

ب: کمال الدين وتمام النعمة، محمد بن علي بن الحسين بن موسي بن بابويه الصدوق عن أبي الأديان قال: کنت أخدم الحسن بن علي بن محمد (عليهم السلام)، وأحمل کتبه إلي الأمصار فدخلت عليه في علته التي توفي فيها صلوات الله عليه فکتب معي کتباً، وقال: (امض بها إلي المدائن فإنک ستغيب أربعة عشر يوماً، وتدخل علي سر من رأي يوم الخامس عشر، وتسمع الواعية في داري، وتجدني علي المغسل) قال أبو الأديان: فقلت: يا سيدي فإذا کان ذلک فمن؟ قال: (من طالبک بجوابات کتبي فهو القائم من بعدي) ثم ذکر (عليه السلام) علامتين أخريين (إحداهما) من يصلي عليه (والثانية) من يخبر بما في الهميان. (وخرجت بالکتب إلي المدائن، وأخذت جواباتها، ودخلت سر من رأي يوم الخامس عشر کما قال لي (عليه السلام)، وإذا أنا بالواعية في داره وإذا به علي المغسل، وإذا أنا بجعفر الکذاب بن علي: أخيه بباب الدار، والشيعة من حوله يعزونه، ويهنونه، فقلت في نفسي: إن يکن هذا الإمام فقد بطلت الإمامة. لأني أعرفه يشرب النبيذ، ويقامر في الجوسق، ويلعب بالطنبور، فتقدمت فعزيت وهنيت. فلم يسألني عن شيء ثم خرج عقيد (خادم الإمام العسکري) فقال: يا سيدي قد کفن أخوک فقم فصل عليه فدخل جعفر بن علي والشيعة من حوله يقدمهم السمان والحسن بن علي قبيل (قتيل - نسخة بحار الأنوار) المعتصم المعروف بسلمه، فلما صرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن علي (صلوات الله عليه) علي نعشه مکفناً فتقدم جعفر بن علي ليصلي علي أخيه فلما هم بالتکبير خرج صبي صلوات الله عليه وعلي آبائه الطاهرين بوجهه سمرة بشعرة قطط بأسنانه تفليج، فجذب برداء جعفر بن علي وقال: (تأخر يا عم فأنا أحق بالصلاة علي أبي). فتأخر جعفر وقد أربد وجهه واصفر، وتقدم الصبي فصلي عليه، ودفن إلي جانب قبر أبيه (عليه السلام). ثم قال: (يا بصري هات جوابات الکتب التي معک) فدفعتها إليه فقلت في نفسي: هذه بينتان، بقي الهميان، ثم خرجت إلي جعفر بن علي، فقال له حاجز الوشا: يا سيدي مَن الصبي؟ ليقيم الحجة عليه. فقال: والله ما رأيته قط ولا أعرفه. فنحن جلوس إذ قدم نفر من قم فسألوا عن الحسن بن علي (عليه السلام) فعرفوا موته فقالوا: فمن نعزي؟ فأشاروا إلي جعفر بن علي. فسلموا عليه وعزوه وهنوه، وقالوا: معنا کتب ومال فتقول ممن الکتب؟ وکم المال؟ فقام ينفض أثوابه، ويقول: تريدون منا أن نعلم الغيب؟ قال: فخرج الخادم فقال: (معکم کتب فلان وفلان وهميان فيه ألف دينار وعشرة دنانير منها مطلية) فدفعوا إليه الکتب والمال، وقالوا: الذي وجه بک لأجل ذلک هو الإمام. فدخل جعفر بن علي علي (المعتمد) وکشف ذلک له فوجه له ذلک (المعتمد) يخدمه فقبضوا علي صيقل الجارية فطالبوها بالصبي، وأنکرته، وادعت حبلاً به [حملاً بها] لتغطي علي حال الصبي. فسلمت إلي ابن أبي الشوارب القاضي، ونعتهم موت عبيد الله بن خاقان فجأة، وخرج صاحب الزنج بالبصرة فشغلوا بذلک عن الجارية فخرجت عن أيديهم والحمد لله رب العالمين.

