دور رسول الإسلام


ومثلاً: تغيّر الأمر بعد عيسي ابن مريم، وخاصة في جزيرة العرب، حيث البشائر تمتد نحوها قاعدة للنبي الذي يظهر بالسيف، فبرزت في الجزيرة ظاهرتان:

الأولي: ظاهرة البلاغة الفائقة، التي تجعل من الکلمات اليومية البخسة، والعواطف الرخيصة، عالماً حياً زاخراً بالحکمة والصور والألوان... إننا اليوم لا نستطيع أن نستوعب عظمة المعلقات السبع، ونحن مبهورون بوهج القرآن وما انبثق عنه من کلام النبي وآله (عليهم السلام)، ولکن تجربة عابرة للمقارنة بين المعلقات السبع وبين أي کلام سبقه تکفي للدلالة علي ما کان لها من بريق مخيف.

الثانية: ظاهرة الفوضي المسلحة، التي تجعل أي إنسان مهما تعالي، مهدداً بالتصفية الجسدية من قبل أي إنسان آخر مهما تداني. وفي کل اللحظات، وفي جميع الحالات... وهذه الظاهرة تجعل کل من يفکر في الحق والعدل والإنصاف وسائر المثل والقيم الرفيعة، يعتبر هروبه من مثل هذه الجزيرة الساخنة أکبر انتصاراته في الحياة لا خوفاً علي حياته أن تهدر بلا مبرر فقط، وإنما خوفاً أن يورّط في معرکة تافهة تجرده من کل معنوياته وقيمه بلا بدل. فکيف بنبي يکون رمز السماء علي الأرض، ويريد أن يقود النصف المتقدم من البشر في مسيرة الفضيلة والکمال إلي الإنسانية العليا؟ والمؤمنون الذين يقتاتون انتظاره، ويعرفون الوسائل التي استخدمها کل من إبراهيم الخليل وموسي بن عمران وعيسي ابن مريم (عليهم السلام)، کانوا يظنون أن النبي الجديد يظهر بما يشابه تلک الوسائل، فکانوا يرون أنها متفرقة أو مجتمعة لا تجدي شيئاً في مجتمع البلاغة والفوضي، فيشکّون في انتصار النبي الجديد.

فأظهر الله نبيه الکريم وبقرآن يعلو ولا يعلي عليه، فلم تنزل سورة (فاتحة الکتاب) حتي عمد أساطين البلاغة إلي نزع المعلقات السبع من جدران الکعبة ليلاً، حتي لا يعابوا بها، وبسيف، لم يشارک في الاعتداء، وإنما قضي علي الاعتداء، فلم يضرب به أحداً إلا دخل النار وعابه الناس. فاستأصل أوبئة الفوضي وأبرأ الجزيرة من جنونها، ولم يبلغ عدد ضحاياه سبعمائة شخص، في جميع حروبه وغزواته وسراياه، فاستطاع ذلک السيف ذاته وبتلک الدماء ذاتها، أن يکتب علي لوحة الجزيرة لافتة تشخص أبصار کل من حمل السلاح إلي الأبد: (إنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فکأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فکأنما أحيا الناس جميعاً) [سورة المائدة: الآية 32]، (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزائه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً) [سورة النساء: الآية 93].

فکان قرآنه مطمحاً لکل قرآن، وکان سيفه تجربة لإلغاء السيف، فکان انتصاره الذي فاق کل الاحتمالات والتوقعات وبزّ کل التنبؤات، فإذا بشعب الجزيرة الفوضوي، يمتد برسالته فيکل اتجاه، لينشر الإيمان والحضارة والخير، وليؤسس دولة ذات سيادة عالمية، لم تظهر بمواصفاتها دولة لا من قبلها ولا من بعدها حتي الآن.

وهکذا انتصر داوود بشکل وانتصر سليمان بشکل، وانتصر يوسف بشکل. وهکذا غيرهم.. وغيرهم من سائر رسل الله وأنبيائه الکرام.

هذا فيمن نعرف من رسل الله وأوضاع مجتمعاتهم والوسائل التي انتصروا بها، وهکذا فيمن لم نعرف من رسول الله وأوضاع مجتمعاتهم والوسائل التي انتصروا بها، ولکن مجمل ما نعرفه عنهم أنهم انتصروا جميعاً، وانتصارهم يکفي للدلالة علي أنهم کانوا أقوي من مجمعاتهم، وأنهم جميعاً فاجئوا مجتمعاتهم بأساليب ووسائل لم تکن في الحسبان، وسواء أسميناها معجزات أو أسميناها کفاءات [1] ، فجوهر القضية واحد، وهو أنهم تفوقوا علي کل القدرات الحاکمة في عهودهم. فلتتقدم المجتمعات ولتتطور، ولتحشد ما استطاعت تحشيده من طاقات وأساليب، فإن الله سيزود رسله وأوصيائهم بما هو أقوي وأعلي، وسيجعل (کلمة الذين کفروا السفلي وکلمة الله هي العليا) [سورة التوبة: الآية 9] (کتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي إن الله قوي عزيز) [سورة مجادلة: الآية 21] [2] .

