الدعوة و برامج التحريف


بدأ المسيح عليه السلام في بث دعوته داخل الحي اليهودي، وعندما أظهر المعجزات التي أيد الله تعالي بها دعوته کانوا يقولون:

فمن أين له هذه کلها [1] وآمن بيسوع کثيرون من اليهود عندما شاهدوا المعجزات [2] ولکن فرقة الفريسيين أصحاب التفسير الشفهي. الذي يهدف إلي انتظار المسيح ابن داوود ليعيد مملکة داوود، وقفوا من الدعوة ومعجزاتها في موقف الصد عن سبيل الله، يذکر متي أن الفريسيين قالوا: إن المسيح لا يطرد الشياطين إلا ببلعز بول رئيس الشياطين [3] وأمام حرکات الصد عن سبيل الله. يذکر متي: أن المسيح



[ صفحه 142]



بدأ يوبخ المدن التي جرت فيها أکثر معجزاته. لکون أهلها لم يتوبوا [4] وبدأ اليهود يتحدثون بالعقائد التي دونوها علي امتداد مسيرتهم وأظهروا تقاليد شيوخهم. فقال لهم المسيح: أنتم بهذا تلغون ما أوصي به الله محافظة علي تقاليدکم. أيها المراؤون. أحسن أشعيا إذ تنبأ عنکم فقال: هذا شعب يکرمني بشفتيه أما قلبه فبعيد عني جدا، إنما باطلا يعبدونني وهم يعلمون تعاليم ليست إلا وصايا الناس [5] وبدأ علماء الشريعة يدلون بدلوهم للصد عن دعوة المسيح عليه السلام، فقال لهم:

الويل أيضا لکم يا علماء الشريعة. فإنکم تحملون الناس أحمالا مرهقة وأنتم لا تمسونها بإصبع من أصابعکم، الويل لکم. فإنکم تبنون قبور الأنبياء وآباؤکم قتلوهم. فأنتم إذن تشهدون موافقين علي أعمال آبائکم، فهم قتلوا الأنبياء. وأنتم تبنون قبورهم، لهذا السبب أيضا قالت حکمة الله. سأرسل إليهم أنبياء ورسلا فيقتلون منهم ويضطهدون، حتي أن دماء جميع الأنبياء المکفولة منذ تأسيس العالم. يطالب بها هذا الجيل.

من دم هابيل إلي دم زکريا الذي قتل بين المذبح والمحراب، أقول لکم. نعم إن تلک الدماء يطالب بها هذا الجيل، الويل لکم يا علماء الشريعة، فإنکم خطفتم مفتاح المعرفة، فلا أنتم دخلتم ولا ترکتم الداخلين يدخلون [6] وإذا کان المسيح قد الحق الجيل الذي لم يشاهد الأحداث. بالجيل الذي شارک في الأحداث وسفک فيها دماء الأنبياء.

فإن النبي الخاتم قي قال إذا عملت الخطيئة في الأرض. کان من شهدها فکرهها کمن غاب عنها. ومن غاب عنها فرضيها کان کمن شهدها. [7] وقال لا تقتل نفسا ظلما إلا کان علي ابن آدم الأول کفل



[ صفحه 143]



من دمها لأنه أول من سن القتل [8] وقال تعالي في کتابه الکريم: (من أجل ذلک کتبنا علي بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فسادا في الأرض فکأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فکأنما أحيا الناس جميعا). [9] .

کما بدأوا في طرح ثقافة أنهم الأحق بميراث إبراهيم. لأنهم أولاد إبراهيم، وکان يوحنا المعمدان قد رد قولهم من قبل وقال يا أولاد الأفاعي من أراکم أن تهربوا من الغضب الآتي، فأثمروا ثمرا يليق بالتوبة ولا تغللوا أنفسکم قائلين: لنا إبراهيم أبا. فإني أقول لکم: إن الله قادر أن يطلع من هذه الحجارة أولاد إبراهيم. [10] ومن قبل يوحنا رد حزقيال عليهم قولهم وقال قال الرب: إن الساکنين في هذه الخرب في أرض إسرائيل يتکلمون قائلين: إن إبراهيم کان واحدا وقد ورث الأرض. ونحن کثيرون لنا أعطيت الأرض ميراثا، لذلک قل لهم: هکذا قال السيد الرب. تأکلون بالدم وترفعون أعينکم إلي أصنامکم وتسفکون الدم. أفترثون الأرض؟ [11] وفي عهد المسيح بدؤا بالصد عن سبيل الله بهذه الثقافة، يذکر يوحنا أن المسيح قال لمن آمن به من اليهود إن ثبتم في کلمتي کنتم حقا تلاميذي. وتعرفون الحق والحق يحررکم، فرد اليهود: نحن أحفاد إبراهيم ولم نکن عبيدا لأحد. کيف تقول لنا إنکم ستصيرون أحرارا [12] فالقوم ليسوا في حاجة إلي الثبات علي الإيمان الذي يعرفهم الحق ويحررهم من صدأ المادة وبريق الأهواء، واکتفوا بالوقوف في أروقة آبائهم الذين تاجروا بثياب إبراهيم، وذکر يوحنا أن



