الدعوة و المفاصلة


بدأ المسيح عليه السلام في بث دعوته داخل بني إسرائيل. واختار عليه السلام اثني عشر رجلا ليلازموه ويرسلهم ليبشروا بملکوت السماوات، ولم تکن مهمة المسيح مهمة سهلة داخل الحي اليهودي.

لأن هذا الحي عج بالعديد من الفرق والمؤسسات التي تتجه نحو هدف واحد. حددته الأطروحات والثقافات التي تقول بشعب الله المختار.

وتنتظر المسيح بن داود ليعيد الميراث الذي أعطاه الله لإبراهيم، ولم تکن مهمة المسيح أن يأتي لهؤلاء بما تهوي أنفسهم، وإنما کانت مهمته أن يدعوهم إلي عبادة الله عبادة خالصة، وأن يعيدهم إلي الطريق الذي يخلو من جميع بصمات الأمم، ذکر إنجيل مرقص أن المسيح سئل أية وصية هي أول الکل؟ وأجاب يسوع: إن أول کل الوصايا هي: إسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهک من کل قلبک ومن کل نفسک ومن کل فکرک ومن کل قدرتک، هذه هي الوصية الأولي [1] وهذه الوصية أشار إليها القرآن الکريم. في قوله تعالي: (ووصي بها



[ صفحه 139]



إبراهيم بنيه ويعقوب. يا بني إن الله اصطفي لکم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. أم کنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا: نعبد إلهک وإله آبائک إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون). [2] وفي الآية إشارة إلي أن الدين هو الإسلام کما قال تعالي: (إن الدين عند الله الإسلام). [3] .

لم تکن المهمة سهلة في الحي اليهودي الذي أغلق الأبواب حتي لا تدخل الاستقامة. کما قال أشعيا: قد ارتد الحق إلي الوراء والعدل يقف بعيدا. لأن الصدق سقط في الشارع والاستقامة لا تستطيع الدخول وصار الصدق معدوما [4] وعلي الرغم من هذا العسر وهذا الصد عن السبيل، حددت الدعوة للمسيح دائرة عمله، وهي قوله: لم أرسل إلا إلي خراف بيت إسرائيل الضالة. [5] ولهذا قال لتلاميذه إلي طريق أمم لا تمضوا وإلي مدينة للسامريين لا تدخلوا. بل اذهبوا بالحري إلي خراف بيت إسرائيل الضالة. [6] .

ولأن الحي اليهودي يزخر بالثقافات التي أنتجتها العقائد الوثنية، ويزخر بالانحرافات التي أنتجها التحريف والتأويل لنصوص الکتاب، کان لا بد من المفاصلة بين الحق وبين الباطل داخل الحي اليهودي، ليعرف الشعب أين تکون القدوة الصالحة وتقام عليه الحجة، فالساحة شربت من قديم ثقافة يشير إليها قول أشعيا صارت القرية الآمنة زانية.. کان العدل يبيت فيها وأما الآن فالقاتلون وقوله رؤسائک متمردون ولغفاء اللصوص. کل واحد منهم يحب الرشوة



[ صفحه 140]



ويتبع العطايا [7] وعندما بعث المسيح تم الفصل بين ثقافة والتمرد والرشوة وقدوتها. وبين العقيدة التي تتميز بالزهد ويسهر عليها قدوة صالحة، ذکر الإنجيل أن المسيح قال لتلاميذه مجانا أخذتم مجانا أعطوا. لا تقتنوا ذهبا ولا فضة ولا نحاسا في مناطقکم. ولا مزودا للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا. [8] .

ونظرا لتعدد الفرق والمؤسسات داخل الحي اليهودي، ونظرا لوجود تعاليم تلبست بالدين وأصبحت خطرا علي الفطرة. وتهدد المسيرة البشرية بالفتن المهلکة، فإن حرکة المسيح لتصحيح المسار.

تميزت من بدايتها بالمفاصلة بين الحق وبين الباطل حتي داخل البيت الواحد، ليهلک من هلک عن بينة، ذکر متي أن المسيح قال لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما علي الأرض. ما جئت لألقي سلاما بل سيفا، فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها. والکنة ضد حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته، من أحب أبا وأما أکثر مني فلا يستحقني. ومن أحب ابنا أو ابنة أکثر مني فلا يستحقني، [9] ولأن الدعوة الإلهية دعوة واحدة. ولأن المفاصلة بين الحق وبين الباطل من الأمور الفطرية. فلقد روي أن النبي الخاتم صلي الله عليه وآله وسلم قال لا يؤمن أحدکم حتي أکون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين. [10] .

ولما کانت المفاصلة تقتضي أن يکون القول موافق للعمل، أمر المسيح تلاميذه بأن لا يقتفوا أثر الکتبة الفريسيين وغيرهم من علماء



[ صفحه 141]



الشعب، وقال لا تعملوا مثل ما يعملون. لأنهم يقولون ولا يفعلون.

بل يحزمون أحمالا ثقيلة لا تطاق ويضعونها علي أکتاف الناس، ولکنهم هم لا يريدون أن يحرکوها بطرف الإصبع، وکل ما يعملونه فإنما يعملونه لکي يلفتوا نظر الناس اليهم، فهم يعرضون عصائبهم ويطيلون أطراف أثوابهم. ويحبون أماکن الصدارة في الولائم وصدور المجالس في المجامع، وأن تلقي عليهم التحيات في الساحات. وأن يدعوهم الناس: يا معلم يا معلم، أما أنتم فلا تقبلوا أن يدعوکم أحد: يا معلم لأن معلمکم واحد وأنتم جميعا أخوة [11] فالطريق الأول إتبع الأهواء وفصل بها بين القول والعمل، وأنتج برامج وثقافات لا تتفق بصورة مع کرسي موسي وهارون عليهما السلام، فجاء الطريق الثاني بالمفاصلة التي عليها يسير کل طريق نحو هدفه.


پاورقي

[1] مرقص 12 / 28 - 34.

[2] سورة البقرة آية 133.

[3] سورة آل عمران آية 19.

[4] أشعيا 59 / 11.

[5] متي 15 / 25.

[6] متي 10 / 6.

[7] أنظر أشعيا 1 / 2 - 23.

[8] متي 1 / 9 - 11.

[9] متي 10 / 34 - 38.

[10] رواه مسلم ک الإيمان (الصحيح 49 / 1).

[11] متي 23 / 4 - 9.