انقسام الأمة و القيادة


لا حظنا في الفصول السالفة کيف تحددت قيادة الأمة بعد وفاة مؤسس الدولة خمس مرات، يمثل کل منها نموذجاً مختلفاً عن غيره، ولا حظنا کذلک ما أملته الطبيعية البشرية علي کبراء الجيل الأول فاختلفوا واقتتلوا، إذ تصرفوا في الأمر بعد إهمال الضوابط والنصوص - کما يتصرف البشر - فانتهي الأمر الي استئثار قريش بصالحها وطالحها علي قيادة الأمة، وراحت الغلطة الصغيرة الأولي تکبر وتکبر، الي أن انتهت الدولة في مدة قصيرة.

يقول الدکتور طه حسين: ذلک أن قريشاً فهمت قول أبي بکر (في السقيفة) علي غير ما أراده هو، وعلي غير ما فهمه



[ صفحه 154]



أصحابه في ذلک الوقت، فاستيقنت أن الإمامة حق لها لا ينبغي أن يعدوها الي غيرها، وأنه حق لها لمکانتها من النبي. وقد کانت قريش في هذا الفهم خاطئة متکلفة ما في ذلک شک. ولو قد صح فهمها وتأويلها لظهرت عليها حجة بني هاشم، ولکان بنو هاشم أحق المسلمين بالإمامة ما استطاعوا أن ينهضوا بأعبائها...

ومهما يکن من شيء فقد نشأت هذه الارستقراطية القرشية فجاءة علي غير حساب من الناس، وکانت أرستقراطية قد غلط بها. أراد أبو بکر أن تکون الإمامة في المهاجرين ما وجد بينهم الکفء القوي علي النهوض بها، فحولت قريش ذلک فيما بعد الي منافعها وعصبيتها وخرجت بذلک عن أصل خطير من أصول الإسلام) [1] .

وليس في اعترافنا بغلبة النفس البشرية وطباعها وميولها علي رجال الجيل الأول ونسائه، واقترافهم أخطاء سياسية لأسباب



[ صفحه 155]



بشرية، ما ينقص من قدرهم [2] أو يخرجنا من الملة، لأن أمور الحکم إنما تستقيم حين يکون التعاون والتضامن بين الحاکمين والمحکومين في الأصول التي يقوم عليها النظام، فليس يکفي أن يکون الحاکم يقظ الضمير مؤثراً للعدل مصطنعاً للمعروف حريصاً علي رضا الله، کافياً بعد ذلک لمشکلات السياسة، خراجاً منها إذا أدلهمت، وإنما يجب أن يکون لرعيته حظ من الضمير الحي اليقظ، ومن حب العدل، وايثار المعروف، والحرص علي رضا الله.



[ صفحه 156]



وهذه هي المشکلة الأولي التي واجهت نظام الحکم الجديد، فلم يکن العرب کلهم أصحاب رسول الله، بل لم تکن کثرة العرب قد صاحبت النبي واتصلت به، وإنما کان أصحاب رسول الله کالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو کالشعرة السوداء في الثور الأبيض، ولم يکن إيمان العرب بالدين الجديد مطابقاً أو مقارباً لإيمان هذه الطبقة من أصحاب النبي، وإنما کان من العرب من حَسُن إيمانه، ومنهم من أسلم ولم يؤمن.س.. بل کان من العرب من جرت کلمة الإسلام علي لسانه ولکنه احتفظ بجاهليته کاملة في قلبه ونفسه وضميره... فلم يکن هناک توازن بين الحاکم والمحکوم...

وأخري لاينبغي أن ننساها ولا ينبغي أن يضيق بها المتحرجون الذين يغالون في حسن الظن بالإنسان، وهي أن هذا الضمير الديني الحي اليقظ قد يتعرض للفتنة والمحنة، وقد يلقي أخطاراً کثيرة من الأحداث والخطول، فما أکثر ما يخلص الإنسان نفسه وقلبه وضميره للحق والخير والعدل والإحسان، ثم تلم به أسباب



[ صفحه 157]



الفتنة، وتلح عليه وتسرف في الإلحاح حتي تضطره الي أن يتأول في بعض الأمر، ثم ما يزال ينتقل من تأول الي تأول، ومن تعلل الي تعلل، ومن تحلل الي تحلل، حتي ينظر ذات يوم فإذا بينه وبين الإخلاص الأول أمد بعيد...