[ صفحه 144]



المسيح قال لهم (أنا أعرف إنکم أحفاد إبراهيم. ولکنکم تسعون إلي قتلي. لأن کلمتي لا تجد لها مکانا في قلوبکم وقال لو کنتم أولاد إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم وقال لهم لماذا لا تفهمون کلامي؟

لأنکم لا تطيقون سماع کلمتي. أنتم أولاد أبيکم إبليس وشهوات أبيکم ترغبون في أن تعملوا، فهو من البدء کان قاتلا للناس، ولم يثبت في الحق لأنه خال من الحق. لأنه کذاب وأبو الکذاب. [13] .

وواجه المسيح فرقة الکتبة وفرقة الفريسيين الذين يسهرون علي ثقافة شعب الله المختار الذي يرث إبراهيم من دون خلق الله، وفيهم يقول متي هنري في تفسيره: کان الکتبة والفريسيين قساة.. لم يصروا علي دقائق الناموس ولم يکتفوا بالتشديد في مراعاتها، بل أضافوا إليه بعض الإضافات وفرضوا اختراعاتهم وتقاليدهم تحت أشد العقوبات، وتظاهروا کثيرا بالعظمة والرآسة وافتخروا بذلک أيما افتخار، وکانوا يحتلون المراکز الرئيسية التي تقدم إليهم علي أساس أنهم أعظم الناس وأفضلهم، وأحبوا أن يحييهم الناس عند التقائهم بهم في الشوارع، ولقد سرهم جدا أن يشار إليهم بالبنان ويقال: قفوا بعيدا هذا فريسي قادم. وأن يحيوا بهذا اللقب الرفيع سيدي. سيدي [14] وجاء في إنجيل متي أن المسيح قال للکتبة والفريسيين الويل لکم أيها الکتبة والفريسيين المراؤون، فإنکم تنظفون الکاس و من الخارج، ولکنهما من الداخل ممتلئتان. مما کسبتم بالنهب والطمع الويل لکم.. فإنکم کالقبور المطلية بالکلس تبدو جميلة من الخارج. ولکنها من الداخل ممتلئة بعظام الموتي وکل نجاسة، کذلک أنتم أيضا تبدون للناس أبرار ولکنکم من الداخل ممتلؤون بالرياء والفسق [15] الويل لکم أيها الکتبة



[ صفحه 145]



والفريسيون المراؤون، فإنکم تبنون قبور الأنبياء وتزينون مدافن الأبرار وتقولون: لو عشنا زمن آبائنا لما شارکناهم في سفک دماء الأنبياء، فبهذا تشهدون علي أنفسکم بأنکم أبناء قاتلي الأنبياء. أيها الحيات أولاد الأفاعي کيف تفلتون من عقاب جهنم [16] الويل لکم أيها الکتبة والفريسيين المراؤون، فإنکم تغلقون ملکوت السماوات في وجوه الناس فلا أنتم تدخلون ولا تدعون الداخلين يدخلون [17] الويل لکم.. فإنکم تطوفون البحر لتکسبوا متهودا واحدا. فإذا تهود جعلتموه أهلا لجهنم ضعف ما أنتم عليه [18] فمن هذه النصوص نتبين أن القوم شهدوا علي أنفسهم بأنهم أبناء قتلة الأنبياء. وعلي الرغم من ذلک فأنهم يقفون تحت مظلة الميراث الذي کتبه الله للأنبياء! ومن تحت هذه المظلة صدوا عن سبيل الله زمن المسيح عليه السلام، ووضعوا العراقيل في وجه الدعوة الخاتمة التي تحمل شريعة ملکوت الله، ويقول متي هنري في تفسيره: أغلقوا ملکوت السماوات. بتمسکهم بالناموس الطقسي وطمسهم النبوات.. وبتأثيرهم علي عقول الشعب لرفض تعاليم المسيح. لقد کانوا ألد الأعداء لتجديد النفوس وکانوا في غاية النشاط لتضليل النفوس. وانضمامها إلي زمرتهم. وکانوا يستخدمون کل حيلة.

ويکتبون ويتکلمون ويعملون بلا کلل أو ملل. ويجعلون الدخيل تلميذا لهم يتشبع بآرائهم، وهکذا يصنعونه ابنا لجهنم. [19] .

