فتنة العجل


لا شک أن أبرز ظاهرة في خصائص الديانة المصرية القديمة هي



[ صفحه 88]



کثرة الآلهة، ولو ذرعنا المنطقة من منف إلي أسوان وبحثنا في کل مرکز من مراکز العبادة، لوجدنا کائنات إلهية تتخذ صور الأبقار والتماسيح والکباش والکلاب الوحشية واللبؤات والعجول، وکثيرا من المخلوقات الأخري ويطلق عليها عادة أسماء شتي في مختلف المدن، ورغم أن الآلهة تبعا لبلادها کانت تختلف في الشکل وفي الاسم. إلا أنه توجد عدة دلائل علي أن المعتقدات الدينية کانت موحدة في أذهان المصريين أکثر مما نظن من واقع اختلاف أشکال الآلهة وأسمائهم [1] ويجل جميع قدماء المصريين البقرة لأنها معطية اللبن ولأنها الأم السماوية للشمس کما يعتقدون، وأطلقوا علي البقرة اسم (صخور) وکثيرا ما کانوا يبنون لها المعابد ويکرسون لها قطعانا کاملة من أخواتها، وکذلک للآلهة التي تتخذ صورة الثور (مثل: مونتو، ومين، وآمون) وللثيران التي تتجسد فيها الآلهة (مثل: منفيس، أبيس، هليوبوليس). [2] .

والعجل أبيس له بصمات واضحة علي العقيدة المصرية القديمة، فهو رمز الاخصاب. واعتقد المصريون أن العجل أبيس اقترن بإله منف (بتاح) واندمج في (أوزيريس) فتکون منهما إله جنائزي. ومنذ ذلک الوقت اتخذ موت العجل أبيس أهمية بالغة، فيدفن بجنازة رسمية وسط جمع من الکهنة وغيرهم الذين کانوا يحضرون له الهدايا من کافة أرجاء المملکة، وکانوا يعتقدون أن أبيس عندما يموت يعود فيولد من جديد، ولهذا کان الکهنة يبحثون عنه بمجرد أن يموت، ويتوجهون إلي الحقول ويفحصون القطعان للعثور علي ذلک الإله الذي يمکن التعرف عليه بعلامات خاصة فوق جلده، وعندما يعثرون عليه يحل الفرح محل الحزن ويتوج العجل الإلهي في الحظيرة المقدسة بمنف. حيث يعيش



[ صفحه 89]



مع أمه يحيط به حريم الأبقار. [3] .

فالبقرة ترمز إلي الاخصاب. وعقيدتها تقول أنها في (أبيس) بمجرد أن تموت تبعث من جديد. وهي في (صخور) حاکمة السماء وجسمها الحقيقي، والروح الحية للأشجار، ومربية ملک مصر، وأم حورس، وربة الذهب، وشخصية متعددة الألوان بوسعها أن تأخذ صورة لبؤة، وهي ربة للسعادة والرقص والموسيقي. [4] .

فس هذه العقائد شربت قلوب الذين کفروا من بني إسرائيل حب العجول. وقبل أن تجف أقدامهم من عبور البحر مع موسي عليه السلام اتخذوا العجل إلها. قال تعالي: (ولقد جاءکم موسي بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون. وإذ أخذنا ميثاقکم ورفعنا فوقکم الطور خذوا ما آتيناکم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بکفرهم). [5] .

وعلي عقيدة بعث العجل بمجرد أن يموت، إنطلقوا في آشور وفي بابل تحت سقف السبي، يبحثون عن هوية جديدة تبعث عليها دولتهم، لتضاهي (حخور) حاکمة السماء وجسمها الحقيقي. وتکون کالروح الحية للأشجار کما تقول عقيدة الأبقار، وتحت سقف البحث عن هوية.

کانت يد الله تعمل في الخفاء وهم لا يشعرون، قال تعالي: (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وکذلک نجزي المفترين) [6] وذلک لأن نظام العالم هو نظام الأسباب والمسببات، والمسيرة لم تأخذ بأسباب التوبة والرجوع إلي الله، وإنما



[ صفحه 90]



أخذت بأسباب لا تحقق النجاة ولا تهدي طريقا إلا طريق الفتنة التي تقود أتباعها إلي جهنم.


پاورقي

[1] الميزان 210 / 1.

[2] معجم الحضارة المصرية القديمة ص 32.

[3] المصدر السابق ص 3.

[4] المصدر السابق ص 96.

[5] سورة البقرة آية 92.

[6] سورة الأعراف آية 152.