فقه الاحاديث


کما هو واضح من مراجعة المصادر، ان هذه النصوص تبلغ حد الاستفاضة وربما التواتر، مما يجعل المسلم علي ثقة بها، وبانها صدرت عن النبي - صلي الله عليه وآله -. وهناک اکثر من شاهد علي انه عني بهذا العدد ائمة اهل البيت - عليهم السلام -، وهي التالية:

اولا / ليس هناک من ينطبق عليه هذا الوصف، وبهذا العدد المعين سوي ائمة اهل البيت - عليهم السلام -. فانهم وحدهم الذين بلغوا الذروة في صفات الانبياء - عليهم السلام -، وعددهم ايضا بلغ اثني عشر. ولم يشک احد ممن أوتي حظا من العلم والتقوي في سموهم ورفعة درجاتهم.. فهم الذين تنطبق عليهم تلک الصفات.

ثانيا / ان الاخرين الذين حاول البعض ان يجعلهم في موضع اشارة النبي، فانهم لا من حيث العدد ولا من حيث الصفات کانوا مؤهلين لتطبيق الحديث عليهم. وقد اوفي احد العلماء الکلام في مزاعم هؤلاء فقال:

اعلم ان هذه الاحاديث لا تنطبق الا علي مذهب الشيعة الامامية، فان بعضها يدل علي ان الاسلام لا ينقرض ولا ينقضي حتي يمضي فيهم اثنا عشر خليفة، وبعضها يدل علي ان عزة الاسلام انما تکون الي اثني عشر خليفة، وبعضها يدل علي بقاء الدين الي ان تقوم الساعة، وان وجود الائمة مستمر الي آخر الدهر، وبعضها يدل علي ان الاثني عشر کلهم من قريش، وفي بعضها کلهم من بني هاشم. وظاهر جميعها حصر الخلفاء في الاثني عشر وتواليهم، ومعلوم ان تلک الخصوصيات لم توجد الا في الائمة الاثني عشر المعروفين عند الفريقين، ولا توافق مذهبا من مذاهب فرق المسلمين الا مذهب الامامية، وينبغي ان يعد ذلک من جملة معجزات النبي - صلي الله عليه وآله وسلم - واخباره عن المغيبات. وهذا الوجه احسن ما قيل في هذه الاحاديث، بل لا يحتمل الذهن السليم المستقيم الخالي عن بعض الشوائب والاغراض غيره. ولو اضفنا اليها غيرها من الروايات الکثيرة الواردة في الائمة الاثني عشر التي ذکرنا طائفة منها في ابواب هذا الفصل يحصل القطع بان المراد منها ليس الا الائمة الاثني عشر - عليهم السلام -، ويؤيدها ايضا حديث الثقلين المشهور المقطوع الصدور، وحديث المروي عن طرق الفريقين النجوم امان لاهل السماء، واهل بيتي امان لامتي . قال في ذخائر العقبي اخرجه ابو عمر الغفاري النجوم امان لاهل السماء فاذا ذهب النجوم ذهب السماء، واهل بيتي امان لأهل الارض فاذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الارض قال في ذخائر العقبي اخرجه احمد في المناقب، وحديث النجوم امان لاهل الارض من الغرق، واهل بيتي امان لامتي من الاختلاف ذکر في الصواعق ان الحاکم صححه علي شرط الشيخين، وحديث مثل اهل بيتي کسفينة نوح الحديث المروي بطرق کثيرة. وما روي البخاري عن النبي - صلي الله عليه وآله وسلم - في باب مناقب قريش في کتاب الاحکام قال: لا يزال هذا الامر في قريش ما بقي من الناس اثنان، والحديث الذي احتج به ابو بکر يوم السقيفة علي الانصار وهو قوله - صلي الله عليه وآله وسلم -: الائمة من قريش، ويؤيدها ايضا قوله - صلي الله عليه وآله وسلم -: من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية . (عن الحميدي انه اخرجه في الجمع بين الصحيحين). وعن الحاکم انه اخرج عن ابن عمر ان رسول الله - صلي الله عليه وآله وسلم - قال: من مات وليس عليه امام فان موته موتة جاهلية . وعن الدر المنثور للسيوطي قال: اخرج ابن مردويه عن علي قال: قال رسول الله - صلي الله عليه وآله وسلم - في قول الله تعالي: (يوم ندعو کل اناس بامامهم) قال: يدعي کل قوم بامام زمانهم و کتاب ربهم وسنة نبيهم . وروي عن الثعلبي مسندا عنه - صلي الله عليه وآله وسلم - مثله. فيستفاد من مجموع هذه الاخبار ان وجود الائمة الاثني عشر مستمر الي انقضاء الدهر، وکلهم من قريش. ولم يدع احد من طوائف المسلمين امامة هذا العدد من قريش مستمرا الي آخر الدهر غير الشيعة الامامية. قال في ينابيع المودة (ص 446) قال بعض المحققين ان الاحاديث الدالة علي کون الخلفاء بعده - صلي الله عليه وآله وسلم - اثنا عشر قد اشتهرت من طرق کثيرة، فبشرح الزمان وتعريف الکون والمکان علم ان مراد رسول الله - صلي الله عليه وآله وسلم - من حديثه هذا الائمة الاثنا عشر من اهل بيته وعترته، اذ لايمکن ان يحمل هذا الحديث علي الخلفاء بعده من اصحابه لقلتهم عن اثنا عشر، ولا يمکن ان يحمله مع الملوک الاموية لزيادتهم علي الاثني عشر ولظلمهم الفاحش الا عمر بن عبد العزيز ولکونهم غير بني هاشم، لان النبي - صلي الله عليه وآله وسلم - قال: کلهم من بني هاشم في رواية عبد الملک عن جابر. واخفاء صوته - صلي الله عليه وآله وسلم - في هذا القول رجح هذه الرواية، لانهم لا يحسنون خلافة بني هاشم، ولا يمکن ان يحمله علي الملوک العباسية لزيادتهم علي العدد المذکور ولقلة رعايتهم الاية (قل لا اسئلکم عليه اجرا الا المودة في القربي) وحديث الکساء. فلابد من ان يحمل هذا الحديث علي الائمة الاثني عشر من اهل بيته وعترته - صلي الله عليه وآله وسلم -، لانهم کانوا اعلم اهل زمانهم واجلهم واورعهم واتقاهم واعلاهم نسبا وافضلهم حسبا واکرمهم عند الله، وکان علومهم عن آبائهم متصلا بجدهم - صلي الله عليه وآله وسلم - وبالوراثة واللدنية. کذا عرفهم اهل العلم والتحقيق، واهل الکشف والتوفيق. ويؤيد هذا المعني؛ اي ان مراد النبي - صلي الله عليه وآله وسلم - الائمة الاثنا عشر من اهل بيته ويشهده ويرجحه حديث الثقلين والاحاديث المتکثرة المذکورة في هذا الکتاب وغيرها. واما قوله - صلي الله عليه وآله وسلم -: کلهم يجتمع عليه الامة في رواية جابر بن سمرة، فمراده - صلي الله عليه وآله وسلم - ان الامة تجتمع علي الاقرار بامامة کلهم وقت ظهور قائمهم المهدي - سلام الله عليه -. انتهي هذا، ولکن التعصب والعناد الجأ اناسا من الذين يعدون انفسهم في زمرة العلماء الي ارتکاب تأويلات باردة، وابداء احتمالات ضعيفة کي يصرفوا هذه الاحاديث عن ظواهرها الواضحة المؤيدة بغيرها من النصوص الکثيرة المتواترة. ولا بأس بذکرها وذکر اجوبتها ايضاحا للمرام.

احدها: ما ذکره بعضهم في بعض حواشيه علي صحيح الترمذي، وهو ان قوله: اثنا عشر اشارة الي من بعد الصحابة من خلفاء بني امية وليس علي المدح، بل علي استقامة السلطنة وهم يزيد بن معاوية، و ابنه معاوية، ولا يدخل ابن الزبير لانه من الصحابة، ولا مروان بن الحکم لکونه بويع بعد بيعة ابن الزبير فکان غاصبا، ثم عبد الملک ثم الوليد الي مروان بن محمد.

