آل عمران


انقسم اليهود حول المسيح المنتظر، ففريق قال إنه يأتي من نسل يوسف. وقال آخرون إنه يأتي من نسل داوود، وذکر (ملاخي) أن الله جعل عهده في سبط (لاوي بن يعقوب). وذکر العهد القديم أن من أبناء لاوي (نحشوم) وولد له (عمرام) وولد لعمرام موسي وهارون ومريم [1] ومن هذا النسل اختار الله تعالي الهداة الذين يسوقون المسيرة الإسرائيلية إلي الصراط المستقيم.



[ صفحه 115]



ولقد کشف يهود أورشاليم برامجهم وثقافاتهم التي تدعو إلي انتظار ابن داوود الذي يعيد مملکة داوود التي تعتبر عنوانا لعهد الله لإبراهيم، وهذه البرامج والثقافات تخالف نصوص قطعية في العهد القديم حدد فيها من أي سبط يأتي المسيح المنتظر، وإذا نظر الباحث في نسل داوود کما جاء في العهد القديم، يجد أن فاتحة النسل جاءت من الزنا کما ذکر العهد القديم، فيهوذا بن يعقوب زني بامرأة ابنه المسماة (ثامارا) وأنجب منها فارص، وفارص أنجب حصرون، وحصرون أنجب أرام، وأرام أنجب عميناداب، وعميناداب أنجب نحشون، ونحشون أنجب سلمون، وسلمون أنجب بوعز، وبوعز أنجب عوبيد، وعبيد أنجب يس، ويس أنجب داوود، ولما کانت المقدمة بها زنا کما ذکر العهد القديم، فإن هذه المقدمة لا تؤهل النسل في الدخول في جماعة الرب کما ذکر العهد القديم أيضا، وهو قوله لا يدخل ابن زني في جماعة الرب حتي الجيل العاشر. لا يدخل منه أحد في جماعة الرب. [2] .

وعندما بعث المسيح بن مريم عليهما السلام. وهو من نسل (عجرام) کما سنبين في موضعه. کانت ثقافة التفسير الشفهي للتوراة تغمر الساحة وتمد أتباعها بوقود انتظار بن داوود، وعندما لم يأت المسيح لليهود بما تشتهي أنفسهم رفضوه وتآمروا عليه، وبعد عصر المسيح عليه السلام أراد النصاري إثبات دعوة المسيح أمام اليهود، فألحقوا المسيح بنسل داوود، ليجعلوا اليهود بهذا الالحاق من الخارجين علي المسيح عليه السلام، وترتب علي هذا الالحاق إشکال، هو أنهم جعلوا للمسيح عليه السلام أربعة أجداد من الزنا، ومن کان کذلک فقد خرج من حزب الله کما صرح العهد القديم، والأجداد



[ صفحه 116]



الأربعة هم: مؤاب. فارص. بن عمي. سليمان، (أما مؤاب وبن عمي) فهما ابنا لوط. ذکر العهد القديم. أن لوطا زنا سکرانا بابنتيه فولدت له الکبري مؤاب وولدت الصغري بن عمي، [3] ومن الأول جاء الموابيون ومن الثاني جاء العمونيون، والعهد القديم يقول (لا يدخل عموني ولا موآبي في جماعة الرب حتي الجيل العاشر، لا يدخل منهم أحد في جماعة الرب إلي الأبد [4] (وأما فارص) فولد من ثامارا بعد أن زني بها يهوذا [5] (وأما سليمان) فولد من بت شبع امرأة أوريا حيث زنا بها داوود [6] - وحاشاه! والعهد القديم يقول لا يدخل ابن زني في جماعة الرب حتي الجيل العاشر. [7] .

