لکي تقف علي الحقائق المجردة


أسست بطون قريش الخلافة التاريخية علي أساس أن الهاشميين: (علي الأخص عترة النبي وأهل بيته) قد أخذوا النبوة ولا ينبغي لهم، ولا حق لهم بأخذ الملک أيضا. بل يتوجب أن يکون الملک لبطون قريش تتداوله في ما بينها، ولا حرج إن آلت الخلافة لأي مسلم يري رأي هذه البطون، ويخلص لقضيتها ولو کان من الموالي: (لو کان سالم مولي أبي حذيفة حيا لوليته واستخلفته)، ثم إن قيادة بطون قريش لم تکن تري لأهل بيت النبوة وللهاشميين فضلا أو مکانة خاصة أو



[ صفحه 187]



تميزا عن غيرهم، وحتي تنجح بطون قريش بدعاويها استولت علي السلطة، أو الخلافة بالقوة والقهر وکثرة الأتباع، وسلمت حکم الولايات والأعمال وقيادات الجيش والمناصب العليا في الدولة لأبناء البطون، وشانئي أهل بيت النبوة والکارهين لولايتهم، وحتي لا يحتج أهل بيت النبوة بالأحاديث النبوية التي ذکرت فضائلهم وأکدت علي حقهم الشرعي بقيادة الأمة ومکانتهم التأسيسية المميزة في الأمة، فإن قيادة بطون قريش التي صارت دولة منعت منعا باتا کتابة ورواية أحاديث رسول الله، ورفع مؤسسوها وخلفاؤها شعار: (حسبنا کتاب الله)، بمعني أن القرآن يغني عن حديث النبي، وعللت ذلک بقولها: (أن أحاديث النبي تسبب الخلاف والاختلاف بين المسلمين. وبقي منع رواية وکتابة الأحاديث النبوية ساريا قرابة مائة عام). ولما آلت الأمور إلي معاوية جند کافة طاقات دولة الخلافة وإمکانياتها وقاد بنفسه حملة کبري يمکن أن نسميها: (حملة الفضائل) کلف أرکان دولته بأن يرووا کافة الفضائل التي ذکرها رسول الله عن الخلفاء الثلاثة الأول، وخاصة الثالث وکافة الفضائل الواردة بحق أي رجل من الصحابة لم يوال آل بيت النبوة، ولم يفعل معاوية ذلک حبا بالخلفاء، ولا بالصحابة ولکن إرغاما لأنوف آل بيت النبوة، وحتي تضيع فضائل أه ل بيت النبوة ويميع الأحکام الشرعية، ويطمس أي دليل علي أحقية أهل بيت النبوة بقيادة الأمة، بدليل مرسومه الملکي الموجه لعماله والذي جاء بفقرة منه: فلا تدعو لأبي تراب (يقصد الإمام علي) أو لأحد من أهل بيته (يقصد آل محمد وعترته أهل بيته) فضيلة يرويها أحد من المسلمين إلا وتأتوني بما يناقضها في الصحابة!! (راجع شرح النهج ج 3 ص 595 تحقيق حسن تميم نقلا عن المدائني). ولم يکتف معاوية بذلک بل فرض علي کل رعيته أن يسبوا عليا بن أبي طالب بالعشي والإبکار وأن يلعنوه، ومن لا يفعل ذلک فقد حل دمه، ولم يکتف ابن هند بذلک بل اعتبر أن موالاة أهل بيت النبوة ومحبتهم من جرائم الخيانة العظمي، وعقوبتها القتل وهدم الدار، وقطع العطاء عن الذرية والتجريد من الحقوق المدنية، فلا تقبل شهادة من يحب عليا، أو أحدا من أهل بيت النبوة، ولما نفذت مراسيم معاوية بحذافيرها، وتمخضت عن مئات الألوف من الفضائل المروية والمختلقة، کما يقول ابن نفطويه، ولما



[ صفحه 188]



استقرت سنة اللعن والشتم وکراهية أهل بيت النبوة ومن والاهم حولت دولة معاوية والدولة الأموية عامة هذه السنن وتلک المرويات المختلقة إلي مناهج تربوية وتعليمية تدرس في المدارس والمعاهد والجامعات، وتناقلتها الأجيال کمسلمات، وبقيت هذه المناهج سارية المفعول وسياسة عامة للدولة الأموية طوال ألف شهر، ولما سقطت الدولة الأموية، وأفل النجم الأموي الرهيب، لم تسقط الثقافة الأموية، ثقافة الرعب والارهاب وقلب الحقائق، بل أثمرت فقه الهوي الذي صار الأساس الواقعي للفقه الذي عرف بالإسلامي فيما بعد، وبعد قرابة مائة عام اقتنع المسلمون بضرورة کتابة الأحاديث النبوية وروايتها ولمحت الدولة العباسية وأحست بهذا الاقتناع ولم تر بأسا من عدم اعتراضه، ولا حاجة لاستمرارية منع رواية وکتابة أحاديث الرسول، بل رأت فيه الفرصة لدعم الحکم العباسي، فالعباس عم النبي وله فضائل، والعباسيون من بني هاشم، وللهاشميين مواقف مشرفة في التاريخ. فتفتحت أبواب رواية وکتابة الأحاديث النبوية في هذا المناخ السائد والمناخ الوراثي المسيطر.