عالم الغد


ليست هناک من حدود فاصلة بين ما نطلق عليه الماضي والحاضر والمستقبل،ذلک ان مسار الزمن يبقي متصلاً حتي يبلغ الکتاب أجله.

أنه لا يعني ان ما يقع فيه من حوادث سيکون متکرراً بصورة وأخري فهوينطوي في حرکته علي غائية ما نجهلها ونحاول الکشف عنها.

من هنا وبسبب ميل فطري لدي الانسان قديماً وتجسّد في محاولات الکشف عناستار الغيب وحوادث الغد ظهرت أخيراً مراکز علمية لاءستشراف المستقبل.

وتنامي الاهتمام بالداراسات المستقبلية في عالم اليوم فاصبحت لدي بعض الاممجزءاً حياتياً من نشاطها وکفاحها فهناک رغبة قوية في استشراف المستقبل للتحکمفيه والسيطرة عليه في عملية التغيير الاجتماعي.

مع التأکيد علي أن الدراسات الاستشرافية عادة ما تنهض علي مجموعة منالاهداف والغايات وفي ضوئها تصاغ الخطط المستقبلية.

وبالرغم من ان الدراسات تهتم بالمستقبل علي مديات زمنية متفاوتة ولکنالاهتمام ينصب علي الحاضر لاکتشاف جهة ما في حرکة الواقع وقد يدخل الماضي أوالتاريخ في صميم الدراسات لاستکشاف بعض القوانين الاجتماعية التي تدخل فيصياغة المستقبل أو التاثير فيه.

ويتضمن الخطاب القرآني دعوة قوية لدراسة التاريخ للاعتبار، والاعتبار يعنياکتشاف البدائل والافادة من أخطاء الامم السابقة.

(قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِکُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الاَْرْضِ فَانْظُرُوا کَيْفَ کَانَ عَاقِبَةُ الْمُکَذِّبِينَ).

وفي نفس الوقت نلاحظ وعداً الهياً عن المستقبل ان الساعة آتية لاريب فيها؛وقد (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ امَنُوا مِنکُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الاَْرْضِ).

وسوف يحصل هذا ضمن قوانين اجتماعية وتاريخية لا تقبل التغيير (وَلَن تَجِدَلِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً).

ومسألة التخطيط ينبغي أن تتضمن نقطتين جوهريتين هما تحديد الغايةوالوسيلة اضافة الي تعيين اطار اخلاقي يرشدهما معاً فالوسيلة يجب أن تکونبمستوي الهدف، ولذا فأن معادلة أخلاقية دقيقة جداً تربط بينهما؛ ولا يمکن بأيحال من الاحوال أن نبرر وسيلة ما بسمو الغاية مهما بلغت من درجة السمو.

وقد مرّت الانسانية في القرنين الاخيرين بعدّة تجارب تألقت في أحلامهاوأمانيها وطموحاتها لافتات متألقة ومؤثرة، الديمقراطية، الاشتراکية.

ثم نري من ناحية أخري فکرة ثالثة بدأت دوراً کبيراً لا تنقص أهميتها عن دورالديمقراطية والاشتراکية في العالم.

يقول المفکر الجزائري الراحل مالک بن نبي «فنحن نري فکرة السلام قد دخلتالمجال القومي والدولي، وأصبحت في کل مکان شعاراً للسياسة ومنبهاً للافکار فيمختلف البلدان. نري صوتها يرتفع في کل مناسبة، ونري الافراد والشعوب تصغياءليه بکل خشوع، لانه يعبر أيضاً عن حاجة للاءنسانية في القرن العشرين. فقد باتتاليوم کل سياسة ترفع لواء السلم مهما کانت النوايا وراء الکلمات والمواقف الظاهرة.اءنها کحاجة تفرض نفسها.. سواء في المجال الساسي أو المجال الادبي.

فکل لسان اليوم حينما يتکلم، وکل قلم حينما يکتب فاءنما ليعبر عنها طوعاً أوکرهاً. ولا يقوم من يهدد السلام بتصرفاته اءلاّ باسم السلم في أقواله.

هذا هو واقع العالم اليوم، الواقع الجبار الذي يجذب اءليه طاقات الاءنسانية،وقوي التاريخ اءلي مستقر لا يعلمه اءلاّ الله.