الثاني:

أ: الخرايج، قطب الدين أبو الحسن سعيد بن هبة الله الراوندي بسنده.

ب: کمال الدين وتمام النعمة، محمد بن علي بن الحسين بن موسي بن بابويه الصدوق، عن أبي العباس أحمد بن الحسن بن عبد الله بن محمد بن مهران الأزدي، الأمي العروض رضي الله عنه بمرو، عن الحسين بن زيد بن عبد الله البغدادي عن أبي الحسن علي بن سنان الموصلي قال: حدثنا أبي لما قبض سيدنا أبو محمد الحسن بن علي العسکري صلوات الله عليهما وقدم من قم والجبال وفود بالأموال التي کانت تحمل علي الرسم والعادة، ولم يکن عندهم خبر وفاة الحسن (عليه السلام)، فلما أن وصلوا إلي سر من رأي سألوا عن سيدنا الحسن (عليه السلام) فقيل لهم: إنه قد فقد. قالوا: ومن وارثه؟ قالوا: أخوه جعفر بن علي. فسألوا عليه فقيل لهم: أنه خرج متنزهاً، ورکب زورقاً في دجلة يشرب ومعه المغنون. قال: فتشاور القوم. قالوا: هذه ليس من صفة الإمام! وقال بعضهم لبعض: امضوا بنا حتي نرد هذه الأموال علي أصحابها. فقال أبو العباس محمد بن جعفر الحميري القمي: قفوا بنا حتي ينصرف هذا الرجل، ونختبر أمره بالصحة، فلما انصرف دخلوا إليه فسلموا عليه، وقالوا: يا سيدنا نحن من قم ومعنا جماعة من الشيعة وغيرها، وکنا نحمل إلي سيدنا أبي محمد الحسن بن علي الأموال: فقال: أين هي؟ قالوا: معنا! قال: احملوها إلي! قالوا: إلا أن لهذه الأموال خبراً طريفاً: فقال: وما هو؟ قالوا: إن هذه الأموال تجمع. ويکون فيها من عامة الشيعة الدينار والديناران، ثم يجعلونها في کيس ويختمون عليه، وکنا إذا أوردنا بالمال علي سيدنا أبي محمد (عليه السلام) يقول: جملة المال کذا وکذا ديناراً من عند فلان کذا، ومن عند فلان کذا! حتي يأتي علي أسماء الناس کلهم، ويقول ما علي نقش الخواتيم. فقال جعفر: کذبتم! تقولون علي أخي ما لا يفعله؟ هذا علم الغيب ولا يعلمه إلا الله. فلما سمع القوم کلام جعفر جعل بعضهم ينظر إلي بعض، فقال لهم: احملوا هذا المال إلي. قالوا: إنا قوم مستأجرون وکلاء، وإنا لا نسلم المال إلا بالعلامات التي کنا نعرفها من سيدنا الحسن بن علي (عليه السلام)، فإن کنت الإمام فبرهن لنا، وإلا رددنا الأموال إلي أصحابها، يرون فيها رأيهم. فدخل جعفر علي الخليفة وکان بسر من رأي، فاستدعي عليهم فلما أحضروا قال الخليفة: احملوا هذا المال إلي جعفر! قالوا: أصلح الله أمير المؤمنين! إنا قوم مستأجرون وکلاء لأرباب هذه الأموال، وهذه وداعة الجماعة، وأمرونا أن لا نسلمها إلا بعلامة ودلالة، وقد جرت بهذه العادة مع أبي محمد الحسن بن علي (عليهم السلام)، فقال الخليفة: فما کانت العلامة التي کانت مع أبي محمد؟ قال القوم: کان يصف لنا الدنانير وأصحابها، والأموال وکم هي؟ فإذا فعل ذلک سلمناها إليه، وقد وفدنا إليه مراراً فکانت هذه علامتنا معه، دلالتنا، وقد مات، فإن يکن هذا الرجل صاحب هذا الأمر فليقم لنا ما کان يقيمه لنا أخوه! وإلا رددناها علي أصحابها. فقال جعفر: يا أمير المؤمنين: إن هؤلاء قوم کذابون علي أخي، وهذا علم الغيب. فقال الخليفة: القوم رسل، وما علي الرسول إلا البلاغ المبين. قال: فبهت جعفر ولم يرد جواباً. فقال القوم: يتطول أمير المؤمنين بإخراج أمره إلي من يبدرقنا حتي نخرج من هذه البلدة. قال: فأمرهم بنقيب فأخرجهم منها. فلما أن خرجوا من البلد، خرج إليهم غلام أحسن الناس وجهاً، کأنه خادم، فصاح: يا فلان! يا فلان بن فلان! أجيبوا مولاکم! فقالوا: أنت مولانا؟ قال: معاذ الله: أنا عبد مولاکم! فسيروا إليه. قال: فسرنا إليه معه حتي دخلنا دار مولانا الحسن بن علي (عليه السلام)، فإذا ولده سيدنا القائم (عليه السلام) قاعد علي سرير، کأنه فلقة قمر، عليه ثياب خضر، فسلمنا عليه فرد علينا السلام. ثم قال: (جملة المال کذا وکذا ديناراً! حمل فلان کذا! وحمل فلان کذا!) ولم يزل يصف حتي وصف الجميع، ثم وصف ثيابنا، ورحالنا، وما کان معنا من الدواب، فخررنا سجداً لله عز وجل شکراً لما عرفنا، وقبلنا الأرض بين يديه، وسألناه عما أردنا، فأجاب، فحملنا إليه الأموال، وأمرنا القائم (عليه السلام) أن لا نحمل إلي سر من رأي بعدها شيئاً من المال، وأنه ينصب لنا ببغداد رجلاً تحمل إليه الأموال، وتخرج من عنده التوقيعات. قالوا: فانصرفنا من عنده، ودفع إلي أبي العباس محمد بن جعفر القمي الحميري شيئاً من الحنوط والکفن. فقال له: (أعظم الله أجرک في نفسک)! قال: فما بلغ أبو العباس عقبة همدان حتي توفي رحمه الله، وکان بعد ذلک تحمل الأموال إلي بغداد، إلي النواب المنصوبين بها وتخرج من عندهم التوقيعات.