فليس من الغريب في شيء أن يتعرض کثير من الصالحين ومن أصحاب النبي أنفسهم لأسباب الفتن ودواعي الغرور، وأن يطرأ عليهم من الأحداث والخطوب ما يباعد بينهم وبين عهدهم الأول حين کان الإسلام غضاً، وحين کانوا يتصلون مصبحين وممسين) [3] .

هذا رأي صحيح، ولا أراني متفقاً مع الأستاذ عبدالکريم الخطيب فيما ذهب إليه من أن الصحابة خاضوا المعارک التي خاضوها فيما بينهم وهم علي غير يقين من صحة تصرفاتهم أو خطئها، واستشهاده بموقف سعد بن أبي وقاص من علي (ع) وبموقف الزبير أيضاً حين اعتزل قتال الإمام عليه السلام.



[ صفحه 158]



بل إني أختلف معه بشدة حين قول (هذه المعارک التي دارت بين المسلمين في موقعة الجمل، وفي صفين، وفي الحروب الکثيرة التي جاءت بعد ذلک مع الخوارج والأمويين والعلويين والعباسيين هذه المعارک کلها کانت باسم الدين ولحساب الدين) [4] فهذا رأي لا يستبين به الحق من الباطل.

ونحن حين نري في أفعال هؤلاء العظماء رأياً لا ينبغي أن نخرج من تحليل مواقفهم وآرائهم کما هي مدونة في التاريخ الي أکثر من ذلک، لا لأنهم في منزلة بين البشر والملائکة، بل لأن الإسلام منع سباب المسلم عامة.

ولأصحابنا أسوق رأي الأستاذ المودودي رحمه الله في هذا إذ يقول:

(وهناک فرق أساسي بين نظرتي ونظرة الآخرين في هذا الأمر کثيراً ما يسيئون بسببه فهم موقفي، فالناس يفهمون أن العظيم لا يخطيء أبداً، وأن من يخطيء فليس عظيماً، ومن ثم لا يريدون



[ صفحه 159]



أن يقال عن أي فعل من فعال العظماء أنه خطأ، الي جانب أنهم يظنون أن من يقول عن فعل من فعال العظماء أنه خطأ لا يعتبرهم عظماء. أما رأيي ونظرتي فعلي عکس هذا، فعندي أن أي فعل صادر عن عظيم - غير الأنبياء - يمکن أن يکون غلطاً، ومع ذلک يظل العظيم عظيماً، ولا أقول بخطأ فعل من فعال عظيم من العظماء إلا عند ما يثبت لدي بالوسائل والطرق الموثوق بها أنه خطأ، وعند ما لا يمکن تأويل فعله بأي دليل معقول. غير أني حين أري - مع هذا الشرط - أن فعلاً من فعاله غلط، أقول إنه غلط، وأقف في نقدي عند هذا الحد.

وفي رأيي أن العظيم لا تتأثر عظمته بهذا الخطأ، ولا ينقص احترامه أو يقل، فإني لا أري ضرورة علي الإطلاق لإنکار الأخطاء الواضحة التي أخطأها من اعتبره عظيماً فأداريها وأسويها وأخفيها، أو أثبت صحتها بالتماس تآويل لها غير معقولة وغير منطقية، لأن النتيجة المحتومة للقول عن الخطأ أنه صواب هي انقلاب معيارنا وتبديل مقياسنا للصواب والخطأ، واجتماع کافة



[ صفحه 160]



الأخطاء التي أخطأها مختلف العظماء فرداً فرداً وتراکمها فينا، فإخفاء ما هو ظاهر وساطع سطوع الشمس - في رأيي - لا يکون فيه نجاح وفلاح بل انحراف وزلل آخر) [5] .