والان ينبغي لنا أن نتساءل: ما هو موقفنا من هذا الواقع، حتي نعلم ما هومرکزنا وما سوف يکون عليه في العالم الجديد؟

اءن علينا أن نفکر في طريقة تصوغ الجواب علي هذا السؤال في صورة محسوسةبقدر الاءمکان. ونحن نستطيع أن نصل اءلي هذا الهدف اءذا جعلنا للکلام الذي تقدمصورة جغرافية... فنعطي لکل حاجة من الحاجات الثلاثة التي کشف عنها بحثنالوناً خاصاً. وذلک بأن نجعل اللون الازرق مثلاً يعبر عن الديمقراطية، واللون الاحمرعن الاشتراکية، واللون الاخضر عن السلام. فاءذا ما وضعنا هذه الالوان الثلاثة عليالخريطة متبعين مبدأ الاولوية، اتباعاً يکون معه في المکان الواحد لون واحد يعبرعن الحاجة الشائعة هناک، أو علي النزعة السائدة في ذلک المکان، ثم استفتينامعلوماتنا العادية في هذه الامور والتاريخ والصحافة اليومية أيضاً في توزيع هذهالالوان، فاءن الجواب سيجعل کل لون يستقر في رقعة معينة. ويحدد لنا قارةأيدلوجية معينة مطابقة لمبدأ من المبادي الثلاثة التي وزعنا بمقتضاها الالوان. وهکذانري في النهاية أن لون الديمقراطية قد استقر علي مساحة الرقعة الجغرافية التي تطابقرقعة الحضارة الغربية، أي الرقعةالتي تشمل أوربا الغربية وأميرکا. وأن اللون الاحمرلون الاشتراکية قد جعل من الرقعة التي تنتشر عليها البلاد الشيوعية مقاماً. وأن لونالسلام الاخضر قد أوي اءلي شبه القارة الهندية.

وليس هذا يعني بالطبع أن روح الديمقراطية الخالصة تقطن البلاد الغربيةوأميرکا.. تلک البلاد التي انبعثت منها روح الاستعمار الخبيث ورائحته. وأن روحالاشتراکية لا توجد اءلاّ في البلاد الشيوعية، فلقد نعلم أن بلاداً أخري کالبلادالاسکندنافية قد تحققت فيها أروع التجارب الاشتراکية، دون أي تعد علي حرياتالفرد ودون أي عنف.

کما أننا لا نعترف أن الهند تمثل روح السلم الصرف دون استثناء، فلقد انبعثتمنها أحياناً أنفاس لا تليق بروح المهاتما غاندي، روح اللاعنف، وذلک في بعضالمشاکل کمشکلة کشمير. ومع ذلک فاءنه لا مجال للاءنکار في أن الاءنسانية اليوم تشعربأنها تصغي لصوت السلام حينما يرتفع صوت نهرو في نيودلهي، أو صوتکريشنامينون في الامم المتحدة. ولقد أظهرت الازمة الاخيرة التي أثارتها السياسةالصينية علي حدود الهند أن الاءنسانية لم تخطي في شعورها هذا، بل اءننا لندهش اءذنري الهند لم تغير موقفها اءزاء الصين في الوقت الذي تطأ فيه الجنود الصينية ترابها.

وليس من خطأ التقدير أن نقول أيضاً اءن البلاد الغربية تمثل الديمقراطية في العالمالجديد، مع علمنا بما في هذا التقدير من نسبية. واءن البلاد الشيوعية تمثل اليومالفکرة الاشتراکية مع التنبيه أيضاً علي نسبية هذا التقدير.

هذا هو واقع العالم اليوم، فاءذا أردنا أن نعلم مکاننا الان منه فاءن علينا أن نرجعاءلي الخريطة الايديولوجية التي رسمناها ونبحث عن لوننا أين هو؟ ولن نلبث حتينجد رقعتنا علي هذه الخريطة بيضاء کتلک المساحات التي کانت تبقي بيضاء عليخرائط القرن التاسع عشر. اءشارة اءلي أنها لا تزال مجاهيل، لم يکتشفها علماءالجغرافية ولم يمسحوها. فرقعتنا اءذن بحسب منطق حديثنا ذات لون أبيض، لانها لاتمثل حاجة من حاجات الاءنسانية الکبري في القرن العشرين. فنحن في حالة تغيبعن العالم الجديد لاننا لا نري لوناً علي الخريطة يدل علي وجودنا فيه.

فاءذا ما شئنا الجواب علي السؤال الذي أوردناه في صدر الحديث، فاءنناسنعترف بأن مکاننا في المجمع العالمي سوف يکون تافها، لاننا لا نمثل مصلحة ذاتأهمية عالمية.

وهنا يبدو سؤال جديد: هل هناک مخرج من مأزق کهذا؟ أم لابد أن نستسلملليأس فنطأطيء الرأس أمام هذا الواقع؟ ونقتنع بوظيفة فراش في المجتمع العالمي؟

ويبدو لي أنه من اللائق أن نفکر في الاسباب التي أدخلتنا اءلي هذا المأزق، قبلأن نفکر في الاسباب التي يمکننا بها الخروج منه. اءن دوافع الحياة هي التي ورطتنا فيالازمة التي نحاول منها الخروج. ورطتنا منذ أکثر من نصف قرن، حينما استيقظت

الشعوب العربية الاءسلامية علي خطر الاستعمار، فقد کانت يقظتنا الفجائية دافعاً مندوافع الحياة وفي الوقت نفسه دافعاً من دوافع الخطأ.