اقول؛ ليت شعري ما الذي يحمل الانسان علي ارتکاب هذه التأويلات الفاسدة في احاديث رسول الله - صلي الله عليه وآله -، اهذا اجر رسالته عنا؟ او لا يکون ذلک استخفافا بکلامه صلوات الله عليه وعلي آله؟ واذا کان هذا مراده فأية فائدة في الاخبار عن ذلک و ما حاصله؟ ومن اين علم ان مراده الاخبار بامارة اثني عشر من بني امية دون معاوية ومروان، ومن اين علم انه اشارة الي بعد الصحابة، فلم لم يقل (يکون بعد الصحابة)، وقال: (يکون بعدي)؟ واذا وصل الامر الي اقتراح مثل هذا الاحتمال لصرف الکلام عن ظاهره حذرا عن اثبات مذهب اهل الحق فلا اختصاص ويکثر الاحتمالات فيحتمل ان يکون اشارة الي من بعد عبد الملک، وکان مراده من بعدي بعد عبد الملک، ويحتمل ان يکون اشارة الي من بعد هشام، ويحتمل ان يکون ستة منهم من بعد يزيد بن عبد الملک وستة منهم من بني عباس، ويحتمل ان يکون المراد بعد بني امية، ويحتمل ان يکون اشارة الي من بعد السفاح او المنصور او غيرهما من بني عباس أو يکون بعضهم من الامويين الذين ملکوا الاندلس وبعضهم من الفاطميين الذين حکموا بمصر.. اذ لا مرجح للاحتمال الاول علي واحد من هذه الاحتمالات. ثم کيف يکون الحديث صادرا علي غير سبيل المدح مع ما في بعض طرقه من العبارات الصريحة في المدح، وکيف يصح تنزيل هؤلاء الجبابرة الفجرة منزلة نقباء بني اسرائيل وحواري عيسي في هذه الروايات الکثيرة. هذا مضافا الي دلالة هذه الروايات علي انحصار الخلفاء في الاثني عشر.

ثانيها: ان بعد وفات المهدي - عليه السلام - يملک اثني عشر، ستة منهم من ولد الحسن وخمسة من ولد الحسين، وآخر من غيره. اقول: هذا ايضا مخالف لبعض هذه الاحاديث مثل قوله: بعدي اثنا عشر خليفة، وقوله: لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا، وقوله: لا يزال امر الناس ماضيا مما يدل علي اتصال زمانهم بزمان النبي - صلي الله عليه وآله وسلم - واستمرار وجودهم الي آخر الدهر، وانحصار الخلفاء فيهم کما صرح به في رواية ابن مسعود (انه سئل کم يملک هذه الامة من خليفة؟ قال: سألنا عنها الحديث). هذا مضافا الي ان بعد انطباق هذه الاحاديث علي الائمة الاثني عشر المشهورين بين فرق المسلمين وظهور صدق کلام النبي - صلي الله عليه وآله وسلم - ما الوجه في حمل تلک

الاخبار علي غيرهم وايکال الامر الي المستقبل؟

ان قلت ان تلک الخصوصيات وان لم توجد بعد في غير الائمة الاثني عشر - عليهم السلام - لکن يجوز ان توجد في غيرهم في المستقبل، قلت بعد وجود هذه الخصوصيات فيهم لا يجوز الاعتناء بهذا الاحتمال. الا تري ان الله تعالي حيث انزل وصف نبينا - صلي الله عليه وآله وسلم - في التوراة والانجيل فلما ظهر انکر اليهود والنصاري نبوته وبخهم في القرآن المجيد، ولم يقبل قولهم بانه سيظهر فيما بعد. واما الاستناد لصحة حمل هذه الاحاديث علي هذا القول بخبر يلي الامر بعد المهدي اثني عشر رجلا ستة من ولد الحسن الحديث، ففيه مضافا الي مخالفتها للاحاديث الکثيرة الواردة عن طرق الفريقين، انه مخالف لخصوص هذه الاحاديث وما فيها من انحصار الخلفاء في الاثني عشر واستمرار وجودهم واتصال زمانهم بزمان النبي - صلي الله عليه وآله وسلم - هذا مع ما في سنده من الوهن والضعف. فقد صرح في الصواعق بانها واهية جدالا يعول عليها، ونقل ذلک ايضا عن ابن حجر صاحب کتاب فتح الباري في شرح صحيح البخاري.