وکانت فرقة الفريسيين أنشط الفرق في الدعوة إلي ثقافة شعب الله المختار. وقد خصهم المسيح بقوله کما ذکر إنجيل لوقا الويل لکم أيها الفريسيين. فأنکم تحبون تصدر المقاعد الأولي في المجامع وتلقي



[ صفحه 146]



التحيات في الساحات العامة، الويل لکم، فإنکم تشبهون القبور المخفية يمشي الناس عليها وهم لا يعلمون. [20] .

بالجملة: قال المسيح عليه السلام لليهود يا أولاد الأفاعي.

کيف تقدرون وأنتم أشرار أن تتکلموا کلاما صالحا، لأن الفم يتکلم بما يفيض به القلب، فالإنسان الصالح من الکنز الصالح في قلبه يطلع ما هو صالح، والإنسان الشرير يطلع ما هو شرير [21] ولقد سجل القرآن الکريم قسوة قلوبهم في مواضع عديدة. منها قوله تعالي: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية). [22] کما وصف المسيح رؤوس الفرق وأتباعهم بقوله فهم عميان يقودون عميانا وإذا کان الأعمي يقود أعمي يسقطان معا في حفرة [23] وحذر تلاميذه من هذه الفرق ومن تعاليمهم التي وصفها بالخميرة، وذلک عندما کانوا يسيرون معه ونسوا أن يتزودوا بالخبز، يقول متي في إنجيله ولما وصل تلاميذه إلي الشاطئ الآخر کانوا قد نسوا أن يتزودوا خبزا فقال لهم المسيح:

انتبهوا خذوا حذرکم من خمير الفريسيين والصدوقيين، فبدأوا يحاجون بعضهم بعضا قائلين: هذا لأننا لم نتزود خبزا فقال لهم المسيح:

کيف لا تفهمون أني لم أکن أعني الخبز حين قلت لکم خذوا حذرکم من خمير الفريسيين والصدوقيين، عندئذ أدرک التلاميذ أنه لم يکن يحذرهم من خمير الخبز بل من تعاليم الفريسيين والصدوقيين [24] يقول متي هنري في تفسيره: أدرک التلاميذ أن المقصود بالخمير تعاليم وطرق الفريسيين والصدوقين الفاسدة والسيئة. التي دبروا أن تکون قابلة



[ صفحه 147]



للانتشار في عقول البشر کالخمير، لقد کان أصحاب هذه الفرقة قادة للشعب. وقد ذاع صيتهم جدا بين الناس. الامر الذي جعل خطر عدواهم بأخطائهم أشد هولا، ونحن نستطيع القول: أننا في عصرنا الحاضر يمکننا تشبيه موجة الکفر والإلحاد وتسلط روح المادية بخمير الصدوقيين، والبدع والهرطقات بخمير الفريسيين. [25] .

ورغم هذه التحذيرات، انطلقت قافلة النصاري بعد ذلک وراء القديس بولس. الذي يعود إليه تأسيس المسيحية الحاضرة التي تنادي بحق اليهود في ميراث إبراهيم بصفتهم شعب الله المختار، وبولس في رسائله کان يقول إنني کنت فريسيا. أي تابعا للمذهب الأکثر تشددا في ديانتنا [26] وسيأتي الحديث عن ذلک في موضعه.


پاورقي

[1] المصدر السابق 13 / 57.

[2] يوحنا 11 / 45.

[3] متي 12 / 24.

[4] المصدر السابق 11 / 20.

[5] متي 14 / 6 - 9.

[6] لوقا 11 / 46 - 52.

[7] رواه أبو داوود حديث رقم 4345.

[8] رواه مسلم ک القسامة ب إثم من سن القتل (الصحيح 107 / 5).

[9] سورة المائدة آية 32.

[10] متي 3 / 7 - 11.

[11] حزقيال 33 / 23 - 25.

[12] يوحنا 8 / 30 - 34.

[13] يوحنا 8 / 37 - 40.

[14] تفسير متي هنري 279 / 2 بتصرف.

[15] متي 23 / 25 - 28.

[16] المصدر السابق 23 / 29 - 23.

[17] المصدر السابق 23 / 13 - 14.

[18] المصدر السابق 23 / 15.

[19] متي هنري 287 / 2 بتصرف.

[20] لوقا 11 / 43.

[21] متي 12 / 33 - 36.

[22] سورة المائدة آية 13.

[23] متي 15 / 6.

[24] المصدر السابق 16 / 5 - 12.

[25] متي هنري 49 / 2.

[26] أعمال الرسل 26 / 5 - 7.