فکان مثلنا کنائم استيقظ فجأة فوجد النار في غرفته، ودون أي تفکير ألقيبنفسه من نافذة الغرفة التي هي في الدور الرابع أو الخامس لينجو من النار.

فنحن قد ألقينا بأنفسنا من حيث لا نريد في هوة التقليد حتي ننجو منالاستعمار. اءننا نفکر في الخلاص تفکيرا معقداً؛ واءنما دفعتنا دوافع لا شعورية لتقليدحضارة الاستعمار حتي نعصم أنفسنا منه. ولقد دعانا هذا اءلي السير في الطريق التيشقته الشعوب الغربية أمامنا علي أنه يوصلنا اءلي ما وصلوا اءليه.

ولا شک أن هذا ممکن لو أننا نسير جميعاً دون دخل للوقت والتطور في حياتنا.

ولکننا نتطور نحن ومن نقلده. وعليه فاءذا سرنا علي مبدأ تقليده فسوف نقلدهاءلي ما لا نهاية. وهکذا کان الدافع الذي دفعنا في مطلع هذا القرن اءلي الحياة قد دفعنافي الوقت نفسه اءلي الخطأ فبتنا نسير في هذا الطريق، لان السابق اءلي الشيء دائماًأولي به. ومن المسلم به أن من نقلده أسبق منا في هذا المضمار.

فلو أننا افترضنا أن الصاروخ هو في النهاية الغاية التي تريد الاءنسانية تحقيقهاوهذا افتراض لا نسلم به اءلاّ جدلاً، فاءن المجتمعات التي سارت قبلنا علي طريقالحضارة المادية سوف تصل حتماً اءلي تلک الغاية قبلنا. وهکذا نصبح في النهاية نسيراءلي غير غاية حققها غيرنا قبلنا.

فالخطأ اءذن بين، ويزيده وضوحا أن تخرج القضية من اءطار المنطق البسيط اءليمنطق الواقع الصحيح: فنحن لا نري أن الذي قد حصل علي الصاروخ قبلنا ونقتفيأثره عن طريق الحياة المادية، حقق بذلک غاية الاءنسانية، فأشبع حاجة منالحاجات الکبري التي نريد اءشباعها، بل نراه هو نفسه يخشي الصاروخ الذي في يمينهوالقنبلة الذرية التي في يساره، فهو يلوح بها لخصومه وأعدائه بيد ترتعش خوفاً مما

تحمل، فهل نؤمن ـ والحالة کما ذکرنا ـ أنه بما حصل عليه في طريق الحضارة المادية،قد أسعد نفسه أو أسعد الاءنسانية؟

فالخطأ واضح اءذن من الجانب النفسي والاخلاقي والمنطقي معاً. وبهذا يتبين لناکيف دخلنا في المأزق وبقي أن نتساءل: کيف نخرج منه؟

قد وضح مما بينا أننا دخلنا اءليه عن طريق التقليد، فلم نفکر في مسلکنا حينمااستيقظنا بل سرنا مقلدين لا مبتکرين؛ وأري الان أن نتمهل فنراجع أنفسنا، فاءنالاعتبارات التي قدمناها لا تدلنا علي أنه ينبغي علينا أن نستغني عن نتائج الحضارةالمادية، واءنما أن نقدرها بالنسبة لوضعنا، في عالم أصبح فيه نوع جديد منالتخصص. لا تتخصص فيه الافراد فحسب کما کان الامر من قبل، لاءشباع حاجاتالحياة المادية، ولکن تتخصص الکتل البشرية لتسد کل حاجة من الحاجات التيتتضمنها الحياة الاءنسانية الايديولوجية.. وتحقق لها في المجتمع العالمي مکاناً..

فاءذا ملکنا الصاروخ فمرحباً به لخدمة الاءنسانية، ولکن مع العلم أنه قد وصلاءلي يد غيرنا قبلنا. واءنه مع ذلک لا يشبع حاجة من الحاجات الاءنسانية.

وعلي ضوء هذه الاعتبارات، علينا أن نراجع أنفسنا ونتساءل: ما هو المخرج؟اءنه في أن يکون في نشاطنا الروحي ما تعترف به الاءنسانية کحاجة مثل الديمقراطيةوالاشتراکية والسلم، حاجة لا بد من اءشباعها.