ثالثها: ما حکي عن القاضي عياض وهو ان المراد انهم يکونون في مدة عزة الخلافة وقوة الاسلام واستقامة اموره، وقد وجد هذا فيمن اجتمع عليه الناس الي ان اضطراب امر بني امية وقعت بينهم الفتنة زمن الوليد بن يزيد. وقال: ابن حجر في فتح الباري کلام القاضي عياض احسن ما قيل في الحديث، وارجحه لتأييده بقوله: في بعض طرق الحديث الصحيحة (کلهم يجتمع عليه الناس) ثم ذکر اسماء من وقع الاجتماع علي خلافتهم وهم ابو بکر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية ويزيد وعبد الملک واولاده الاربعة الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام وعمر بن عبد العزيز بن سليمان ويزيد. قال: فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملک.

اقول هذا الوجه اردء ما قيل في الحديث واهونه، وان قال ابن حجر انه احسن. ونحن نترک الکلام في نسب بني امية وعدم صحة انتسابهم الي قريش مع ان هذه الاحاديث مصرحة بکون الائمة الاثني عشر من قريش، ولکن نقول: کيف يصح حمل هذه البشائر التي صدرت علي سبيل المدح واطلاق الخليفة علي معاوية الذي حارب امير المؤمنين - عليه السلام - الذي قال فيه سيد النبيين - صلي الله عليه وآله وسلم - حربک حربي ، واعلن بسبه علي المنابر، ودس السم الي الحسن - عليه السلام - سيد شباب اهل الجنة. وعلي مثل يزيد بن معاوية قاتل الحسين - عليه السلام - والفاسق المعلن بالمنکرات والکفر والمتمثل باشعار ابن الزبعري المعروفة فرحا بحمل رأس ابن بنت رسول الله - صلي الله عليه وآله وسلم - اليه، وهو الذي اباح بأمره مسلم بن عقبة اهل المدينة ثلثا فقتل خلقاً من الصحابة ونهبت بأمره المدينة وافتض في هذه الواقعة الف عذراء حتي قيل ان الرجل من اهل المدينة بعد ذلک اذا زوج ابنته لا يضمن بکارتها، ويقول: لعلها قد افتضت في واقعة الحرة، وقيل تولد من النساء اربعة الاف ولد من تلک الواقعة، وقد قال رسول الله - صلي الله عليه وآله وسلم -: فيما رواه مسلم من اخاف اهل المدينة اخافه الله وعليه لعنة الله والملائکة والناس اجمعين ، وحکي عن الواقدي ان عبد الله بن حنظلة الغسيل قال: (والله ما خرجنا علي يزيد حتي خفنا ان نرمي بالحجارة من السماء. انه رجل ينکح امهات الاولاد والبنات والاخوات ويشرب الخمر ويدع الصلوة)، وهو الذي امر بغزو الکعبة. ذکر السيوطي وغيره ان نوفل بن ابي الفرات قال کنت عند عمر بن عبد العزيز فذکر رجل يزيد فقال: قال امير المؤمنين يزيد بن معاوية، فقال: تقول امير المؤمنين وامر به فضرب عشرين سوطا. وذکر في الصواعق انه قيل لسعد بن حسان ان بني امية يزعمون ان الخلافة فيهم. فقال: کذب بنو الزرقاء، بل هم ملوک من شر الملوک، وکيف يصح حمل هذه الاحاديث واطلاق الخليفة علي عبد الملک الغادر الناهي عن الامر بالمعروف. قال السيوطي في تاريخ الخلفاء لو لم يکن من مساويء عبد الملک الا الحجاج وتوليته اياه علي المسلمين وعلي الصحابة رضي الله عنهم يهينهم ويذلهم قتلا وضربا وشتما وحبسا، وقد قتل من الصحابة واکابر التابعين مالا يخفي فضلا عن غيرهم، وختم في عنق انس وغيره من الصحابة ختما يريد بذلک ذلهم.. فلا رحمه الله ولا عفا عنه. ام کيف يطلق الخليفة علي الوليد بن يزيد بن عبد الملک الفاسق الشريب للخمر والمتهتک لحرمات الله تعالي، وهو الذي ارا د الحج ليشرب فوق ظهر الکعبة فمقته الناس لفسقه، وهو الذي فتح المصحف فخرج فاستفتحوا وخاب کل جبار عنيد فالقاه ورماه بالسهام وقال:

