تأکيد الامام الصادق علي غيبة الامام المهدي


و يدل علي ذلک أحاديث کثيرة نذکر منها:

1- عن زرارة، عن الامام الصادق عليه السلام: «ان للقائم غيبة قبل أن يقوم، قلت: و لم؟ قال: انه يخاف، و أومأ بيده الي بطنه، يعني: القتل». [1] .



[ صفحه 122]



تضمن هذا الحديث الصحيح الاشارة الي بعض علل الغيبة، أعني: الخوف من القتل، و هي العلة الظاهرة علي مسرح الأحداث التاريخية التي أعقبت وفاة الامام الحسن العسکري والد الامام المهدي عليهماالسلام، و الا فهناک علل اخري وردت عن الامام الصادق عليه السلام أيضا، من قبيل أن لا يکون في عنق الامام المهدي عليه السلام نوع التزام للحاکم قبيل الظهور من عهد أو بيعة، و جريان السنن السابقة في غبات الأنبياء عليهم السلام، في غيبة الامام المهدي عليه السلام و نحو ذلک من العلل غير المنظورة في ابتداء زمن الغيبة، کما سيأتي في بيان علل الغيبة.

و في الحديث أيضا اخبار بشيئين قبل أوان حدوثهما:

أحدهما: غيبة الامام المهدي عليه السلام، و قد وردت في الحيدث نصا، و لم تتحقق الا في شخص الامام الثاني عشر عليه السلام، لثبوت بطلان من ادعيت غيبته، بوفاته، و تغسيله، و کفنه، و الصلاة، علي جنازته، و دفنه کما هو حال دعوي الکيسانية بغيبة محمد بن الحنفية رضي الله عنه، و دعوي الواقفية بغيبة الامام الکاظم عليه السلام. و نحو ذلک من الدعاوي الأخري الباطلة.

الآخر: و هو لا يقل أهمية عن الاخبار الأول، و قد تحقق علي طبق ما أخبر به عليه السلام، و هو الاشارة الي أن الأمة سوف لن تنصف آل محمد صلي الله عليه و آله، و أنها ستبقي علي حالها ببخس حقهم من السلطة، و ابعادهم عما جعله



[ صفحه 123]



الله تعالي لهم من الخلافة، و أن القائمين علي السلطة سيتمادون بغيهم، و يضاعفون تعسفهم علي أهل بيت نبيهم صلي الله عليه و آله لدرجة يضطر معها الامام المهدي عليه السلام الي الاختفاء عنهم.

و قد تحقق هذا في سنة (260 ه) بغيبة امامنا الامام المهدي عجل الله تعالي فرجه الشريف.

2- و عن المفضل بن عمر، عن الامام الصادق عليه السلام قال: «أما و الله ليغيبن امامکم سنينا من دهرکم، و لتمحصن حتي يقال: مات أو هلک بأي وادي سلک، و لتدمعن عليه عيون المؤمنين، و لتکفأن کما تکفأ السفن في أمواج البحر، و لا ينجو الا من أخذ الله ميثاقه، و کتب في قلبه الايمان، و أيده بروح منه، و لترفعن اثنتا عشرة راية مشتبهة لا يدري أي من أي، قال: فبکيت، فقال لي: ما يبکيک يا أبا عبد الله؟ فقلت: و کيف لا أبکي و أنت تقول: اثنتا عشرة راية مشتبهة لا يدري أي من أي!! فکيف نصنع؟ قال: فنظر الي شمس داخلة في الصفة، فقال: يا أبا عبد الله تري هذه الشمس؟ قلت: نعم، قال: و الله لأمرنا أبين من هذه الشمس». [2] .

و في حديث المفضل هذا تأکيد لما سيکون في زمان الغيبة من تمحيص و اختبار، حتي يقال ما يقال حينئذ، و يفهم من الحديث أن



[ صفحه 124]



القائل بهذا هم من الشيعة أنفسهم، نتيجة الدعاية الواسعة التي يشنها الطرف الآخر، المتمثل بالسلطة و أعوانها، و بعض عملائها کجعفر الکذاب عم الامام المهدي عليه السلام، زيادة علي شدة البلية، و طول المحنة، و کثرة الفتن، کل ذلک عوامل مباشرة في حصول الاضطراب عند ذوي النفوس الضعيفة من الشيعة، و تزلزل عقيدتهم، کالذي حصل لدي شر ذمة منهم في تأييد بعض المقولات الفاسدة التي ظهرت بعد وفاة الامام العسکري عليه السلام، من قبيل مدعيات جعفر الکذاب و نظرائه. و في مقابل هذا تجد في صفوفهم المصداق الواقعي لقوله تعالي: (لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله و لو کانوا آباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم أولئک کتب في قلوبهم الايمان و أيدهم بروح منه). [3] .

و قوله عليه السلام: «و لترفعن اثنتا عشرة راية مشتبهة..» اشارة الي تشتت الآراء، و اختلاف النوازع، و تعدد الأهواء، و کثرة أتباع الدنيا، و دعواتهم اباطلة، و غير ذلک من صور الظلم و مستلزماته، و قد کان هذا و ما زال موجودا بين الناس علي المستوي المذهبي الاسلامي، و علي المستوي السياسي و الاقتصادي، و غير ذلک من حقول الحياة المختلفة؛ لأن الحق و الباطل في صراع دائم، و اذا ما غلب الباطل انحرف المجتمع و انقسم علي ذاته، و تناحر في داخله علي طول خط انحرافه. و أما عن دعاة السوء و الأئمة المضلين، فما أکثرهم في التاريخ، فقد کانوا و لا زالوا يتمثلون بالعلماء المزيفين الضالعين مع الأجهزة الحاکمة المتعسفة الظالمة عبر التاريخ.