ونحن حين نضع المشکلة هکذا فاءنه يبقي أن نعلم هل لهذه المشکلة حل في هذهالصورة؟ وبتعبير آخر، هل في أنفسنا بصفتنا عرباً وفي أرواحنا بوصفنا مسلمينمنبع ينبع منه خير للاءنسانية؟

اءنه يمکن الخطأ في الجواب، ولکن هذا لن يقلل من أهمية السؤال. يمکن لي أنأخطي في رأيي الخاص أمام هذا السؤال، ولکن هذا لا يغير من صورة القضية، فاءنهيجب أن يکون في نشاطنا شيء تعترف به الاءنسانية بوصفه حاجة من حاجاتها،شيء يضمن لنا مرکزاً کريماً في المجتمع العالمي.

وأنا هنا سوف أبدي مجرد رأي.. ولا ضير أن يأتي غيري برأي أحسن منهشريطة أن نظل في صلب القضية، فاءن حاجة الاءنسانية لا تتمثل في الديمقراطيةوحدها، التي فيما يبدو قد استأثر بها الغرب، ولا الاشتراکية وحدها التي ـ فيما يبدو ـقد تخصصت بها البلاد الشيوعية ولا السلم وحده الذي قد رفعت رايته الهند، فهناکفي نظري مجال نستطيع فيه أن نسجل بلون خاص وجودنا علي الخريطةالايديولوجية. اءن الاءنسانية في حاجة ـ عامة ـ اءلي صوت يناديها اءلي الخير،واءليالکف عن جميع الشرور، واءنها الحاجة أکثر اءلحاحاً من سواها، لان الاءنسانتوّاق اءلي الخير بفطرته، واءنما تحرمه منه معوقات مختلفة تکونها الظروف الاجتماعيةوالسياسية والاقتصادية أحياناً، غير أنه حينما تؤثر هذه المعوقات في سلوکه فتجعلهيکذب أو يسرق أو يظلم أو يقتل فاءنه يشعر بالحرمان.

اءن الطيار الامريکي الذي ألقي القنبلة الذرية الاولي علي هيروشيما، قد دفعته اءليعمله دوافع مختلفة يسميها البطولة الوطنية، دوافع کونتها في نفسه ثقافته وبيئته.غير أنه حينما انجلي الانفجار الهائل في الافق، وکشف عن أطلال مدينة کاملة،وظهرت الاکداس من الجثث الممزقة الموقوذة المشوهة، ظهر بين تلک الاطلالالحزينة وفوق تلکالاکداس الرهيبة وجه الشر، وکأنما ارتفعت منه ضحکة نکراء،اءنها ضحکة الشر المنتصر، قد وصل صداها اءلي أذني ذلک (البطل) الذي سحقالمدينة بقنبلته الفتاکة.

ولقد حاول أن يتواري عن ذلک الوجه المفزع، وأن يُصم أذنيه عن تلکالضحکة المزعجة، فأطلق لطائرته سرعتها حتي يغير من ذلک المنظر ويبدل من ذلکالصوت، ولکن هيهات أن يزايل المشهد مخيلته أو يهدأ رنين الصوت في أذنه، فاءنهيحمله في نفسه، في فطرته، في ضميره الذي تحرک حينما رأي سوء عمله.. لقد فروأمعن في الفرار، ولکن ذلک لم يجعله في نجوة من شعوره بالاءثم، ومن رؤيته لوجهالشر سافراً فوق الاطلال المحطمة، ومن سماع ضحکته الصاخبة فوق الجثث الهامدة.

فر من الجيش، من الحياة العائلية، من الاصدقاء، من الملذات، وأوي أخيراًاءلي دير عله يجد في العزلة تسلية.

اءن في هذه الحادثة لعبرة. اءنها تشير اءلي أن الاءنسان لا يفقد من نفسه معني الخيرکله مهما أحاطت به دوافع الشر. لان الاصل في قلبه الخير والشر عارض. واءن هذاليعني أن الخير حاجة تشعر بها النفس شعوراً عنيفاً، کذلک العنف الذي تجلي فيسلوک الطائر الامريکي بعد عودته من هيروشيما.

ويخلص المفکر الراحل الي مشروع انساني جديد قائلاً:

«ونحن حينما ندقق الاشياء نري أن الدوافع النفسية التي تعبر عنها فکرةالديمقراطية أو فکرة السلام، اءنما هي في الواقع دوافع واحدة في صور مختلفة: اءنهادوافع الخير في نفوس مختلفة. واءن هذا يعني «بعدما تصح هذه الملاحظة» أن فيالنفس مجالاً لفکرة الخير، وأن من يرفع راية الخير قد يسد حاجة تشعر بهاالانسانية في أعماقها، ويحقق لنفسه مکاناً کريماً في المجمع العالمي.