تهددني بجبار عنيد فها انا ذاک جبار عنيد اذا ما جئت بک يوم حشر فقل يا رب مزقني الوليد فما يلبث بعد ذلک الا يسيرا حتي قتل. اهذا معني عزة الاسلام وخليفة رسول الله - صلي الله عليه وآله -؟!

ونقل انه لما ولي الحج حمل معه کلابا في صناديق، وعمل قبة علي قدر الکعبة ليضعها علي الکعبة، وحمل معه الخمر واراد ان ينصب القبة علي الکعبة ويشرب فيها الخمر فخوفه اصحابه من الناس فلم يقبل. وذکر المسعودي عن المبرد: ان الوليد ألحد في شعر له ذکر فيه النبي - صلي الله عليه وآله وسلم - فمنه قوله:

تلعب بالخلافة هاشمي بلا وحي اتاه ولا کتاب وقل لله يمنعني طعام وقل لله يمنعني شرابي وحکي عن العقد الفريد قال اسحق بن محمد الازرق: دخلت علي منصور بن جهور الازدي بعد قتل الوليد وعنده جاريتان من جواري الوليد الي ان قال: قالت احديهما: کنا اعز جواريه عنده فنکح هذه وجاء المؤذنون يؤذنونه بالصلاة فاخرجها وهي سکري جنبة متلثمة فصلت بالناس. ونقل السيوطي في تاريخ الخلفاء عن مسند احمد حديث ليکونن في هذه الامة رجل يقال له الوليد، لهو اشد علي هذه الامة من فرعون لقومه . فالصواب تسمية هؤلاء بالفراعنة لا الخلفاء، وتشبيههم بالملاحدة والکفرة لا بحواري عيسي ونقباء بني اسرائيل. وان شئنا لاشبعنا الکلام في مساويء بني امية، ولکن نقتصر علي ذلک مخافة عن الاطالة، ونقول کيف رضي القاضي ان يجعل هؤلاء الجبابرة من خلفاء رسول الله - صلي الله عليه وآله وسلم - الذين بشر بهم واخبر بانهم يعملون بالهدي، واذ امضوا ساخت الارض بأهلها، وان هذه الامة لا تهلک ما لم يمضوا وانهم بمنزلة نقباء بني اسرائيل. واعجب من ذلک اخراجه الحسن - عليه السلام - من الحديث مع انه خليفة بنص جده رسول الله - صلي الله عليه وآله وسلم - وادخاله يزيد ومعاوية وبني العاص الذين لعنهم رسول الله - صلي الله عليه وآله وسلم - في هذه الاحاديث.

واما ما في کلامه من التشبث بقوله: في صحيح ابي داود (کلهم يجتمع عليه الامة) فضعيف لوجوه:

احدهما: ان الظاهر من نسبة فعل الي احد صدوره منه بالاختيار دون الجبر والاکراه فالمراد بقوله: (يجتمع) لو سلمنا صدوره عنه - صلي الله عليه وآله وسلم - اجتماعهم بالقصد والاختيار. الا تري انه لا يصح لاحد ان يخبر عن وقوع اجتماع اهل مکة ومدينة عظماء الفقهاء ووجوه المحدثين وبقية الصحابة وکبار التابعين علي خلافة يزيد، وانهم اجتمعوا عليه واختاروه للخلافة او اجتماع المسلمين علي خلافة الوليد بن يزيد.

ثانيها: انه لو بنينا علي ذلک يلزم خروج امير المؤمنين والحسن - عليهما السلام - من الخلفاء، لعدم اجتماع اهل الشام عليهما مع قيام الاجماع والاتفاق علي خلافتهما.