فوقها لهذه النصوص يکون الذين ألحقوا المسيح عليه السلام بنسل داوود، قد أخرجوه في الحقيقة من جماعة الرب إلا الأبد، لأنه لا يدخل جماعة الرب کل ولد زنا ولا سيما المؤابيين وبني عمي وهو منهما، ومما يزيد الإشکال إشکالا أنهم علي الرغم من هذا النسب اعتبروا المسيح عليه السلام ابنا لله أو إلها متجسدا في الناسوت وتلک مصيبة کبري.

وفي إشکال نسب المسيح يقول موريس بوکاي: تطرح شجرتا النسب اللتان يحتوي عليهما إنجيلا متي ولوقا، مشاکل تتعلق بالمعقولية وبالاتفاق مع المعطيات العلمية، ومن هنا فهي مشاکل تتعلق بالصحة، وهي مشاکل تحرج جدا المعلقين المسيحيين.. وبادئ ذي بدء يجب ملاحظة أن هذين النسبين من جهة الرجال کما ذکر إنجيلا متي ولوقا،



[ صفحه 117]



معدوم المعني فيما يتعلق بالمسيح، ولو کان من الضروري إعطاء المسيح نسبا وهو وحيد مريم أمه وليس له أب بيولوجي، فيجب أن يکون ذلک النسب من جهة مريم فقط. [8] .

ولقد تضارب إنجيل متي مع إنجيل لوقا في نسب المسيح إلي داوود، فبينما يذکر متي أن من داوود إلي المسيح 26 جيلا، يذکر لوقا إنه 41 جيلا، وبينما يذکر متي أن يوسف النجار ابن يعقوب، يذکر لوقا إنه ابن هالي، وبينما يذکر متي أن المسيح من ولد سليمان بن داوود، يذکر لوقا إنه من ولد ناثان بن داوود، وبينما يذکر متي أن شلتائيل ابن يکنيا، يذکر لوقا إنه ابن نيري، وبينما يذکر متي أن ابن زور بابل يدعي أبيهود، يذکر لوقا إنه يدعي ريسا. [9] وبالجملة: النسب في العهد القديم به ولد زنا، والنصوص القاطعة تفيد أن من جاء من هذا الطريق لا يدخل جماعة الرب، وبعد بعثة المسيح انطلق متي ولوقا في إنجيل کل منهما. من دائرة المسيح إلي دائرة نسب داوود التي ذکرها العهد القديم، لإثبات أن المسيح بن مريم عليه السلام. هو ابن داوود المذکور عند اليهود. فجاء الانطلاق من دائرة إلي دائرة محرجا أمام النصوص.

والقرآن الکريم ينسب المسيح إلي أمه نسبة الولادة، وينسبه إلي الله نسبة الخلقة، ولقد طهر الله تعالي المسيح عن العهر عبر الأصلاب والأرحام وعما ينافي الطهارة إطلاقا بکلمة واحدة، وهي قوله عند ولادته (وجعلني مبارکا أينما کنت) [10] أي أينما کنت قبل الولادة في رحم أمي وجداتي حتي أمي الأولي حواء، وفي صلب أبيها والآباء حتي



[ صفحه 118]



آدم الأول، فقد کنت نورا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة، لم تنجسني الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسني من مدلهمات ثيابها، فقد کنت مبارکا أينما کنت وحيثما کنت، لم أر صلب زان ولا رحم زانية، أو صلب مشرک جهول ورحم مشرکة.

