الايمان بالحقائق الغيبية


إن الإيمان بالحقائق الغيبية ينبغي أن يکون تسليماً للأوامر الدينية؛ بمعني أن هذين الأمرين ينبغي أن يکون الإيمان بهما من البديهيات في عقيدة الإنسان المسلم، وذلک قبل البحث عن الاستدلال أو الکشف عن أسبابهما ونتائجهما المادية.

فالله سبحانه وتعالي حينما حرّم أکل لحم الخنزير، إنما حرّمه ليکون موضع ابتلاء وتمييز للملتزم من غير الملتزم، قبل أن يحرمه لمضارّه الصحية. والإنسان المسلم عليه التقيد بهذا القيد، إذ من دونه تکون نار جهنم بانتظاره.

ثم إن من دون الاعتماد علي الله والنصوص التي أوردها في قرآنه الحکيم وعلي لسان رسوله الکريم صلي الله عليه وآله يکون دين الإنسان المسلم أمراً معلّقاً علي معرفة الأسباب قبل التأدية، وبالتالي فإنّ نوعاً من اليأس من روح الله تعالي يسيطر عليه، الواقع الذي وصفه الله بالکفر، حيث قال سبحانه: «وَلا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْکَافِرُونَ» (يوسف/87)

إن الصحيح في الأمر هو التصور المجرد بأنّ وراء الأوامر الإلهية جنات وثواب ورضوان، وأن وراء المناهي نيران وعقاب وسخط إلهي کبير، وأن الإيمان بالغيب هو العامل الأهم في تلقي واستيعاب هذه الحقيقة.

إن الشريعة الإسلامية -کما هو واضح- تشجعنا علي العلم، وتحرّضنا علي السعي نحو معرفة أسباب الأحکام والأوامر والمناهي. ولکن لا يعني ذلک أنّ إيماننا بالشريعة الإسلامية يکون متوقفاً علي معرفة أسبابها، فهذا الإيمان لا يعدّ أبداً إيماناً بالغيب.

الإمام الصادق عليه السلام يقول: "نحن - الأئمة - صُبّر، وشيعتنا أصبر منّا"، قلت (الراوي): جعلت فداک کيف صار شيعتکم أصبر منکم؟ قال: "لأنا نصبر علي ما نعلم، وشيعتنا يصبرون علي مالا يعلمون". [1] .

إذن؛ فالقضية تکمن في ضرورة الارتفاع الي مستوي الإيمان بالغيب وما يتطلبه، وليس الاتجاه نحو تجيير الحقائق الإيمانية لصالح المذاقات النفسية والمادية، وإنما يتم ذلک عبر تعويد الذات علي عدم الاکتفاء بما تشاهده العينان وتحسّه الحواس. بل لابد من الإيمان بما يشهد عليه القلب والعقل، وما يطمئن إليه الضمير، وينصّ عليه الکتاب والرسول.

وببالغ الأسف أقول: إن بعض الناس من المسلمين أصبح لا يؤمن بحکم شرعي حتي يعرف سببه أو يفسر له العلماء ذلک، وهذا يعتبر تجاوزاً صارخاً علي حقيقة القرآن والأحکام الشرعية القائلة بضرورة الإيمان بالغيب والتسليم بإخلاص الي أوامر الله ونواهيه، لاسيما وأنّ الآيات القرآنية الکريمة التي تلوتها علي مسامعکم في مقدمة الحديث تشير بکل وضوح إلي أن الإيمان بالغيب أمر متقدم علي إقامة الصلاة - وهي عمود الدين - وعلي الإنفاق في سبيل الله تعالي ذکره.

وکما تقدم؛ فإن الله ووحدانيته هما من مصاديق الغيب رغم أننا نعجز عن رؤيته بأعيننا، ولقد روي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: جاء حبر إلي أمير المؤمنين صلوات الله عليه فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربک حين عبدته؟ قال: فقال: ويلک ما کنت اعبد رباً لم أره؛ قال: کيف رأيته؟ قال: ويلک لا تدرکه العيون في مشاهدة الابصار ولکن رأته القلوب بحقائق الايمان. [2] فالله تعالي قد خلق أرضاً واحدة، وجعل فيها ماءً واحداً، وشمساً واحدة، ولکنّه جعل أنواع متعددة من الفاکهة.. ونحن من خلال کل هذا نصل الي معرفة أسماء الله، وآيات الله، وقدرة الله و تدبيره.

وهکذا من کان يشک في وجود أو ظهور أو انتصار الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف فالمشکلة فيه هو لا غير. فالأدلة کثيرة للغاية، ولکنه هو بذاته أصبح - لضعف إيمانه - لا يؤمن بالشيء دون أن تراه عيناه.

ويروي أن أحد الزنادقة جاء الي مقبرة الکفار فتناول عظماً من عظام الموتي، وقال لمن کان حاضراً من المسلمين: أري أنکم تقولون إن الکفار يتعرضون لنار القبر، وإن هذا العظم بارد کقطعة ثلج في يدي.. فجيء به إلي أمير المؤمنين عليه السلام الذي أجابه بعد أن تناول حجرين من الأرض وضرب بعضهما ببعض فأنقدحت شرارة من نار: أين کانت هذه النار؟

نعم؛ إن جهنم محيطة بالکافرين، انسياقاً واتّساقاً مع أعمالهم ومعتقداتهم الشيطانية.

وفيما يروي من الأحاديث الشريفة، هو القول بأن فائدة الإمام الحجة عليه السلام کفائدة الشمس التي تسترها السحب.

ولتوضيح ذلک، أقول بأن الإمام عجل الله فرجه الشريف - کما کان آباؤه الطاهرون- هو عدل القرآن، وهما ثقلان ورافدان إلهيان؛ ولکن لمن کان له قلب وأراد أن يتذکر ويتبصّر ويستفيد. فهؤلاء العلماء الربانيون والمجاهدون العاملون إنما يتزودون بزاد هذا الإمام العظيم، وإن سلوکهم الشريف وعدم انصياعهم وراء الهوي والوساوس الشيطانية، إنما هو انعکاس لعمق اتحادهم مع توجيهات الحجة عجل الله فرجه الشريف لهم.


پاورقي

[1] الکافي، ج2، ص93.

[2] الکافي، ج1، ص98.