هاتان الظاهرتان موجودتان، بخصوص الإمام المهدي المنتظر:


پاورقي

[1] إنما ذکرنا لفظ الکفاءات أيضاً تمشياً مع من يفرون من الألفاظ لنستوقفهم کي يتذکروا ويتدبروا وإلا فالمعجزة کفاءة خاصة جعلها الله تعالي في أفراد معينين من البشر.

[2] يبقي في مجال التحليل الروحي البحث، بحث لم أعرف من سبق إليه، ولعلي أول من يطرحه، ولا أطرحه لاتخاذ موقف معين، وإنما ليکون إشارة الضوء علي هذا الطريق الذي قد يعود بحصائل ترفد کثيراً من الغوامض، وتساهم في الإجابة علي العديد من المعضلات الروحية. وتمهيداً لهذا البحث الذي سوف أطرحه في صيغة سؤال نقول:

يمکن أن نسمي مجتمع إبراهيم الخليل بـ(مجتمع الإيمان والتسليم) فالناس کانوا - بعد الطوفان مؤمنين ومسالمين، ولکنهم أخطئوا في توجيه الإيمان إلي الأصنام ونمرود، ونمرود ذاته وجد أن الإيمان هو الطابع العام فاستغله لمصلحته الشخصية وصنع الجنة والنار، وحمورابي وجد أن التسليم ظاهرة عامة فاستغله لوضع قانونه، وإبراهيم الخليل في حد ذاته کان إيمانياً، والجانب الإيماني أبرز ظاهرة طبعت حياته، فشيد الکعبة، وکرس المجتمع في اتجاه العبادة، وشرع الحج.

ويمکن أن نسمي مجتمع موسي بن عمران بـ(مجتمع السحر والعسکر) فاتجه الناس إلي استلهام القوي المنظرة والخفية، فعبدوا رمز القوة، فرعون، وخنعوا بجنوده، وقدسوا سحرته، فکانوا مع القوة ولکنهم أخطئوا في تحديد القوة التي يصح اتّباعها، وموسي بن عمران (عليه السلام) کان رمز القوة في أعلي درجاتها، فهو رسول الله الذي خلق السماوات والأرض، وقد انتزع فرعون من عرشه وغلوائه، وأطبق البحر عليه وعلي جنوده، وأتي بتسع آيات بينات أذهلت جميع المتعاملين مع القوي الخفية حتي (قالوا آمنا برب العالمين رب موسي وهارون). [سورة الأعراف: الآية 121 - 122].

ويمکن أن نسمي مجتمع عيسي ابن مريم بـ(مجتمع الطب والمغيبات) فاتجه الناس إلي الأطباء والمخبرين عن المغيبات، حتي منحوهم السيادة والقيادة، واتبعوهم في کل ما يقولون وما يتنبئون. وتکريم الأطباء مقبول، فالطب علم إنساني مستحب، واحترام المخبرين عن المغيبات معقول - إذا کان معتمداً علي أسس مشروعة - ولکن المغالاة في حقهم حتي اتّباعهم في الإلحاد، وتقديم کلمتهم علي کلمة الأنبياء مرفوض، وعيسي ابن مريم (عليه السلام) تجلت معجزاته في تحديات فسيولوجية، جسدية، يمکن تنظيرها بالطب من صياغة طين بهيئة الوطواط والنفخ فيه لينطلق طيراً في الهواء، وشفاء المصابين بالأمراض المستعصية بمسحة يد، وإحياء الأموات - الذين ابيضت عظامهم في ظلام اللحود - بکلمة، وفي الإخبار عن المغيبات حتي ما يکتنزه الناس في بيوتهم.

ويمکن أن نسمي مجتمع الرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله) بـ(مجتمع البلاغة والسيف) فاتجه الناس إلي عبادة البلاغة والسيف، فلم يکن يستحوذ علي مشاعرهم إلا رجل البلاغة، ولم يکن يهيمن علي حياتهم إلا رجل السيف، والبلاغة في التعبير فضيلة، والسيف لفتح الطريق أمام الحق لابد منه، والانحراف في ذلک أن يکون رجل البلاغة أو السيف حاکماً غير مسؤول. والرسول الأعظم (صلّي الله عليه وآله) بلغ في البلاغة درجة التحدي العام المطلق (وإن کنتم في ريب مما نزلنا علي عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدائکم من دون الله إن کنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للکافرين) [سورة البقرة: الآية 23 - 24]. وبلغ في مقدرته علي حمل السيف، أن أعاد الجزيرة إلي صوابها دون أن يقتل سبعمائة رجل، وکانت قبله دولاب دم، ومفرمة بشرية.

