حلقة من مخطط و خطوة علي طريق


لم تکن مواجهة بطون قريش للنبي في الحجرة المقدسة وقولهم له (أنت تهجر، والقرآن يغنينا عنک، ولا حاجة لنا بوصيتک) وليدة لحظتها إنما کانت الحلقة قبل الأخيرة من مخطط أعد له بدقة، ونفذ خطوة بعد خطوة. کانت بطون قريش ومن لف لفها تريد أن تبقي من الدين والنبوة فقط، ما هو ضروري لبقاء الملک الذي تمخضت عنه النبوة وما لا يتعارض مع هذا الملک، وتريد في النهاية الاستيلاء علي هذا الملک بالقوة والقهر والتغلب، وأن تنسف کافة تعاليم الدين وترتيباته التي تتعارض مع أهدافها تلک. لقد أدرکت هذه الجبهة خطورة البيان النبوي، وقدرة النبي علي إيصال ما يريد إلي قلوب سامعيه، وأدرکت إحکام الترتيبات الإلهية لذلک، وأثناء حياة النبي وصحته کانت بطون قريش تشکک بکل ما قاله النبي، وتصد عن کتابة أحاديث النبي. قال عبد الله بن عمرو بن العاص:

(کنت أکتب کل شئ سمعته من رسول الله... فنهتني قريش وقالت: الرسول بشر يتکلم في الغضب والرضي... (راجع سنن أبي داود ج 2 ص 126، وسنن الدارمي ج 1 ص 125 ومسند أحمد بن حنبل ج 2 ص 162 و 207 و 216 والمستدرک للحاکم ج 1 ص 105 و 106 وجامع بيان العلم لابن عبد البر)، وکانت بطون قريش تشيع بأن الرسول يفقد السيطرة علي أعصابه، فيسب ويشتم ويلعن من لا يستحق ذلک، (راجع صحيح البخاري، کتاب الدعوات باب قول النبي (من آذيته)، وصحيح مسلم، کتاب البر والصلة، باب من لعنه النبي)، وأن النبي قد سحر وأنه يخيل إليه أنه قد فعل الشئ وما فعله.. (راجع صحيح البخاري، بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، وصحيح مسلم باب السحر)..

إلي آخره من تلک الأراجيف والأکاذيب التي لا أساس لها من الصحة، ولما أدرکت البطون الطامعة بالملک فشل إشاعاتها، واستبطأت أجل النبي صممت علي.



[ صفحه 25]



قتله، وشرعت في جريمتها في غزوة تبوک، ولکن الله حمي نبيه، کل ذلک يجري تحت خيمة الإسلام التي استظلت بها الفئة الطامعة بالملک، فجاء يوم الرزية کما يسميه ابن عباس، وهو يوم المواجهة في الحجرة المقدسة ليکشف الأسرار، وليظهر حقيقة توجهات البطون الحاقدة علي بني هاشم.

کانت جبهة الصد عن سبيل الله تشکل فريقا حقيقيا، وحزبا منظما، رتب کل شئ، واقتسم الملک والغنائم، حتي قبل موت النبي، وجاءت المواجهة في الحجرة المقدسة بمثابة استعراض للقوة، ولإقناع أولياء النبي بأنه لا فائدة ترجي من المعارضة، فإما أن يقبلوا بترتيبات البطون وما قبلته من الإسلام، أو يواجهوا الموت، ويتوقعوا عودة الشرک بعد التوحيد، وهذا يفسر اضطرار بعض الصحابة الکرام لمجاراة هذا التيار الساحق. وکانت هذه الجبهة تضم بطون قريش التي قاومت النبي قبل الهجرة، وحاربته بعد الهجرة، ثم اضطرت مکرهة للدخول في الإسلام، وتضم المنافقين من أهل المدينة، ومن حولها، منافقون من أهل مکة، وممن حولها من الأعراب بالإضافة إلي المرتزقة من الأعراب الذين لا هم لهم إلا الکسب، الذين ينتظرون من تدور عليه الدوائر ليأکلوه، والقاسم المشترک بين هذه الفئات هي کراهيتهم لآل محمد، وعدم قبولهم بأن يجمع الهاشميون النبوة والملک معا!!! لأن في ذلک إجحاف بحق البطون!! فهل من العدل - برأي البطون - أن يجمع الهاشميون النبوة والملک، وأن ينالوا الشرفين، ويحوزوا الفخرين معا، وتحرم بقية البطون!! أليس محمد من قريش!! لماذا يرث سلطانه الهاشميون وحدهم!! ومن الذي يضمن للبطون أن الهاشميين لن يجحفوا عندما يؤول الملک إليهم بعد وفاة النبي!! ثم إن الهاشميين قد وتروا بطون قريش أثناء حروبها مع النبي، فما من بطن من بطون قريش إلا وقتل منه الهاشميون، فهل تقبل بطون قريش رئاسة الذين قتلوا أبناءها، ويتموا أطفالها ورملوا نساءها!! إن من مصلحة الإسلام أن تتوحد بطون قريش خلفه، ولن تتحقق هذه الوحدة إلا إذا استبعد الهاشميون عن الملک، وسلمت قيادة المسلمين لبطون قريش، ومن والاها من العرب خاصة وأن الجميع يتلفظون بالشهادتين والبواطن لله. أما الاحتجاج بالترتيبات التي أعلنها النبي في غدير خم، فالنبي بشر والناس أعلم بشؤون



[ صفحه 26]



دنياهم!!! وهکذا صارت الفتنة کوجوه البقر، لا تدري أيا من أي، وأصبح أولياء النبي أقلية يخافون مرة ثانية أن يتخطفهم الناس من حولهم. وقد وثقنا کل ذلک بکتابنا، المواجهة.

وهکذا افترق الإسلام عن السلطان (مع أنهما توأمان لا يصلح واحد منهما إلا بصاحبه، فالاسلام أس والسلطان حارس، وما لا أس له يهدم، وما لا حارس له ضائع). (رواه الديلمي، راجع کنز العمال ج 6 ص 1). ومع الأيام آلت الخلافة لمن لا مؤهل له، إلا الغلبة وکثرة الأتباع ولمن لا يعرف من الدين إلا اسمه!!!.



[ صفحه 27]