ثالثها: ان هذه الزيادة غير مذکورة في غير هذا الطريق من طرق الحديث الکثيرة التي بعضها في غاية المتانة والصحة، فيحتمل قويا ان يکون قوله: (کلهم يجتمع عليه الامة) زيادة من الراوي. ولو کان المرجع فيما اذا دار الامر بين الزيادة والنقيصة اصالة عدم الزيادة فليس المقام منه لکثرة الروايات الخالية عن هذه الزيادة، وتفرد ابي داود في نقلها. والحاصل انه لا يصلح لان نقيد به هذه الاخبار الکثيرة المتواترة المطلقة التي رواها جماعة من الصحابة کعبد الله بن مسعود، وجابر بن سمرة، واکابر التابعين وغيرهم.

رابعها: انه علي فرض صدور هذه الجملة يجب تقييدها بغيرها مما ذکر في هذه الاحاديث کقوله کلهم يعمل بالهدي ودين الحق وانهم إذ أمضوا ساخت الارض بأهلها وانهم بمنزلة حواري عيسي ونقباء بني اسرائيل وان الخلفاء منحصرة فيهم.. فيعلم من ذلک کله ان الوجه الصحيح في هذه الزيادة علي تقدير صدورها هو کون المراد من اجتماع الامة اجتماعهم بالاقرار بامامة الائمة الاثني عشر وقت ظهور المهدي - عليه السلام -.

ثالثا / من الوجوه التي قيل في الحديث المراد وجود اثني عشر خليفة في جميع مدة الاسلام الي يوم القيامة کما ذکره السيوطي في تاريخ الخلفاء نقلا عن ابن حجر في شرح البخاري قال: وقيل ان المراد وجود اثني عشر خليفة في جميع مدة الاسلام الي يوم القيامة يعملون بالحق وان لم تتوال ايامهم. ويؤيد هذا ما اخرجه مسدد في مسنده الکبير عن ابي الخلد انه قال: لا تهلک هذه الامة حتي يکون اثني عشر خليفة کلهم يعمل بالهدي ودين الحق منهم رجلان من اهل بيت محمد - صلي الله عليه وآله وسلم - الخ. وقال السيوطي في ذيل کلام ابن حجر وعلي هذا فقد وجد من الاثني عشر الخلفاء الاربعة والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز وهؤلاء ثمانية، ويحتمل ان يضم اليهم المهتدي من العباسيين لانه فيهم کعمر بن عبد العزيز في بني امية، وکذلک الطاهر لما اوتيه من العدل، وبقي الاثنان المنتظران احدهما المهدي لانه من آل بيت محمد - صل الله عليه وآله وسلم -، انتهي. قلت: هذا القول فاسد ايضا لدلالة کثير من هذه الروايات علي انحصار الخلفاء في الاثني عشر، بل بعضها نص في ذلک لا يقبل التأويل والتوجيه کرواية ابن مسعود، ولدلالتها ايضا علي اتصال زمانهم واستمرار وجودهم.

واما الاستشهاد لتأييد هذا القول بما اخرجه مسدد في مسنده عن ابي الخلد فموهون لوقوفه علي ابي الخلد فهو اعم من ان يکون صادرا بعنوان الرواية والحديث عن النبي - صلي الله عليه وآله وسلم - او الاخبار عن رأيه واعتقاده واجتهاد نفسه. وعلي فرض عدم وقوفه فلا شک في ان قوله: (منهم رجلان من اهل بيت محمد) کما يشهد به سياق الکلام زيادة واجتهاد من ابي الخلد او غيره ممن روي عنه، وإلا لقال من اهل بيتي بدل من اهل بيت محمد، ويؤيد ذلک کله ما يأتي في هذا الباب (ح 53).

