استعراض عام لامر الامامة


ماهر آل شبر

قال تعالي: وإذ قال ربک للملآئکة إني جاعـل في الأرض خليفة، قالوا أتجعـل فيها من يفسد فيها ويسفک الدماء ونحن نسبح بحمدک ونقدس لک، قال إني أعـلم مالا تعـلمون وعـلم آدم الأسماء کلها ثم عـرضهم عـلي الملآئکة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن کنتم صادقين. [1] .

نحن لا نستطيع أن نفهم قضية دولة الإمام المهدي عليه السلام المنتظرة إلا إذا استعرضنا الأمر منذ البداية، منذ أن خلق الله سبحانه وتعالي الأرض وأراد أن تکون هناک خلافة إلهية علي هذه الأرض وحکومة عدل إلهي فيها، فما کان من الملائکة إلا أنهم ظنوا أن هذه الخلافة ستکون منهم، فهم المعصومون من الزلل والخطأ ـ ومن هنا نفهم عظم معني الخلافة الإلهية وأن مقامها عال جدا ـ وحينما أخبرهم سبحانه أنها ستکون من الجنس البشري کان استغراب الملائکة، لأن هذا المخلوق وحسب طبيعة ترکيبه الخلقي وما فيه من غرائز وشهوات لا يمکنه أن يطبق العدل الإلهي ويقوم بأعباء الخلافة ورسالة السماء، وهنا أطلع سبحانه وتعالي الملائکة علي أسماء علمها لآدم، فما هذه الأسماء وما قصتها؟!

حسب ما نفهمه من الآيات القرآنية في سورة البقرة بأن الملائکة - بعد عرض آدم عليه السلام للأسماء - اعترفوا بأحقيته للخلافة علي الأرض وأنه أهل لذلک، وأن هذا المخلوق باستطاعته أن يطبق خلافة الله کما ينبغي لها، وأنه من الممکن أن يکون أفضل من الملائکة في هذا الجانب.

وحسب ما جاء في بعض الروايات عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآيات السابقة أنه عرض الخلق وعن مجاهد قال: عرض أصحاب الأسماء، وفي تفسير الجلالين: أن الملائکة قالوا في أنفسهم لم يخلق الله خلقا أکرم منا ولا أعلم، فخلق الله آدم وعلمه الأسماء کلها أي أسماء المسميات، وجاءت کلمة هؤلاءـ وهي تخص العقلاء فقط ـ لتغليب العقلاء في هذه المسميات، وأن في ذرية آدم المطيعين لله فيظهر العدل بينهم.

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: إن الله تبارک وتعالي علم آدم أسماء حجج الله کلها ثم عرضهم - وهم أرواح - علي الملائکة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن کنتم صادقينبأنکم أحق بالخلافة في الأرض لتسبيحکم وتقديسکم من آدم عليه السلام، قالوا سبحانک لا علم لنا إلا ما علمتنا إنک أنت العليم الحکيم، قال الله تبارک وتعالي يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبئهم بأسمائهم وقفوا علي عظيم منزلتهم عند الله تعالي ذکره فعلموا أنهم أحق بأن يکونوا خلفاء الله في أرضه وحججه علي بريته. [2] .

وعن الإمام العسکري عليه السلام في تفسير قوله تعالي: وعلم آدم الأسماء کلها قال: أسماء أنبياء الله وأسماء محمد صلي الله عليه وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسين والطيبين من آلهما، وأسماء خيار شيعتهم وعتاة أعدائهم ثم عرضهم عرض محمد وعلي والأئمة علي الملائکة ـ أي عرض أشباحهم وهم أنوار في الأظلة ـ. [3] .

وهناک أحاديث تحمل دلالات أخري فعـن أبي العباس عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله وعلم آدم الأسماء کلها ماذا علمه؟ قال عليه السلام: الأرضين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلي بساط تحته فقال وهذا البساط مما علمه. [4] .

إذن نفهم من هذه التفاسير والروايات أن الله سبحانه وتعالي أخبر الملائکة أن هذا المخلوق لديه من القدرات والعلم بخواص جميع الأشياء والمواد وماهيتها واستخداماتها مما يساعده في العيش علي الأرض، وأنفي ذريته أشخاصاً هم أهل للخلافة وبإمکانهم تطبيق العدل الإلهي في الأرض والتضحية في سبيل الله والعمل لأجله بحيث يصبحوا أفضل من الملائکة.