ولغير أصحابنا أسوق رأي الدکتور طه حسين إذ يقول:

(أما نحن فلسنا نعاصرهم ولا نشارکهم فيما شجر بينهم من الخلاف، وليس من المعقول لذلک أن نقحم عواطفنا في أمرهم إقحاماً، وإنما سبيلنا أن ننظر في أعمالهم وأقوالهم من حيث صلتها بحياة الناس وأحداث التاريخ، وأن نخطّيء من نخطيء، ونصوِّب من نصوب منهم من هذه الجهة وحدها، دون أن نقضي في أمر دينهم بشيء، فإن الدين لله، ودون أن نستبيح لأنفسنا أن نقول کما کان يقول أنصارهم وخصومهم هؤلاء مؤمنون وهؤلاء کافرون، وهؤلاء في منزلة بين بين، وهؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، ذلک شيء لا نخوض فيه، وليس لنا أن نخوض فيه، وإنما أمره الي الله وحده، فأما الذي الينا فهو أن نتبين من أعمالهم



[ صفحه 161]



وأقوالهم ما يلائم الحق والعدل والصواب وما لا يلائمه، وهذا في نفسه کثير، ولکن لا بد مما ليس منه بد) [6] .

فالوقائع التي قرأناها علي الصفحات الماضية لا يصح أن نسميها (فتنة) لکي نلقي بالتبعة علي من أراد للأمة هذه الفتنة وهو الله سبحانه وتعالي، لنبريء ذمة أشخاص نعزهم ونحبهم.

کما أنها أيضاً لم تکن - کما قال الأستاذ الخطيب وکما رأيت - لله وفي الله، ولا فعلوها وهم لا يدرون من أمر أنفسهم شيئا، ولا هي کما قال کثير في القديم والحديث - اجتهاد.

فذلک کله مراوغة ومدافعة، وإنما هي أخطاء وانحرافات ارتکبوها بطبيعتهم البشرية، التي ألهمها خالقها فجورها وتقواها.

هذه الأخطاء حين تراکمت أدت الي انقسام مزدوج في بناء الدولة وکيانها، لم يلتئم منذ ذلک اليوم الي هذا اليوم الذي نحن فيه. فهو قد وقع في القيادة کما قد وقع في النسيج الإجتماعي المکون من أفراد الأمة الذين يشکلون معاً وجنباً الي جنب خير



[ صفحه 162]



أمة وخير شعب. فأما الإنقسام الذي وقع في القيادة فهو الأساس والأخطر، لأن انقسام الأمة والناس لم يکن في الحقيقة إلا نتيجة له. ولأن الإسلام دين شامل کامل کان لابد من أن تکون القيادة التي تنفذه قيادة شمولية تستوعب جميع جوانب هذه النظرية الواسعة، فتقود الحرب، وتفقه الدين، وتدير الدولة، وتخط السياسة، وتعلم أسرار الدين، وتفهم الشريعة، وتشبع الأرواح، وتحق الحق، ولا تحابي قريباً أو نسيباً، وتحفظ أموال الناس، وتسوي بين أفراد المجتمع.

قيادة تکون - باختصار - أعلم الناس بالنظرية التي تقوم عليها الدولة، فتطابق شموليتها شمولية هذا الدين.

وکان مؤسس الدولة المحاط بوحي الله وعنايته ورعايته خير نموذج للقيادة المطلوبة، بحکم کونه نبي الله المرسل لتطبيق هذه النظرية. فلما انقطع الوحي بوفاة النبي، کان لابد من أن تحل محل المؤسس قيادة بهذه المواصفات تضمن سير الدولة الوليدة في الخط السماوي الذي وضع لها.



[ صفحه 163]



هذه القيادة الثانية بعد المؤسس کان لابد من کونها أقرب النماذج شبهاً برسول الله، وأفهم الموجودين للنظرية، وأدني من المؤسس من غيرها. قيادة تکون قد توفر لها من العلم والمعرفة الغزيرة ما لم يتوفر للآخرين، فتقيم الإسلام کما هو بغير محاباة لقبيلة، ولا مناصرة لعصبية. لکن ما حدث کان خلاف هذا، نعم تولاها فاضل لا شک في فضله، لکنها کانت تحتاج لمن هو أفضل ولا شک في أفضليته، لأن الدول المبنية علي نظريات فکرية ثورية تحتاج الي الإستمرار فترة علي نفس خط المؤسس حتي تستقر لها الأمور.