(قال الصدوق مصنف کمال الدين): هذا الخبر يدل علي أن الخليفة کان يعرف هذا الأمر کيف هو؟ وأين هو؟ وأين موضعه؟، ولهذا کف عن القوم عما معهم من الأموال، ودفع جعفر الکذاب عن مطالبتهم، ولم يأمرهم بتسليمها إليه. إلا أنه کان يجب أن يخفي هذا الأمر ولا ينشره، لئلاّ يهتدي إليه الناس ويعرفونه. وقد کان جعفر الکذاب حمل عشرين ألف ديناراً إلي الخليفة لما توفي الحسن بن علي (عليه السلام)، وقال: يا أمير المؤمنين أتجعل لي مرتبة أخي الحسن ومنزلته؟ فقال الخليفة: اعلم إن منزلة أخيک لم تکن بنا، إنما کانت بالله عز وجل، ونحن کنا جهدنا في حط منزلته والوضع منها، وکان الله عز وجل يأبي إلا أن يزيده کل يوم رفعة لما کان فيه من الصيانة، وحسن السمت، والعلم، والعبادة، فإن کنت عند شيعة أخيک بمنزلته فلا حاجة بک إلينا، وإن لم تکن بمنزلته، ولم يکن فيک ما کان في أخيک لم نغن عنک شيئاً..

[10] فقد اغتصب حق الزهراء (عليها السلام) وصبرت، واغتصب حق الإمام المهدي حيث استولي جعفر علي إرثه من أبيه فصبر، وکان باستطاعته القيام بردود فعل مختلفة أهونها أمر الشيعة بمحاربته، ولکنه لم يفعل، مکتفياً ببيان الحقيقة حتي لا يضل الباحثون عن الحق.