بل إن بعض المفسرين قالوا بأن کلمة هؤلاء إنما تدل علي العقلاء فقط، وفي بعض الروايات أنها تخص محمد وآل محمد فقط، وأن الله أخذ علي آدم وجميع الأنبياء عليهم السلام الإيمان بمحمد وآل محمد والتبشير بالرسالة الخاتمة وان هذا العهد أو الإيمان هو شرط الخلافة في الأرض، لذلک نجد أن جميع الأنبياء يبشرون بالنبي محمد صلي الله عليه وآله وبالمهدي من ولده وهناک الکثير من الروايات الدالة علي ذلک.

فعن الجارود بن المنذر العبدي قال: قال لي رسول الله صلي الله عليه وآله: يا جارود ليلة أسري بي إلي السماء أوحي الله عز وجل إلي أن سل من أرسلنا قبلک من رسلنا علي ما بعثوا؟ فقلت لهم: علي ما بعثتم؟ فقالوا: علي نبوتک وولاية علي بن أبي طالب عليه السلام والأئمة منکما. [5] .

عن المفضل بن عمر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل: وإذ ابتلي إبراهيم ربه بکلماتٍ فأتمهن، قال إني جاعلک للناس إماماً، قال ومن ذريتي، قال لا ينال عهدي الظالمين [6] ما هذه الکلمات؟

قال: هي الکلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه، وهو أنه قال: يا رب أسألک بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي، فتاب الله عليه أنه هو التواب الرحيم. فقلت يا بن رسول الله: فما يعني عز وجل بقوله فاتمهن قال: يعني فاتمهن إلي القائم اثنا عشرة إماما، تسعة من ولد الحسين. [7] .

فينبغي أن نلاحظ هنا أن قوله تعالي قال إني جاعلک للناس إماما جاء مباشرة بعد قوله تبارک وتعالي بکلمات فأتمهن فإمامة نبي الله إبراهيم إنما کانت بعد اعترافه وتسليمه بالمعصومين من أهل بيت محمد صلي الله عليه وآله، ثم قال سبحانه بعد ذلک لا ينال عهدي الظالمين فهذا العهد والميثاق والخلافة لا تکون إلا للمعصومين فقط.

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام في تفسير قوله تعالي: الذين يتبعون الرسول النبيّّّ الأميّ الذي يجدونه مکتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنکر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي کانت عليهم، فالذين امنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه أولئک هم المفلحون، [8] قال: يعني النبي والوصي والقائم عليهم السلام، يأمرهم بالمعروف إذا قام وينهاهم عن المنکر، وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: النور في هذا الموضع هو أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام. [9] .

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام أيضاً في تفسير قوله تعالي: وإذ أخذ ربک من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم علي أنفسهم ألست بربکم قالوا بلي شهدنا. [10] .

قالصلي الله عليه وآله: أخذ الميثاق علي النبيين فقال ألست بربکم؟ ثم قال وإن هذا محمد رسولي وإن هذا علي أمير المؤمنين؟ قالوا: بلي فثبتت لهم النبوة، وأخذ الميثاق علي أولي العزم ألا إني ربکم ومحمد رسولي وعلي أمير المؤمنين وأوصياؤه من بعده ولاة أمري وخزان علمي، وإن المهدي أنتصر به لديني وأظهر به دولتي وأنتقم به من أعدائي وأُعبد به طوعاً وکرها، قالوا أقررنا وشهدنا يا رب، ولم يجحد آدم ولم يقر، فثبتت العزيمة لهؤلاء الخمسة في المهدي، ولم يکن لآدم عزم علي الإقرار به، وهو قوله عز وجل: ولقد عهدنا إلي آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما. [11] [12] .

وعن أبي عبد الله عليه السلام في تأويل قوله تعالي: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتکم من کتاب وحکمة ثم جاءکم رسول مصدقٌ لما معکم لتؤمنن به ولتنصرنه، قال أقررتم وأخذتم علي ذلکم إصري، قالوا أقررنا، قال فاشهدوا وأنا معکم من الشاهدين. [13] .

قال صلي الله عليه وآله: ما بعث الله نبي من لدن آدم فهلم جرا إلا ويرجع إلي الدنيا وينصر أمير المؤمنين - أي في الرجعة - وهو قوله تعالي لتؤمنن به يعني رسول الله ولتنصرنه يعني أمير المؤمنين، ثم قال لهم في الذر أأقررتم وأخذتم علي ذلکم إصريأي عهدي قالوا أأقررناقال الله للملائکة فاشهدوا وأنا معکم من الشاهدين. [14] .

وعن کعب الأحبار قال إني لأجد المهدي مکتوباً في أسفار الأنبياء ما في حکمه ظلم ولا عنت. [15] .

فمن هذه الروايات وهناک من أمثالها الکثير جداً، نفهم أن الله سبحانه وتعالي أعد مشروعًا إلهيًا متکاملا يکون في نهاية المطاف في هذه الأرض ينتصر فيه الحق والعدل بحيث يبشر به جميع الأنبياء والرسل..!