وفي هذا المجال يمکن أن يکون مجالنا اءذا حققنا في سلوکنا معني الاية الکريمة:(وَلِتَکُن مِنکُمْ اُمَّةٌ يَدْعُونَ اءِلي الْخَيْرِ).

فاءذا ما تحققت هذه الاية في سلوکنا العام، بوصفها تخصصاً لمجتمعنا بالنسبةلحاجة الاءنسانية، فسوف نکون قد لقينا علي الخريطة الاءيديولوجية لوناً يجعلنا منأکرم سکان المجمع العالمي. وأنا أتعمد شيئاً حينما أقرن الخير بالسلوک، فالسلوک هوالذي يحقق في الواقع معني الخير المجرد. فليس الخير مجرد حقيقة نعلمها أو نقولها،مجرد حقيقة تقبلها العقول، وربما تنفر منها الانفس أحياناً اءذا لم يکن الخير في صورةمحببة للناس، اءذ ربما يحدث دوافع سلبية لا تشبع في أنفسهم حاجة لخير، بل تحدثفيها حالة حرمان.

وقد کرر القرآن الکريم النصائح في هذا الاتجاه اءذ يقول للنبي: (وَلَوْ کُنتَ فَظّاًغَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِکَ). أو حينما يقول له بصفة عامة (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَأَحْسَنُ فَاءِذَا الَّذِي بَيْنَکَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ کَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).

فهذا هو ـ فيما أري ـ شرط دخولنا في المجمع العالمي. ونحن حينما ندخل اءلي هذاالمجمع غير مقلدين، فاءننا سنکون أسبق من غيرنا اءلي وظيفة، تسد حاجة منحاجات الاءنسانية الکبري في القرن العشرين، ولحققنا بذلک لانفسنا مکاناً کريماً فيالعالم الجديد.

ولکن أيّة لافتة يمکن أن ترفع بعد أن تبدد بريق اللافتات الاخري وما الذييمکن أن يصبح هاجس الضمير العالمي في هذا المقطع من تاريخه المرير؟

خاصّة وان لافتة جديدة هي «العولمة» باتت تثير مخاوف الامم والشعوبوتدفع شبابها اءلي التظاهر ضدها کخطر يهدد کيان الشعوب وهويتها!

ولقد أنت البشرية من الاستبداد فظهرت الديمقراطية کنافذة للخلاص ثمضغطت الرأسمالية بشدّة علي الضمير الانساني فتألقت الاشتراکية کطريق مضيء،وتعذبت بسبب الحروب والصراع فأشرقت فکرة السلام في ضميرها ووعيها..

وها هي الانسانية تعيش الظلم بکل مستوياته وأصعدته وأصبحت العدالةهاجساً يراود أحلام المظلومين في کل مکان.

وهناک نقطة ينبغي اثارتها في الدراسات المستقبلية وهي تجاوزها حالةالاستشراف الذي ينجم عادة عن الاعتراف بالواقع، فيما المطلوب التخطيط لصياغةمستقبل أفضل فالـ«سوبرمان» الذي أفرزته الحضارة الغربية فلسفياً هو انسانخارق يقوم بدور انقاذي محدود جداً لانه لا يستطيع التدخل في مسار التاريخ.

ولذا نجد الدراسات المستقبلية في الغرب تتضمن الاعتراف بالواقع الحضاريالغربي ومحاولة صياغة عالم ينسجم ويستجيب للنمط الغربي وسلطته.

وقد اخترنا دراسة الاستاذ نادر فرجاني القيمة مصدراً فيما سنورده في هذهالسطور حول الدراسات المستقبلية وقد استهل دراسته بالاشارة الي خطوة لهامغزاها وهي اجتماع ثلاثين شخصية علمية في «روما» لمناقشة المعضلات الحاليةوالمستقبلية التي تواجه البشرية.

واستهدفت هذه الخطوة العلمية الهامة دراسة المشاکل المعقدة التي تواجه البشرفي العالم وهي: الفاقة، تدمير البيئة، فقدان الثقة بالمؤسسات، الانتشار الحضريالمنفلت، اغتراب الشباب، رفض القيم التقليدية، التضخم والاضطرابات النقديةوالاقتصادية الاخري، واصطلح علي تسميتها مجموعةً «مشکلة العالم» ومن المهم کمايقول الاستاذ الاشارة الي ان التوصيف المقدم أعلاه لمشاکل العالم يأتي من منظورالغرب المصنِّع وهو بالتأکيد لا ينطلق من الهموم الجوهرية لغالبية البشرية.