عن الخصال بسنده عن ابي نجران ان ابا الخلد حدثه وحلف له عليه الا تهلک هذه الامة حتي يکون فيها اثني عشر خليفة کلهم يعمل بالهدي ودين الحق، ولم يذکر هذه الزيادة. وعلي کل حال لا اعتناء بهذا الخبر مع ما في سنده ومتنه من الضعف ومعارضته بالروايات المعتبرة، ولا يقيد بمثله تلک الاخبار الکثيرة المطلقة الدالة علي اتصال زمانهم وانحصارهم في الاثني عشر المؤيدة بالاخبار المتواترة وان کان ولابد من التقييد فمقتضي الصناعة والجمع بين هذا الخبر وغيره من الروايات حمله عليها وتقييده بها فانه وان لم نقل بکونه ظاهرا في الولاء واتصال زمانهم فليس ظاهرا في عدمه فيقيد اطلاقه بغيره من الاخبار. وعليه يجب اما طرح ذيله او طرح تمامه صدرا وذيلا، لان الاخذ بتمامه بعد هذا التقييد مستلزم للمفاسد التي ذکرناها جوابا عن ما حکي عن القاضي عياض. هذا ولا يخفي عليک ما وقع فيه السيوطي في المقام من السهو والنسيان، فان علي ما ذکره يلزم ان يکون ثلثا منهم من اهل بيت محمد - صلي الله عليه وآله وسلم - لان عليا والحسن من اهل البيت بصريح آية التطهير ونص النبي - صلي الله عليه وآله وسلم - هذا مضافا الي ما في کلامه من عد مثل ابن الزبير ومعاوية ممن يعمل بالهدي. ثم اعلم انا اعتمدنا في الجواب عن هذه الوجوه التي قيل في هذه الاحاديث بما يستفاد من خصوص هذه الروايات وما يقتضي ظواهرها الواضحة ولم نعتمد علي غيرها کالروايات الکثيرة المعتبرة الدالة علي امامة الائمة الاثني عشر باسمائهم وخصوصياتهم، والا فالجواب اوضح من هذا، وان شئت مزيد توضيح لذلک فعليک بالکتب المصنفة في هذا الباب فان فيها ما يزول به کل شک وارتياب والله الهادي الي الحق والصواب. [1] .

رابعا / ان سائر احاديث النبي حول اهل بيته، وضرورة مودتهم وحبهم والتمسک بهم، وانهم عدل القرآن وسفينة نوح، وانهم المهديون.. کل تلک الاحاديث التي فاضت بها الکتب، وتواترت بنقلها الاحاديث، بالرغم من مقاومة الطغاة لهم ولشيعتهم ولمن ينقل شيئا من فضائلهم ومناقبهم التي جرت علي لسان السنة..

اقول؛ ان سائر الاحاديث لتهدينا الي ان مراد النبي بالأئمة الاثني عشر هم اولئک الاطهار لا غيرهم. وقد نص بأنهم من قريش، ثم نص في احاديث اخري بانهم اهل بيته. وقد افرد العلماء مجلدات في رواية هذه الاحاديث وتخريجها ودراستها، وهي علي العموم تهدينا الي ان الحقيقة الواحدة التي بينها النبي بکل لسان ممکن هي استمرار خط الرسالة في أهل بيته کما استمرت رسالة الانبياء في اوصياءهم، وبالذات استمرت رسالة الله النازلة علي النبي موسي - عليه السلام - في النقباء.

خامسا / تدعم هذه الطائفة الکريمة من الاحاديث التي زخرت بها کتب علماء السنة تلک الطائفة العظيمة من احاديث اهل البيت - عليهم السلام - في بيان مراد النبي، والتي تبلغ زهاء خمسين حديثا.

ومن اهم السبل لمعرفة مراد کل محدث، ان نبحث عن شواهد في کلامه علي مراده وفي سائر احاديثه واقواله علي ما خفي منها علينا.

اما الذين يضربون کلمات المحدثين ببعضها ويفتشون عن ثغرة هنا وثغرة هناک، فانهم اما جهلة واما مغرضون.

وکان من دأب المشرکين والمنافقين ان يفعلوا مثل ذلک بآيات الله ويتبعوا ما تشابه منها ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، ففضحهم القرآن وبين ان الراسخين في العلم يأخذون بالمحکم ويؤمنون بالمتشابه.

وقال سبحانه منذرا الذين يبعضون الآيات القرآنية:

«کَمَآ أَنزَلْنَا عَلَي الْمُقْتَسِمِينَ ، الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْءَانَ عِضِينَ ، فَوَرَبِّکَ لَنَسْاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، عَمَّا کَانُوا يَعْمَلُونَ» (الحجر / 90-93)

سادسا / ان ترسيخ قاعدة الولاية الالهية في الأمة الناشئة، وصيانتها من کيد الجبابرة، ومکر المنافقين کان بحاجة الي تدبير حکيم، يجعل الاجيال الصاعدة علي وعي کاف بها دون ان يتعرض لتحريف الطغاة واعوان الظلمة.