وإذا استعرضنا مجتمعات الأنبياء نجد التجانس بينها وبينهم، بفارق واحد، وهو أنها کانت علي باطل، وأنهم کانوا علي حق.

إذن فالتجانس بين الأنبياء ومجتمعاتهم موجود وواضح: والسؤال هو:

هل المجتمعات هي الأصل، والأنبياء کانوا امتداداتها؟ أو أن الأنبياء هم الأصل والمجتمعات کانت امتداداتهم؟ مع العلم أن ما يؤيده الاختبار الخارجي والقرآن والکريم والسنة المطهرة هو الثاني دون الأول.

وبتعبير أوضح:

هل المجتمع هو الذي يتقلب في أطواره المختلفة، فتقوده محرکاته الذاتية في کل بضعة قرون إلي طور معين، نتيجة لتفاعلاته الداخلية المعقدة، کما يغير النهر مجراه بعوامله الخاصة، وکما تغير الأرض مظاهرها الجغرافية وفق معادلاتها الباطنية، فتجعل من قاعات بحار قمم جبال، وتجعل قمم جبال قاعات بحار. أو أن الأنبياء - وأصحاب الولاية منهم بصورة خاصة - طاقات کونية کبيرة، فهم المحرکات الأساسية للمجتمعات، فحينما يتجه أي واحد منهم إلي الوجود البشري، تسبقه موجاته وخصائصه إلي المسرح البشري - وهذه ما تسمي في لغة العصر الحديث بـ(الارهاصات) - فتلقفها المشاعر المرهفة في الناس، وإن کانت محطات الاستقبال الشعورية، تلونها في کل فرد بطابعها الخاص، فتظهر موجاته وخصائصه من خلال کل واحد بشکل، فينال کل فرد زخماً جديداً يرفعه إلي مستوي أعلي من مستواه الذي کان عليه قبل اتجاه نبي زمانه إلي الوجود البشري، ولا ينافي ذلک أن يزداد السعيد سعادة وأن يزداد الشقي شقاوة.

تماماً کالنجوم، فکل نجمة تقترب من الأرض، تسبقها کهربتها الخاصة إلي سطح الأرض، فتکون زخماً جديداً ينشط الکائنات الحية وإن کانت تلک الکهربة - نتيجة للتفاعلات المختلفة - تصطنع في کل کائن حي بطابعه، فتکون حدة في الشوک وسماً في الأفعي، وروعة في الوردة، ووهجاً في المعادن.

أرأيت الشمس، کيف يبادر شعاعها إلي الأفق؟ ثم کيف يعزز ذلک الشعاع في المواشير؟ وکيف يطبع بطابع الزجاجات المختلفة التي يمر عبرها؟ وکيف يمنح العيون صفاءً ويزيد الفحم عتمة، ويعطي الصخر صلابة، ويعقد في السنبلة حبة، ويخلع علي الأشجار وشاحاً أخضر؟

هکذا نجد خصال کل نبي في قومه، والسؤال الذي بدأنا به:

هل النبي أخذ خصاله من قومه، وبلورها في صيغة نبوية؟ أو أن النبي منح خصاله لقومه، فطبعها کل واحد منهم بطابعه الخاص به؟.. ولا شک أن الثاني هو الصحيح الذي دلت عليه الآيات والروايات والواقع الخارجي. وإذا أردنا الانتقال من أوضاع الأنبياء وتفاعلاتهم مع مجتمعاتهم إلي وضع الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) وتفاعلاته مع مجتمعه، نجد أن خصائصه بدأت تظهر علي المسرح البشري منذ أوائل القرن العشرين، فأبرز خصائصه (العلم والقوة) علم يستثمر کل طاقات الأرض والفضاء، فيعيش کل فرد حتي يري ابناً من صلبه دون أن يکتسحه بؤس أو عناء، وقوة تلف الأرض براية واحدة، وتدع الذئب يرعي مع الغنم في قطيع، وقد بدأ العلم والقوة يطبعان المجتمع البشري کله وفي کل المجالات، بشکل سريع يوحي بأن نجمة العلم والقوة قد اقتربت من الأفق، وحان ظهورها للأبصار.