وجميع الأنبياء والرسل خرجوا من شجرة واحدة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ولقد اصطفي الله الأنبياء وآلهم علي العالمين کما في قوله تعالي: (إن الله اصطفي آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران علي العالمين، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم) [11] اصطفي سبحانه آدم عليه السلام لأنه أول خليفة له في الأرض، واصطفي نوح عليه السلام لأنه أول الخمسة أولي العزم من الرسل، وهو أيضا الأب الثاني للنوع الإنساني بعد الطوفان، لقوله تعالي: (وجعلنا ذريته هم الباقين) [12] واصطفي سبحانه آل إبراهيم. وهم إسحاق وإسرائيل والأنبياء من بني إسرائيل عليهم السلام. وإسماعيل والطاهر من ذريته وسيدهم محمد (ص)، وقد جاء ذکره في دعاء إبراهيم وإسماعيل عند رفعهما قواعد بيت الله الحرام بمکة. (ربنا واجعلنا مسلمين لک ومن ذريتنا أمة مسلمة لک) إلي قوله تعالي (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتک ويعلمهم الکتاب والحکمة ويزکيهم) [13] واصطفي الله آل عمران. وآل عمران من ذرية إبراهيم عليه السلام، ولکن الله أفردهم في آية الاصطفاء ليکون في هذا إشارة بأن الله تعالي قدمهم علي الناس في أمر أو أمور لا يشارکهم فيه أو فيها غيرهم.

وآية الاصطفاء في خطوطها العريضة إعلان للبشر بأن هؤلاء



[ صفحه 119]



الطيبين الذين خصهم الله والحق بهم من اختارهم، هم في الحقيقة خير أمة أخرجت للجنس البشري. ليقودوه علي فترات إلي صراط الله العزيز الحميد، وعلي امتداد المسيرة الإسرائيلية کان عهد الله في سبط (لاوي) وذروة هذا السبط هو عمرام، وولد لعمرام موسي وهارون ومريم کما ذکر العهد القديم، وأمر الله بني إسرائيل بالطاعة لکهانة هارون ومن بعده لکهانة بنيه، وعلي امتداد المسيرة امتحن الله تعالي بني إسرائيل بهذه الذرية وبجملة عهوده ووصاياه تعالي، وشاء الله أن تختتم المسيرة بآل عمران، فجاءت الخاتمة يحمل عمودها الفقري نفس الأسماء التي وردت في المقدمة، لعل القافلة أن تتذکر وتنصت إلي أقوال ملاخي وغيره، ولا تلتفت لأقوال الفرق العديدة التي أفرزها التفسير الشفهي للتوراة.

إن المقدمة جاء ذکرها في العهد القديم. بقوله إن امرأة عمرام يوکابد. ولدت لعمرام هارون وموسي ومريم [14] أما الخاتمة فقد جاء ذکرها في القرآن في آيات کثيرة منها قوله تعالي: (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لک ما في بطني محررا) [15] وقال تعالي: (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها) [16] فالخاتمة أمام اليهود تحمل عناوين المقدمة، واليهود کانوا يعلمون أن مريم بنت عمران في حاضرهم تنتسب إلي عمران في ماضيهم. لکنهم رکبوا مراکب الاستکبار، ومن الدليل علي ذلک. أن التشريع الوارد في سفر العدد.

يحتم أن تتزوج کل بنت من أسراتها إن أرادت الزواج من يهودي، لقوله وکل بنت ورثت نصيبا من أسباط بني إسرائيل، تکون امرأة لواحد من عشرة سبط أبيها، لکي يرث بنو إسرائيل کل واحد نصيب



[ صفحه 120]



آبائه [17] أي إن من هو من سبط روابين مثلا. يتزوج من سبطه ولا يتزوج من سبط شمعون. وهکذا، والنبي زکريا طبقا للشريعة تزوج من امرأة من بنات هارون فقد جاء في الإنجيل کان في أيام هيرودوس ملک اليهودية. کاهن اسمه زکريا من فرقة إبيا، وامرأته من بنات هارون واسمها اليصابات [18] والعذراء مريم أم المسيح عليهما السلام. يحکي لوقا إنها کانت قريبة لأليصابات، ومعني ذلک إنها تکون من نفس السبط الذي منه اليصابات، ولما ثبت أن اليصابات من بنات هارون. فإنه يثبت بالضرورة أن مريم عليها السلام من بنات هارون.