وقد رأينا کيف تم تعيين قيادة الدولة بعد المؤسس مرات وليس مرة، وکيف لعبت المصالح الشخصية، والعصبية القبلية دورها في کل هذه الأحداث، فأخذ الإنحراف الأول البسيط الذي کان کالشعرة ينتقل بالدولة والناس خطوة خطوة حتي انتهي الأمر الي ما رأينا... وإذا بخير أمة أخرجت للناس يقودها بعد انتهاء فترة الخلفاء الأربعة ومنذ بداية حکم بني أمية أطول الناس عداوة



[ صفحه 164]



للإسلام، وآخرهم دخولاً فيه، وأقلهم معرفة برسول الله، وأکثرهم تطاولاً عليه... من الملاعين وأبناء الملاعين والمطاريد، وأبناء البغايا والعاهرات.

ولأن هذه الأشکال لم تکن صالحة للقيادة جامعة لصفاتها انقسمت القيادة الي ثلاثة إتجاهات متفرقة کان من المفروض أن تجتمع کلها في شخص واحد: الجانب القانوني المتعلق بالشريعة وأحکامها، والجانب الروحي، والجانب السياسي.

وبدلاً من أن تکون القيادة عالمة بالشريعة، قائدة في الروحانيات، مدبرة للسياسة، إذا بهذه الجوانب تنفصل عن بعضها، ويستقل بکل جانب واتجاه منها قيادة لا تجمع الثلاثة في آن واحد. فاستقل بالقيادة القانونية من عرفوا بعد ذلک بالفقهاء، ثم انحصر مفهوم الشرع علي يديهم في المعني الفقهي الإصطلاحي الضيق، لأن هؤلاء طلقوا السياسة واکتفوا بجانب أو اثنين من جوانب القيادة، وساحوا في البلدان يعرفون الناس في ظل الأنظمة المنحرفة بأمور الدين، التي انتهج کل منهم في شرحها وجهة شخصية بناء علي ما فهم من الدين.



[ صفحه 165]



نعم أدي هؤلاء الفقهاء خدمات علمية بارزة، لکن تفرق علمهم في الناس - مع کونهم ليسوا أعلم من في الأمة - أدي الي اختلاف الناس باختلاف آراء الفقهاء، وشهد تاريخ الأمة نشأة أفقهة کثيرة، تبعاً لکل من خاض في هذا المضمار، ثم انقرض أکثرها لظروف سياسية في أغلبها، وبقي منها الأربعة التي نعرفها.

وأما الجانب الروحي فلم يجد من هؤلاء حظاً من الإهتمام، فاستقل به من اهتموا بشؤونه، وغلبتهم همومه، فانقطعوا عن الدنيا، وطلقوا السياسة، واستغرقوا في الروحانية استغراقاً، وعرفوا اصطلاحاً فيما بعد باسم الصوفية، ومنهم من تأثر بالفلسفة اليونانية، ومنهم من اقتبس من النصرانية، ومنهم من اتبع الشريعة، ومنهم من شطح.

نعم جرت محاولات لربط الطريقة بالشريعة کما فعل أبو حامد الغزالي، لکن محاولته اقتصرت علي الجمع بين الجانب القانوني والجانب الروحي، وبقيت بعيدة عن الجانب السياسي، أوقد أهملته إهمالاً.



[ صفحه 166]



هذا وذاک - أعني الجانب القانوني والجانب الروحي - يمکن أن تطلق عليهما مجازاً القيادة الدينية، مع أنها تسمية غير دقيقة، لکون السياسة ديناً أو جزءاً من الدين لا ينفک.