وتنتقل الدراسة الي «نموذج باريلوتشي» للعالم ومن الضرورة الاشارة اليموطنها في العالم الثالث وهو مشروع تخطيطي اکثر من استشرافي معياري أي «يحاولرسم طريق يوصل الي غاية محددة سلفاً. وهذه الغاية هي عالم متحرر من التخلفوالبؤس».

وکلمة «نموذج» التي استعملت في المشروع تتضمن اشارة الي مفهوم «المجتمعالمثالي».

کما ان الدراسة التي انجزها العلماء جاءت ردّاً علي المدرسة الفکرية للغرب والتيترجع مشکلة العالم الي النمو السکاني، لکن نموذج باريلوتشي يختلف جذرياً وهي

لديه «ليست حدوداً طبيعية تتعارض مع النمو السريع للسکان، ولکنها اجتماعية ـسياسية تنجم عن التوزيع غير المتکافي للقوة بين خارج البلاد وداخلها. ومن ثم فاءنالمجتمع المثالي الموصوف يقوم علي أن الانسان لن يتحرر من القهر والتخلف في نهايةالمطاف الاّ عن طريق تغييرات جذرية في التنظيم الاجتماعي السياسي للعالم».

وينتقد النموذج بداية نموذجي التنظيم الاجتماعي السياسي السائدين في العالمالمعاصر الرأسمالي والاشتراکي بتنويعاتهما القائمة حالياً.

فالنموذج الرأسمالي يقوم علي الملکية الخاصة والربح ويؤدي الي طبقية تدمّرأسس المساواة وتنمّي نوازع السيطرة والاستغلال والمزيد من اغتراب الانسان.

کما ان النموذج الاشتراکي قد عرّته التجربة التاريخية وکشفت عن ظهوربيروقراطيات الحزب والدولة التي تحولت الي مراکز سلطوية أفضت الي فروقاجتماعية تنهض علي مدي الانتماء الي الاقلية الحزبية التي تمسک بأزمّة السلطةوالحکم.

ونموذج باريلوتشي يتبني قيمتين اساسيتين في رؤيته للمجتمع المنشود هيالمساواة الاساسية بين البشر، ومفهوم التاريخ کعملية لا حدّ لها يتوقف اتجاهها فيالتحليل الاخير علي رغبات وأفعال البشر. الاولي تشکل الاساس الصالح الوحيدلبناء عالم يسوده الوفاق والثانية شرط أساسي لتحقيق هذا العالم.

ومن المهم هنا أن نثبت ما ورد في النقطة الرابعة والاخيرة من الوصف الاجماليللمجتمع الجديد:

«يوفر تطبيق هذا النموذج في عدد متزايد من بلاد العالم الظروف الاساسية لخلقنظام عالمي متوافق قادر علي نشر العدالة، الرفاهية والديمقراطية وعلي اقتلاع جذور

الحرب ويمکن أن يؤدي الي نشوء شکل من التنظيم الدولي يحترم حرّية وذاتية کلالدول، ويروج للاندماج التدريجي في جماعة دولية متحررة من النزعاتالاقليمية.

ويؤکد النموذج علي ضرورة مراجعة المفهوم الشائع الذي يفترض انه ما دامتالارض محدودة، فلا بد أن تکون مواردها محدودة کذلک. وهذا بالقطع صحيح.ولکن المغالطة التي تقدم کبرهان دامغ علي الکارثة القادمة التي ستحل بالعالم نتيجةلاستمرار تزايد السکان، تخلط بين المحدودية والنفاد.

بخلاف استثناءات قليلة، لا تفقد الکميات الهائلة من المعادن في قشرة الارضبمجرد تعدينها واستعمالها، ولکنها تستمر لتکون جزءً لا يتجزأ من الموارد المعدنيةللکوکب. فقد تدخل مؤقتا في سلع رأسمالية أو استهلاکية، وقد تدمج کيميائيا مععناصر أخري. ولکن، علي الرغم من هذا، تبقي ولا تفني. وقد أثبت الفنالانتاجي الحديث قدرته علي اءيجاد طرق لاستخلاص الموارد من أکثر الترکيباتالجيولوجية تنوعا، وعلي تدوير المواد التي استخدمت قبلا، مرة أو أکثر فياستخدامات جديدة.

أما بالنسبة لموارد الطاقة، فقد أظهرت دراسات باريلوتشي أنالهيدروکاربونات، في صورة سوائل وغازات، يحتمل أن تبقي لمدة مائة عام تقريبا،بينما قدر أن هناک ما يکفي من الفحم، علي معدلات الاستهلاک الحالية لمدة حواليأربعة قرون. ولکن مصدر الطاقة المستقبلي الاهم هو الوقود النووي. وکان التقديرأن الاحتياطيات المحتملة من اليورانيوم والثوريوم تکفي لسد الاحتياجات من الطاقةاءلي الابد تقريباً. وعليه، فاءنه لا يوجد داع، من منظور التوافر المادي، لتوقعمشاکل في مصادر الطاقة في المستقبل المنظور. وتؤکد الدراسة أن أزمة الطاقة التيرکز عليها الغرب المصنِّع هي، في المنظور التاريخي، ذات طابع عرضي.