ومن الدليل أيضا علي أن اليهود کانوا يعرفون حقيقة النسب، أنهم أفسحوا للمسيح الطريق ليلقي بمواعظه داخل الهيکل. ذکر يوحنا: أن المسيح حضر إلي الهيکل. وجاء إليه جميع الشعب فجلس يعلمهم. [19] .

وذکر لوقا: دخل المسيح المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ [20] وما کان اليهود ليسمحوا بذلک إلا لعلمهم أن المسيح الذي تربت أمه في الهيکل بعد أن کفلها زکريا الذي ينسب لهارون. يحمل العلم الذي علموا موضعه علي امتداد المسيرة والقرآن الکريم أخبر في آياته أن اليهود کانوا يعرفون هذا. وأن الحجة قامت عليهم بما علموا وبما قدمه المسيح وحمله إليهم، وقال تعالي بعد أن وضعت العذراء ولدها (فأتت به قومها تحمله. قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما کان أبوک امرأ سوء وما کانت أمک بغيا) [21] قال صاحب الکشاف: قوله يا أخت هارون إنما عني هارون النبي، وکانت من أعقابه في طبقة



[ صفحه 121]



الأخوة، وعن أبي طلحة والسدي في قوله يا أخت هارون أي أخي موسي. وکانت من نسله. [22] .

لقد کانت شرافة النسب تقتضي القول: أنها أخت موسي لا هارون، لأفضلية موسي علي هارون، ولکن جاء انتسابها لهارون دون أبيها عمران ودون موسي. لتکون الحجة عليهم دافعة وهم يتلون الکتاب ويفسرونه التفسير الذي لا يقره أبناء هارون.

والخلاصة: لقد وضع اليهود النسب الذي يتفق مع أهوائهم، ثم شيدوا علي هذا النسب فتن لا تقود إلا إلي الدجال، ولقد بينت الرسالة الخاتمة أن للدجال کني وأسماء تستقيم مع فتنته. منها: ابن داوود، أبو يوسف [23] والنصاري الذين دونوا نسب المسيح لم يلتفتوا إلي أن المسيح ليس له أب بيولوجي، وأن نسبته إلي يوسف النجار لا جدوي من ورائها، لأن النسب يجب أن يکون من جهة العذراء فقط، لکنهم عملوا خلاف ذلک، واتبعوا النسب الذي وضعه اليهود، اعتقادا منهم أن متابعة اليهود في هذا، فيه إدانة لليهود الذين لم يؤمنوا بدعوة المسيح عليه السلام، ولکن هذا النسب الذي تجاهل سبط لاوي الذي علي ذروته آل عمران، قاد الذين ينتظرون المسيح ابن داوود أو المسيح ابن يوسف، إلي فتنة وصفتها الرسالة الخاتمة بأنها أعظم فتنة منذ ذرأ الله ذرية آدم.


پاورقي

[1] العدد 26 / 60.

[2] تثنية 23 / 1 - 2.

[3] تکوين 19 / 30 - 38.

[4] تثنية 23 / 2 - 3.

[5] تکوين 38 / 6 - 0 3.

[6] صموئيل 12 / 7 - 23.

[7] تثنية 23 / 1 - 2.

[8] دراسة الکتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة / موريس بوکاي ص 105.

[9] أنظر متي الإصحاح الأول، لوقا الإصحاح الثالث.

[10] سورة مريم آية 31.

[11] سورة آل عمران آية 33.

[12] سورة الصافات آية 77.

[13] سورة البقرة آية 129.

[14] العدد 26 / 60.

[15] 2سورة آل عمران آية 35.

[16] سورة التحريم آية 12.

[17] العدد 36 / 8.

[18] لوقا 1 / 5.

[19] يوحنا 8 / 1 - 6.

[20] لوقا 4 / 16.

[21] سورة مريم آية 27.

[22] تفسير ابن کثير 118 / 3.

[23] بيان الأئمة ص 104. الفتن والملاحم / ابن کثير ص 133 بيان الأئمة ص 104.