[ صفحه 125]



و هذا هو ما أشار اليه الامام الصادق عليه السلام بعبارة: «و لا ينجو الا من أخذ الله ميثاقه، و کتب في قلبه الايمان، و أيده بروح منه».

و لما کانت علامات الحق واضحة لائحة، و انها أبين من ضوء الشمس الداخل من الکوة الصغيرة، فضلا عما يحيط بالمهدي عليه السلام من التأييد الالهي، و ما يتلطف عليه الله عزوجل بالآيات الباهرة و المعجزات الظاهرة، مع علومه و أخلاقه و کمالاته عليه السلام، فلا خوف اذن علي المؤمنين من رايات الضلال التي سترفع بوجوههم علي أمل صرفهم عن المنقذ العظيم، لأنهم أبعد ما يکون عن الاشتباه بها، و انما الذي سيقع في حضيضها هو ليس الا من لا يطلب الحق و يريد الشبهة في الدين ابتغاء الفتنة.

و هکذا حاول الامام الصادق عليه السلام بهذا الحديث و أمثاله أن يکشف للامة المعالم الصحيحة لمعرفة الحق و الحقيقة.

و اذا کان المفضل قد أرسل دمعة حري لسماعه نبأ الغيبة و حيرة الناس يومئذ، فقد کان الامام الصادق عليه السلام غزير الدمعة علي ولده المهدي، بالغ التوجع، شديد الحسرة، و کم رؤي عليه السلام مهموما مغموما و هو يخبر الشيعة بغيبة المؤمل المنتظر، و کأنه عليه السلام کان يعيش حالة الامة، و هي واقفة مکتوفة الأيدي علي ما يصنعه العباسيون، و قضاتهم، و شرطتهم ببيت النبوة و مهبط الوحي و التنزيل، بالبحث و التنقيب عن خاتم الأئمة،



[ صفحه 126]



و مصادرة ميراثه من أبيه عليهماالسلام، و تمزق قلوب أتباعه، و لکنه التمحيص و البلاء الذي لابد منه. و يدل علي ذلک ما في الحديث المؤلم الآتي:

3- عن سدير الصيرفي، و المفضل بن عمر، و أبي بصير، و أبان بن تغلب؛ کلهم عن الامام الصادق عليه السلام في حديث طويل جاء فيه قوله عليه السلام: «... سيدي! غيبتک نفت رقادي، و ضيقت علي مهادي، و ابتزت مني راحة فؤادي، سيدي! غيبتک أوصلت مصابي بفجايع الأبد...» و حين سألوه عليه السلام عن سر توجعه، قال عليه السلام: «نظرت في کتاب الجفر صبيحة هذا اليوم... و تأولت فيه مولد قائمنا، و غيبته، و ابطاءه، و طول عمره، و بلوي المؤمنين في ذلک الزمان، و تولد الشکوک في قلوبهم من طول غيبته...». [4] .

هذا و قد مر الکلام عن الجفر و اعتراف ابن خلدون، و الجرجاني، و صاحب کشف الظنون بصحة کتاب الجفر، و أکدوا صراحة علي اخبار الصادق و الرضا عليهماالسلام من هذا الکتاب بحوادث مستقبلة وقعت علي طبق ما أخبرا به.

و هذا الحديث قد تضمن من الآيات الدالة علي الامام الثاني عشر عليه السلام الکثير الذي لا ينطبق الا عليه عليه السلام.



[ صفحه 127]



و من خلال معرفتنا بوفيات رواة الحديث عن الامام الصادق عليه السلام مباشرة يتضح لنا انهم أدرکوا الامام الکاظم عليه السلام و بعضهم عاصره، و عليه لابد و أن يکون الحديث هذا بعد ولادة الامام الکاظم عليه السلام بسنين کثيرة الأمر الذي يدل قوله عليه السلام: «و تأولت فيه مولد قائمنا» أنه لا مجال للتصديق بدعوي مهدوية الامام الکاظم عليه السلام التي تزعمتها رؤوس الواقفية طمعا في أمواله عليه السلام بعد وفاته لأنه کان عليه السلام مولودا في ذلک الحين.

و يزيد هذا الأمر وضوحا أن الامام الصادق عليه السلام لم يکتف بالتصريح بطول الغيبة و تولد الشکوک في القلوب من طولها، لئلا يکون هذا اغراء بمقولة الواقفية الذين قالوا بأن الامام موسي بن جعفر الکاظم عليهما السلام قد غاب في حبس هارون لعنه الله، و انما صرح الامام الصادق عليه السلام بطول العمر، الأمر الذي زيف قولهم و أبطله قبل انطلاقه، و مما زاده زيفا و دحضته الأيام و کذبه التاريخ هو عمر الامام الکاظم عليه السلام حيث استشهد و هو في سن الخامسة و الخمسين، فأين طول العمر اذن؟

و قد جاءت هذه الفوائد في غمرة التأکيد علي حصول الغيبة بالامام الثاني عشر عليه السلام، و الا فسيأتي ما يدل علي طولها صراحة في العنوان الآتي.


پاورقي

[1] اصول الکافي 9:338:1، و 18:340:1 باب في الغيبة.

[2] اکمال الدين 35:347:2 باب 33، و اصول الکافي 1: 338- 339: 11 باب في الغيبة، و 3:336:1 من الباب السابق، و کتاب الغيبة النعماني 151- 153: 9 و 10، و دلائل الامامة 532- 533: 512، و کتاب الغيبة الشيخ الطوسي 337- 338: 285. و التنوين في (سنين) علي لغة بني عامر، فلاحظ.

[3] سورة المجادلة 22:58.

[4] اکمال الدين 2: 352- 357: 50 باب 33، و ينابيع المودة القندوزي الحنفي 3: 310- 311: 2 باب 80.