وتفرق دراسات باريلوتشي بين التلوث في البلدان الغنية والفقيرة. في الاولييقترن التلوث بتوسع النشاط الصناعي، والاعداد المتزايدة من السيارات وغيرها منمعالم معدلات الاستهلاک المرتفعة. وضبط هذا النوع من التلوث ممکن شرط وجودسياسات مکافحة مناسبة. أما في البلاد المتخلفة، فينتج التلوث من الفاقة: تلوثالماء، أوضاع سکن سيئة، غياب الصرف الصحي، الخ... والحد من هذا النوع منالتلوث رهن باءشباع الحاجات الاساسية. وختاما، فاءن النمو الاقتصادي لا يرتبطبالضرورة بزيادة التلوث. وعليه فاءنه يمکن ضبط کل أنواع التلوث تقريباً اءذا تم اتخاذالقرارات المطلوبة، وتنفيذ الاءجراءات الاجتماعية والاقتصادية اللازمة.

واءحدي السمات الرئيسية للنموذج التي تميزه عن أغلب النماذج التي بنيت حتيوقت اءعداده، وخاصة تلک التي تمت في اءطار نادي روما، هي أن حجم السکان يولدداخليا بواسطة نموذج فرعي يربط المتغيرات السکانية بالمتغيرات الاجتماعية ـالاقتصادية. ويعکس هذا النموذج الفرعي أحدي المقومات الاساسية لمشروعباريلوتشي، وهو أن الطريقة الوحيدة الکافية لضبط نمو السکان هي تحسينمستويات المعيشة.

لا ريب أن مشروع باريلوتشي هو من أهم الاعمال في مجال الدراساتالمستقبلية التيتناقش مصير البشرية. وتعود أهمية هذا العمل اءلي تبنيه، صراحة،لوجهة نظر اجتماعية ـ سياسية محددة، والي بعض النواحي الفنية، التي ألمحنا لبعضهافيما سبق.

ولکن مشروع باريلوتشي يکتسب قيمة کبيرة من حيث کونه العمل الکبيرالوحيد في ميدان الدراسات المستقبلية الذي نبع من العالم الثالث تعبيراً عن رفضکثير من الاوضاع السائدة في العالم وقت اءعداده، بما في ذلک الدراسات المستقبلية،وکشفا لخلفيات هذه الاوضاع، واستشرافا لمستقبل أفضل واکرم لکل البشر.

لقد بين النموذج الرياضي اءمکانية اءشباع الحاجات الاساسية لاغلب سکان العالمحول مطلع القرن القادم، اءذ ما طبقت السياسات المقترحة للوصول اءلي المجتمع المثاليفي رؤي باريلوتشي. وأظهر مشروع باريلوتشي برمته أن العقبات التي تقف حاليا فيسبيل تحرر البشرية من الفاقة والبؤس ليست طبيعية أو اقتصادية بالمعني الضيق،وليست النمو السريع في حجم السکان. ولکنها في الاساس، اجتماعية ـ سياسية.

وعليه فاءن مشروع باريلوتشي قد أکد لنا أن مستقبل البشرية لا يتوقف، فيالنهاية، علي عقبات طبيعية لا تذلل، واءنما علي عوامل اجتماعية وسياسية هي منصنع البشر، وبالتالي فاءن في مقدورهم تعديلها وصولا لوجود اءنسان أغني، ولکنأين العالم من هذا المسعي، بعد أکثر من سنوات عشر علي نشر نتائج المشروع؟ هلاقترب العالم من مجتمع باريلوتشي الجديد؟ أم زاد احتمال الکارثة؟

وليس مشروع باريلوتشي، للاسف، الاکثر انتشارا في مجال الدراساتالمستقبلية لمصير البشرية، حتي في العالم الثالث. واءن کان في هذا الامر مدعاةللاسف، اءلاّ أنه ليس بمستغرب. فمشروع باريلوتشي قام ضد کل العناصر المهيمنة فيبني القوة الحالية في العالم. ومن الطبيعي أن تحارب هذه العناصر انتشار مثل هذهالرؤي التي تنتصر للفقراء وتدعو لتقويض أرکان الهيمنة والاستغلال في العالم.