ومن المعروف ان النبي - صلي الله عليه وآله - انما بلغ المسلمين ولاية امير المؤمنين بعد حجة الوداع وفي اخر ايام حياته المبارکة حينما نزلت عليه اية کريمة تقول له:

«يَآ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ اُنْزِلَ إِلَيْکَ مِن رَبِّکَ وإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُکَ مِنَ النَّاسِ» (المائدة / 67)

وهکذا قام في الناس خطيبا علي ضفاف غدير خم، وعند مفترق الطرق، وقال صراحة: من کنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله .

فمن اجل ابلاغ المسلمين بولاية الأئمة - عليهم السلام -، بحيث تتم الحجة عليهم وتصل الاخبار الي سمع کلهم، کان ينبغي ان يتکلم في کل موقع ببعض الحقيقة، فاذا جمعت الي بعضها افادت الکلمات المراد بأکمل وجه. وفي ذات الوقت ليتجاوز الحديث رقابة الطغاة، الذين منعوا في البدء تداول الحديث، ولکنهم فشلوا فأخذوا يؤلون الاحاديث بالطريقة التي تقتضيه اهواءهم. وقابلية التأويل هذا کانت بمثابة صيانة للحديث عن الحذف من قبل الطغاة، فانهم زعموا انهم بالتأويل يجعلون الناس في حيرة من امرهم وهکذا کان. ولکن کانت هناک فئات من المجتمع عرفت کيف تتجاوز زبد التأويلات القسرية وتبلغ الي فرات الحقيقة.

وهذا من ديدن البلغاء في کل قضية، لايسکتون عن الحق، ولا يصرحون به إذا کان في التصريح اثارة تمنع التمسک به، ولکنهم يکنون به بحيث يستفيد من يريد الاستفادة، ولا يؤذي من لا يريد ذلک.

ولعل منهج القرآن في المحکم والمتشابه هو القدوة في هذا المنهج. والرسول - صلي الله عليه وآله - اتبع ذات المنهج احيانا لابلاغ المسلمين ان الائمة من بعده هم اثني عشر وانهم من قريش. وقد صرح لخاصة اصحابه من هم اولئک کما حدثهم باسماءهم - عليهم السلام.

من هنا فان المنهج السليم في معرفة اقوال الرسول - صلي الله عليه وآله - کما في فقه کلمات اهل بيته - عليهم السلام - هو التقاط اشاراته والتنبه الي معاريضه وتوريته وألحانه. وانطلاقا من هذا المنهج نعرف ان الائمة الاثني عشر الذين عناهم من بعده هم - في الواقع - الائمة من اهل بيته الذين جعلهم عدل کتاب الله، ومثل سفينة نوح من رکبها نجا ومن تخلف عنها هلک.

سابعا / دراسة تاريخ اهل البيت - عليهم السلام - مع الحکام وتاريخ شيعتهم ومواليهم وما تعرضوا له من مذابح شنيعة علي امتداد

قرون متطاولة، وما قام به الحکام من دعاية وتهريج ضدهم وضد قواعدهم الثقافية ومنطلقاتهم الفکرية.. کل ذلک يهدينا الي حقيقة واحدة وهامة؛ ان الاعداء لم يؤلوا جهدا في حذف کل منقبة لهم من صفحات کتب الحديث، واذا وجدنا اليوم احاديث مثل ما سبقت حول عدد الائمة فانها البقية الباقية التي لم يستطع مشرط الرقابة من حذفها لسبب او لآخر.

ولذلک، فليس من الصحيح ان ننتظر اکثر مما هو موجود في احاديث النبي - صلي الله عليه وآله - حول اهل بيته وضرورة الالتفاف حولهم او عدد أوصياءه منهم.


پاورقي

[1] هامش کتاب منتخب الأثر في الامام الثاني عشر لمؤلفه آية الله لطف الله الصافي / ص 14 - 23.