وبقي الثالث وهو جانب الحکم والسياسة وهو ما انفرد به من لا علم لهم بالقانون والشرع، ولا بالروح وعوالمها وأحوالها ومقاماتها. وأخذ بزمام الأمور في هذا الميدان أسوأ الناس في الأغلب من تاريخ الأمة.

صحيح قذفت الأقدار بنفر معدودين من الصالحين الي کراسي الحکم، لکنهم لم يحاولوا الجمع بين الجوانب المذکورة أو رد القيادة الي ما ينبغي أن تکون عليه، فکانوا کضوء خاطف وسط الظلام، ظهر ثم انقضي سريعاً، ربما قيل أن يدرک أغلب الناس وجوده.

ساد الأمة إذن إنقسام بين القيادة الدينية بجانبيها القانوني والروحي، وبين القيادة السياسية، وانفصلت هذه عن تلک، وتنفر هؤلاء من أولئک، وکثيراً ما تحول هذا الإنشقاق الي صراع وعداوة.



[ صفحه 167]



(ظل النفور والتصادم - أو علي الأقل عدم التعاون - السمة الغالبة علي ما بين القيادتين من علاقة، فالقيادة السياسية قليلاً ما کانت تساعد القيادة الدينية (ظل النفور والتصادم - أو علي الأقل عدم التعاون - السمة الغالبة علي ما بين القيادتين من علاقة، فالقيادة السياسية قليلاً ما کانت تساعد القيادة الدينية في القيام بواجبها، کما أن القيادة السياسية لم تقبل إلا أقل القليل من العون الذي کانت القيادة الدينية تقدمه لها، لأن الثمن الذي کان عليها أن تدفعه للقيادة السياسية نظير مساعدتها لها، ما کان إيمانها ولا ضميرها يرضي بدفعه. وکذلک کان الناس أنفسهم قليلاً ما يثقون فيمن اقترب - من أفراد القيادة الدينية - من السلاطين أو نال منهم منصباً أو منحنة أو عطاء، فأضحي معيار أهلية القيادةالدينية وصلاحيتها - في نظرهم - انقطاعها واستغناؤها عن الحکام، وصمودها أمام غضبهم وقهرهم وبأسهم، فإن شذ أحد أفرادها عن هذا المعيار نظر الناس اليه نظرات ثاقبة شديدة، وامتنعوا عن الإعتراف بعظمته، اللهم إلا إذا رفض المساومة والمهادنة علي أمر الدين رغم قربه من الحاکم.



[ صفحه 168]



بل إن نفس من کانوا يبيعون أنفسهم للقيادة السياسية - فضلاً عن عامة المسلمين - ما کانوا ليقبلوا إماماً وزعيماً دينياً يبيع نفسه للحاکم مثلهم، أو يحرف أحکام الدين تحت ضغط القوة والجبر. هکذا انفصل طريق القيادة الدينية عن القيادة السياسية منذ منتصف القرن الأول الهجري [7] .

هذا الإنقسام لم يظهر برأسه متأخراً کما يظن البعض بل في عهد الصحابة وأمام أعينهم، حتي وجد في الدولة الإسلامية ثلاثة خلفاء مبايعين في آن واحد (فکان مروان بن الحکم خليفة مبايعاً في الشام ومصر، وعبدالله بن الزبير خليفة مبايعاً بالحجاز والبصرة، والمختار الثقفي خليفة مبايعاً في الکوفة) [8] .

فما إن استقر الأمر لبني أمية حتي راح يتداول الحکم في الأمة من لا دين لهم ولا خلق، وامتدت سلسلتهم منذ ذلک الوقت والي يومنا هذا. فلئن أدت مشکلة القيادة الي أن يوجد في جيل



[ صفحه 169]



الصحابة وعلي رؤوسهم وفوق کرسي دولتهم من استحل حرمات الله والناس فأحرق الکعبة وضربها بالمجانيق واستباح مدينة رسول الله لجنده فاغتصبوا نساءها من صحابيات وتابعيات حتي أن (الرجل من أهل المدينة بعد ذلک کان إذا زوج ابنته لا يضمن بکارتها، ويقول لعلها قد افتضت في وقعة الحرة) [9] (وحبلت ألف امرأة في تلک الأيام من غير زواج) [10] فإن نفس المشکلة التي لم تحل بعد قد سلطت علي رقاب المسلمين في مختلف العصور وخاصة في عصرنا الحديث من ارتکبوا ويرتکبون ما هو أکثر من ذلک، لأن المشکلة بعينها لم تزل. وما النظم الحالية في بلاد المسلمين إلا إمتداد لذلک النظام القديم، مربوطة به بحبل وثيق طويل طوله أربعة عشر قرناً.

