بيان الخلاف في نزاهة الأنبياء عن الذنوب


اختلف الناس في الأنبياء عليهم السلام. فقالت الشيعة الإمامية، لا يجوز عليهم شئ من المعاصي والذنوب کبيرا کان أو صغيرا، لا قبل النبوة ولا بعدها، ويقولون في الأئمة مثل ذلک، وجوز أصحاب الحديث



[ صفحه 16]



والحشوية [1] علي الأنبياء الکبائر قبل النبوة، ومنهم من جوزها في حال النبوة سوي الکذب فيما يتعلق بأداء الشريعة، ومنهم من جوزها کذلک في حال النبوة بشرط الاستسرار دون الاعلان، ومنهم من جوزها علي الأحوال کلها، ومنعت المعتزلة. [2] .

من وقوع الکبائر والصغائر المستخفة من الأنبياء عليهم السلام قبل النبوة وفي حالها، وجوزت في الحالين وقوع ما لا يستخف من الصغاير، ثم اختلفوا فمنهم من جوز علي النبي صلي الله عليه وسلم الإقدام علي المعصية الصغيرة علي سبيل العمد، ومنهم من منع من ذلک وقال إنهم لا يقدمون علي الذنوب التي يعلمونها ذنوبا، بل علي سبيل التأويل.

وحکي عن النظام، [3] وجعفر بن مبشر، [4] وجماعة ممن تبعهما، أن ذنوبهم لا تکون إلا علي سبيل السهو والغفلة، وأنهم مؤاخذون بذلک، وإن کان موضوعا من أممهم لقوة معرفتهم وعلو مرتبتهم.

وجوزوا کلهم ومن قدمنا ذکره من الحشوية وأصحاب الحديث علي الأئمة الکبائر والصغائر، إلا أنهم يقولون إن بوقوع الکبيرة من الإمام تفسد إمامته ويجب عزله والاستبدال به.



[ صفحه 17]



واعلم أن الخلاف بيننا وبين المعتزلة.

في تجويزهم الصغاير علي الأنبياء صلوات الله عليهم يکاد يسقط عند التحقيق لأنهم إنما يجوزون من الذنوب ما لا يستقر له استحقاق عقاب، وإنما يکون حظه نقص الثواب علي اختلافهم أيضا في ذلک، لأن أبا علي الجبائي [5] يقول : إن الصغيرة يسقط عقابها بغير موازنة ، فکأنهم معترفون بأنه لا يقع منهم ما يستحقون به الذم والعقاب .

وهذه موافقة للشيعة في المعني، لأن الشيعة إنما تنفي عن الأنبياء عليهم السلام جميع المعاصي من حيث کان کل شئ منها يستحق به فاعله الذم والعقاب، لأن الاحباط باطل عندهم، وإذا بطل الاحباط فلا معصية إلا ويستحق فاعلها الذم والعقاب، وإذا کان استحقاق الذم والعقاب منفيا عن الأنبياء عليهم السلام وجب أن تنتفي عنهم ساير الذنوب، ويصير الخلاف بين الشيعة والمعتزلة متعلقا بالاحباط، فإذا بطل الاحباط فلا بد من الاتفاق علي أن شيئا من المعاصي لا يقع من الأنبياء (ع) من حيث يلزمهم استحقاق الذم والعقاب، لکنه يجوز أن نتکلم في هذه المسألة علي سبيل التقدير ونفرض أن الأمر في الصغائر والکبائر علي ما تقوله المعتزلة، ومتي فرضنا ذلک لم نجوز أيضا عليهم الصغائر لما سنذکره ونبينه إنشاء الله تعالي .


پاورقي

[1] الحشوية: هم المحدثون القائلون بنفي التأويل.

[2] المعتزلة: هم جماعة من المسلمين اعتمدوا علي المنطق والقياس في مناقشة القضايا الکلامية. أهم تعاليمهم: 1 - إن مقترف الکبيرة ليس بالکافر ولا بالمؤمن بل في منزلة بين المنزلتين. 2 - حرية الاختيار، أي أن الانسان ذو إرادة حرة وليس مجبرا علي إتيان أعماله. 3 - خلق القرآن. کما ناقشوا قضايا التوحيد والعدل والصفات الإلهية. أشهر المعتزلة: واصل بن العطاء وعمرو بن عبيد، وهما انفصلا عن الحسن البصري.

[3] النظام: هو إبراهيم بن سيار (توفي 231 ه‍) تلميذ أبي الهذيل العلاف. متکلم معتزلي، نشأ في البصرة وأقام في بغداد حيث توفي. وهو معلم الجاحظ. عارض آراء الفقهاء وانتقد الجبرية والمرجئة. وإليه تنسب النظامية، وهي إحدي فرق المعتزلة.

[4] جعفر بن مبشر: وهو أحد المعتزلة أيضا.

[5] الجبائي: هو محمد بن عبد الوهاب الجبائي يکني بأبي علي وهو من أئمة المعتزلة ورئيس علماء الکلام في عصره، وإليه تنسب الطائفة الجبائية.