فمازلنا نعيش في عالم يعاني فيه الکثير من سکان الجنوب من نقص وسوءالتغذية، بينما يشکو الغرب المصنع من عبء بحيرات الحليب وجبال الزبد، أما عنتردي أوضاع التعليم والسکن في البلدان النامية فحدث ولا حرج، وعوضا عنتکريس المشارکة والمساواة نجد اتجاها متعاظما لتکريس القهر وتهميش الناسخاصة في بلدان العالم الثالث. وبدلا من تعميق قيم المساواة، نواجه استقطابا متزايداًداخل مجتمعات العالم الثالث، وعلي صعيد النظام الدولي.

ويرتبط ذلک کله بموجة قوية من زيادة الاندماج في النظام الرأسمالي العالميعمت العالم منذ منتصف السبعينات تحت شعار «الانفتاح الاقتصادي»، حتي قاربتالاشتراکية أن تکون کلمة قذرة، وفي النهاية، فاءن محصلة هذا کله هي مزيد من تبنيمُثُل المجتمع الرأسمالي الغربي، ونمطه الاستهلاکي المدمر، وخاصة بعد أن اهتزت أهمالمحاولات المعاصرة لبناء «الاءنسان الاشتراکي» في الصين الشعبية.

والخلاصة، أننا نقدر أن العالم يقترب من الکارثة التي تنبأت بها دراسات ناديروما، ولکن لاسباب غير تلک التي زعمتها هذه الدراسات. اءن الاقتراب منالکارثة يعود کما بينت دراسة باريلوتشي، اءلي أسباب کامنة في أشکال التنظيمالاجتماعي ـ السياسي في العالم المعاصر.

ولا يمکن الاجتماع بواقع الحال في العالم علي مشروع باريلوتشي. فالمشروع لميحاول التنبوء بمستقبل البشرية، وانما قدم توقعات بما يمکن أن يکون عليه الامر اذاتحققت افتراضات معينة حول السياسات الکفيلة بالتحرک صوب المجتمع المنشود.وحيث اءن الافتراضات لم تحقق، فلا يتصور عاقل أن تحقق النتائج المترتبة عليها.

اءن رؤي باريلوتشي تبدو لنا کمولود بهي الطلعة، مبشر بالخبر، ما لبث أنعصفت به تصاريف واقع غاشم لکن يبقي الامل ما بقيت الذکري، والمذکرون.

ان هذه الدراسة التي انجزها فريق باريلوتشي تنطوي علي قيمة بالغة الاهميةذلک أنها لاتستشرف المستقبل علي أساس مجريات الواقع ومعطيات الظروف وانماهي محاولة رسم مستقبل جديد.. مستقبل يتوقف علي اجراء تغييرات جوهريةاجتماعية وسياسية وهي مهمة اصلاحية کبري تستلزم توفر شروط روحية وشعورعميق بالمسؤولية الاخلاقية ازاء المصير الانساني.

يقول الامام الشهيد محمد باقر الصدر:

ان اقامة الحق والعدل وتحمل مشاق البناء الصالح بحاجة الي دوافع تنبع منالشعور بالمسؤولية والاحساس بالواجب. وهذه الدوافع تواجه دائما عقبة تحول دونتکونها أو نموها.

وهذه العقبة هي الانشداد الي الدنيا وزينتها والتعلق بالحياة علي هذه الارضمهما کان شکلها، فان هذا الانشداد والتعلق يجمد الانسان في کثير من الاحيانويوقف مساهمته في عملية البناء الصالح، لان المساهمة في کل بناء کبير تعني، کثيراًمن ألوان الجهد والعطاء وأشکالا من التضحية والاذي في سبيل الواجب وتحملاًشجاعاً للحرمان من أجل سعادة الجماعة البشرية ورخائها.

وليس بامکان الانسان المشدود الي زخارف الدنيا والمتعلق بأهداف الحياةالارضية أن يتنازل عن هذه الطيبات الرخيصة ويخرج عن نطاق همومه اليوميةالصغيرة الي هموم البناء الکبيرة، فلابد لکي تجند طاقات کل فرد للبناء الکبير منترکيب عقائدي له أخلاقية خاصة تربي الفرد علي أن يکون سيدا للدنيا لا عبدا لها،ومالکا للطيبات لا مملوکاً لها، ومتطلعاً الي حياة أوسع وأغني علي الارض هيتحضير بالنسبة الي تلک الحياة التي أعدها الله للمتقين من عباده».

وتبقي الاشارة الي سبب اختيار هذه الدراسة ونجمله في نقاط منها انها دراسةاکاديمية علمية کما أن ظهورها خارج العالم الاسلامي يشکل بعداً آخر في اهميتها عليأساس تحررها الکامل من أية تأثيرات مسبقة من قبيل النبوءات الدينية والمؤثراتالفکرية والاسطورية.