أما انقسام الأمة الذي جاء نتيجة انقسام القيادة، فکان له صور وأشکال، وظهر واضحاً في أکثر من مجال. ففي المجال



[ صفحه 170]



الإجتماعي والإقتصادي اندثرت (المؤاخاة) التي سوي بها المؤسس تسوية تامة بين أفراد المجتمع، ونشأت في مکانها طبقات غير متساوية هنا وهناک (فوجدت طبقة الارستقراطية العليا ذات المولد والثراء الضخم والسلطان الواسع، ووجدت طبقة البائسين الذين يعملون في الأرض ويقومون علي مرافق هؤلاء السادة، ووجدت بين هاتين الطبقتين المتباعدتين طبقة متوسطة هي طبقة العامة من العرب الذين کانوا يقيمون في الأمصار، ويغيرون علي العدو، ويحمون الثغور، ويذودون عمن وراءهم من الناس وعما وراءهم من الثراء، وهذه الطبقة هي التي تنازعها الأغنياء ففرقوها شيعاً وأحزاباً) [11] .

وفي مجال الفکر والعقيدة انقسم المسلمون فرقاً وأحزاباً، لأن التذبذب الذي عاشوه جعل أمور الفکر والإعتقاد موضع بحث ونقاش، فنشأ لکل فريق من رجال الجيل الأول حماة ومعارضون



[ صفحه 171]



ونشأت فرق أخري أما کرد فعل لبقية الفرق، وأما بوحي من السلطة واشارة، فإذا بالنسيج السوي يتمزق قطعة قطعة، واذا بالفکر مشتت، والعقيدة مختلف في تفاصيل أمورها ومسائلها، وإذا بعامة الناس منفصلة عن صراعات الفکر ودوامات الفرق، وازدادت الشقة بين الفرق وبعضها، فغلا کل منها وتطرف... ولما رأي العامة ذلک انکب کل فرد علي مصالحه وشأنه، فأعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله مؤثراً السلامة، تارکاً مساندة الحق وهو يعرفه.

وأتصور - إن کان من حقي أن أتصور - أن السبب في الإنحراف الذي اتسع ثم الإنقسام الذي وقع هو أن الدولة الإسلامية - وهي دولة فکرية - تحتاج الي مرجع يضم في صدره علماً يقينياً محدداً، ويعرف تفاصيل الشرع، وتتوافر فيه خصائص العلماء والساسة والزهاد العباد، فيکون أقرب الي الشخصية الکاملة، شخصية المؤسس.

هذا المرجع تکون له هيمنة المشرف علي شئون الدولة کي لا يتلاعب بشرعها متلاعب، أو يتأول قانونها متأول، أو يتحلل



[ صفحه 172]



منه متحلل، هو الفيصل في المنازعات إذا نشبت، والقائل بکلمته إذا الأمور ادلهمت، لما له من علم شامل واسع، وعقل مدبر، وروح شفافة، ولکونه قد شرب مما لم يشرب منه غيره، واختصه النبي المؤسس بما لم يطلع عليه غيره.

وقد وجد هذا المرجع فعلاً، وبهذه المواصفات فعلاً، فکان إماماً يسلم الکل بإماماته، ويحتاجون الي رأيه، ويلجأون اليه في المعضلات، فقد حفظت لنا کتب التاريخ والحديث رأيهم فيه، وتسليمهم بمنزلته، حتي کان إذا وقع أحدهم في ورطة قال (معضلة ولا أبا حسن لها).

