اضواء علي حرکة الاجتهاد والرأي


علي امتداد عهد البعثة کان النبي (ص) يبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم، وکان بالساحة من سمع من رسول الله (ص) شيئا ولم يحفظه علي وجهه، ويرويه ويعمل به ويقول أنا سمعته من رسول الله، فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوه منه، ولو علم هو أنه کذلک لرفضه، وکان بالساحة من سمع من رسول الله (ص) شيئا يأمر به، ثم نهي عنه وهو لا يعلم. أو سمعه ينهي عن شئ ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه، وکان بالساحة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، لم يکذبوا علي الله ولا علي رسوله، حفظوا ما سمعوا علي وجهه، فلم يزيدوا فيه ولم ينقصوا منه، حفظوا الناسخ فعملوا به، وحفظوا المنسوخ فجنبوا عنه، عرفوا الخاص والعام، والمحکم والمتشابه، فوضعوا کل شئ موضعه، وقد کان يکون من رسول الله (ص) الکلام له وجهين، فکلام خاص وکلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عني به الله سبحانه به، ولا ما عني رسول الله (ص)، فيحمله السامع ويوجهه علي غير معرفة بمعناه وما قصد به وما خرج من أجله، وليس کل أصحاب رسول الله في من کان يسأله يستفهمه، حتي إن کانوا يحبون أن يجيئ الأعرابي والطارئ فيسأله عليه الصلاة



[ صفحه 305]



والسلام حتي يسمعوا، وقال الإمام علي: وکان لا يمر بي من ذلک شئ إلا سألته عنه وحفظته. [1] ويضاف إلي هذه الأصناف، الذين احترفوا الکذب علي رسول الله (ص)، ولقد کذب علي رسول الله (ص) علي عهده، حتي قام خطيبا فقال من کذب علي معتمدا. فليتبوأ مقعده من النار.

ونظر لاتساع الهوة في رواية الحديث بعد إبعاد أهل البيت عن مکانهم في الذروة، اختلف الناس في الفتوي، حتي قال الإمام علي ترد علي أحدهم القضية في حکم من الأحکام، فيحکم فيها برأيه، ثم ترد القضية بعينها علي غيره فيحکم فيها بخلاف قوله، ثم يجتمع القضاة بذلک عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا، وإلههم واحد ونبيهم واحد وکتابهم واحد، أفأمرهم الله تعالي بالاختلاف فأطاعوه، أم نهاهم عنه فعصوه، أم أنزل سبحانه دينا تاما فقصر الرسول عن تبليغه وأدائه، والله تعالي يقول (ما فرطنا في الکتاب من شئ). [2] وفيه تبيان کل شئ. وذکر أن الکتاب يصدق بعضه بعضا. وإنه لا اختلاف فيه.

(ولو کان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا کثيرا). [3] إن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق. لا تفني عجائبه. ولا تنقضي غرائبه. ولا تکشف الظلمات إلا به. [4] .

ويشهد بعدم معرفة جميع الصحابة بما روي عن رسول الله (ص)، واختلافهم في الفتوي، ما رواه البخاري عن أبي هريرة أنه قال إن إخواننا من المهاجرين کان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار کان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة کان يلزم



[ صفحه 306]



رسول الله (ص). يشبع بطنا، ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون، [5] وروي البخاري أن عمر بن الخطاب لم يکن يعلم حکم الاستئذان، وذلک عندما استأذنه أبو موسي، وعندما لم يؤذن له رجع، فقال له عمر: ما منعک؟ قال: استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال النبي (ص): إذا استأذن أحدکم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع، فقال عمر: والله لتقيمن عليه بينة، فانطلق أبو موسي إلي مجلس من الأنصار، وقال: أمنکم أحد سمعه من رسول الله (ص)؟ فقال أبي بن کعب: لا يقوم معک إلا أصغر القوم. وفي رواية: لا يشهد إلا أصاغرنا. [6] قال أبو سعيد الخدري. وکنت أصغر القوم. فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي (ص) قال ذلک، [7] وفي رواية: قال عمر: خفي علي هذا من أمر رسول الله (ص). ألهاني الصفق بالأسواق. [8] .

ويشهد بأنهم لم يکونوا علي علم بجميع ما روي عن رسول الله، ما روي في حديث صحيح، عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن أبا بکر وعمر وناس، جلسوا بعد وفاة النبي (ص)، فذکروا أعظم الکبائر فلم يکن عندهم فيها علم، فأرسلوني إلي عبد الله بن عمرو أسأله، فأخبرني أن أعظم الکبائر شرب الخمر، فأتيتهم فأخبرتهم فأنکروا ذلک. ووثبوا إليه شيعا حتي أتوه في داره، فأخبرهم بحديث رسول الله.... [9] .

ويشهد باختلافهم في الفتوي، أن عمر بن الخطاب لم يکن يعلم حکم دية الأصابع. فکان يقضي بتفاوت ديتها علي حسب اختلاف



[ صفحه 307]



منافعها، حتي وجد کتابا عند آل عمرو بن حزم، يذکر فيه سنة النبي في في ذلک، [10] ولم يعلم عمر حکم الجنين إذا أسقط قبل ولادته، حتي جاء المغيرة بقضاء رسول الله (ص) في ذلک، [11] واختلفوا في ميراث الجدة. [12] .

وبالجملة: اجتهد الصحابة تحت سقف الامتحان والابتلاء، وکان الاجتهاد قابلا للخطأ وللصواب، فعن موسي بن إبراهيم قال إن أبا بکر حين استخلف، قعد في بيته حزينا، فدخل عليه عمر بن الخطاب، فأقبل أبو بکر عليه يلومه. وقال: أنت کلفتني هذا الأمر. وشکا إليه الحکم بين الناس، فقال عمر: أو ما علمت أن رسول الله (ص). قال إن الوالي إذا اجتهد فأصاب الحق فله أجران. وإن اجتهد فأخطأ فله أجرا واحدا،. فکأنه سهل علي أبي بکر. [13] .


پاورقي

[1] أنظر شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ص 591 / 3.

[2] سورة الأنعام آية 38.

[3] سورة النساء آية 82.

[4] شرح النهج / ابن أبي الحديد 233 / 1.

[5] البخاري (الصحيح 214 / 1).

[6] البخاري ک الإعتصام (الصحيح 269 / 4).

[7] البخاري ک الإستئذان (الصحيح 88 / 4).

[8] البخاري ک الإعتصام (269 / 4).

[9] قال المنذري: رواه الطبراني بإسناد صحيح والحاکم وصححه وقال صحيح علي شرط مسلم (الترغيب والترهيب 184 / 3).

[10] أخرجه الشافعي في الأم بسند حسن. والنسائي.

[11] رواه البخاري ک الديات (الصحيح 193 / 4).

[12] رواه أحمد (الفتح الرباني 198 / 15) والترمذي (الجامع 419 / 4).

[13] رواه البيهقي وابن راهويه وخثيمة (کنز العمال 630 / 5).