لکنهم مع هذا، ورغم وجود المرجع بينهم، واستشارتهم له، لم يجعلوا لرأيه إلزاماً، فکانوا يطلبون رأيه فيشير عليهم ويستحسنونه، لکنهم بعد ذلک أحرار في أن يعملوا به أو لا يعملوا.

ومن هنا وقعت المخالفات لأنهم سلموا للإمام المرجع بمنزلته، ولم يضعوا في يديه قوة التنفيذ والإلزام، فصار رأيه بلا وزن في الدولة. هذه واحدة.



[ صفحه 173]



وأما الثانية فهي أن من وصلوا الي سلطة الدولة الوليدة ما کانوا يصلحون للمرجعية والإمامة وإن صلح بعضهم أو کلهم لمنصب رئاسة الدولة والحکومة، فلما سارت الدولة برأي رئيس الحکومة أو الجهاز التنفيذي، متحررة من سلطة المرجع، کانت کدولة بلا إمام ومرشد، فوقع ما وقع.

وأتصور أن هذا النظام لو أخذ به لرضيت الأطراف کلها، ولسارت الدولة بيد من سارت ومن لا تنکر کفاءتهم، ولکن في وجود مرجع امام يقول لرئيس الدولة: قف، إذا رأي منه ما يخالف الشرع عمداً أو سهواً.

وإذا تذکرنا أن قواعد وضوابط الدولة ونظام الحکم وتفاصيل الأمور لم تکن تکتب آنذاک، کان لابد من وجود من يعرفها ويعلمها علم اليقين، ومن ثم يبدو النص عليه وتعيينه للدولة والأمة من قبل الله ورسوله أمراً طبيعياً، لکونه الأعلم والأفهم والأشجع، والأقرب الي المؤسس والألصق به.

وإذا عرفنا أن منفذ السياسة وبرامج الدولة، ومدير حکومتها، لا يشترط فيه أن يکون الاعلم وإن اشترط له العلم، ولا يشترط



[ صفحه 174]



له ما هو مشترط في المرجع المرشد، کان عدم تعيينه والنص عليه ثم ترک اختياره للأمة والناس بالشوري أمراً طبيعياً، مادام هناک من يضمن سير الدولة علي الطريق المحدد المرسوم، وله سلطة إعطاء الضوء الأحمر والأخضر بما لديه من علم وفهم.

وقد لا يعجب کلامي هذا أهل التشيع أو بعضهم، وقد يضيق به أهل التسنن أو جلهم، لکن عليهم جميعاً ألا ينسوا أنه مجرد تصور فردي، وقراءة ذاتية.



[ صفحه 175]




پاورقي

[1] الفتنة الکبري: ص36 و 37 و 38.

[2] هذه المقولة من المؤلف والتي أکدها في الصفحات التالية برأي المودودي ذات وجهين، أحدهما صحيح فقط، وهو أنه توجد أخطاء طبيعية من کبار الشخصيات غيرالمعصومين (العظماء بتعبير المؤلف والمودودي) وهي لا تضر بقدرهم ومقامهم، وهي المعبر عنها عند الفقهاء بأنها لا تنافي العدالة ولا تسبب خروج صاحبها الي الفسق أو الکفر. والوجه الآخر أن نقول إن کل ما يرتکبه الشخص الکبير (العظيم حسب تعبير المؤلف) بغلبة النفس البشرية لاينقص من قدره حتي لو کان مخالفة للنبي صلي الله عليه وآله، فهذا ما لا يوافق عليه أحد من المسلمين. (الناشر).

[3] الفتنة الکبري: ص31 و 39 و 40.

[4] الإمامة والخلافة: ص132 - 133.

[5] الخلافة والملک: ص208 - 209، دار القلم، الکويت 1978.

[6] الفتنة الکبري: ص41.

[7] الخلافة والملک، أبو الأعلي المودودي: ص137.

[8] الفخري لابن طباطبا: ص86.

[9] نفس المصدر: ص84.

[10] الفتنة الکبري: ص41.

[11] البداية والنهاية لابن کثير: 8: 372، مطبعة السعادة مصر، وانظر للتفصيل ص219 - 221.