ويقول آية الله السيد محمد صادق الصدر قدس في هذا المعني: إن إنکار المهدي عليه السلام في الحقيقة إنکاراً للغرض الأساسي من خلق البشرية والحکمة الإلهية من وراء ذلک، مما قد يؤدي إلي التعطيل الباطل في الإسلام.

إذ أن الغرض من خلق البشرية هو إيجاد العبادة الکاملة في ربوع المجتمع البشري بقيادة الإمام المهدي عليه السلام في اليوم الموعود، کما قال تعالي: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، [16] ونستنتج من هذه الآية أن الغرض والهدف الوحيد من الخليقة هو الحصول علي الکمال العظيم المتمثل في إيجاد الفرد الکامل والمجتمع الکامل والدولة العادلة التي تحکم المجتمع بالحق والعدل، وذلک بقرينة وجود التعليل في قوله تعالي ليعبدون. [17] .

ولنعد هنا إلي بداية الخليقة ونکمل استعراضنا للأحداث، حيث أُهبط آدم إلي الأرض وکان هو خليفة الله في الأرض وحجته علي خلقه واستمرت مسيرة الإنسانية والخلافة علي الأرض، وبدأ الصراع بين قوي الخير ورموزه المتمثلة في الأنبياء والأوصياء وقوي الشر ورموزه المتمثلة في الشيطان وجنوده، وکان هناک الکثير من القتل والقتال والإفساد في الأرض وذلک منذ أن اقتتل ولدا آدم.

وفي کل زمان کان لابد من وجود خليفة وحجة لله علي خلقه، يمثل جانب الحق من الصراع وامتداداً لرسالة السماء، وکلهم کانوا يبشرون بالشريعة الخاتمة وبدولة العدل الإلهي الموعودة التي سوف تطبق علي الأرض في نهاية المطاف.

وکان الأنبياء والرسل يبشرون أصحابهم بأن نهاية الصراع سوف تکون للحق وللمؤمنين، وأن وراثة الأرض هي لهم لا لغيرهم، فلقد جاء في العهد القديم في فصل مزامير داوود: وسينقرض الأشرار وسيرث الأرض المتوکلون علي الله تعالي، وفيه أيضاً: ويرث الصديقون الأرض ويسکنون فيها إلي الأبد. [18] .

ومما جاء في الکتب السماوية السابقة أيضاً: يقيم إله السماء مملکة لن تنقرض أبداً، وملکها لا يترک لشعب لآخر، تسحق وتفني کل هذه الممالک وهي تثبت إلي الأبد... طوبي لمن انتظر. [19] .

وکما قال تعالي في القرآن الکريم: ولقد کتبنا في الزبور من بعد الذکر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون. [20] .

وقال تعالي: وعد الله الذين آمنوا منکم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض کما استخلف الذين من قبلهم وليمکنن لهم دينهم الذي ارتضي لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشرکون بي شيئاً. [21] .

وعن الإمام علي بن الحسين عليه السلام في تفسير الآية السابقة قال: هم والله شيعتنا أهل البيت يفعل الله ذلک بهم علي يد رجل منا وهو مهدي هذه الأمة، وهو الذي قال رسول الله صلي الله عليه وآله: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلک اليوم حتي يأتي رجل من عترتي اسمه اسمي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً کما ملئت جوراً وظلماً. [22] .


پاورقي

[1] سورة البقرة 30- 31.

[2] کمال الدين وتمام النعمة ص 14، بحار الأنوار ج 26 ص 283 ح38.

[3] تفسير الإمام العسکري عليه السلام ص 217.

[4] بحار الأنوار ج 11 ص 147 ح 18، مجمع البيان ج 1 ص 152.

[5] کنز الفوائد ص 256 ،مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 287.

[6] سورة البقرة 124.

[7] الخصال ص 340 ح 84، المهدي في القرآن ص6، إلزام الناصب ج1 ص 179.

[8] سورة الأعراف 157.

[9] تفسير البرهان مجلد 2 ص 593، أصول الکافيج 1 ص 194.

[10] سورة الأعراف 172.

[11] سورة طه 115.

[12] الکافي ج 2 ص 8 ح 1، بصائر الدرجات ص 70 ح 2، بحار الأنوار ج 26 ص 279 ح 22.

[13] سورة آل عمران 81.

[14] بحار الأنوار ج 11 ص 25، معجم أحاديث الإمام المهدي ج 5 ص 58.

[15] عقـد الدرر في أخبار المنتظر ص 108.

[16] سورة الذاريات 56.

[17] تاريخ الغيبة الکبري ص 203 ، 289.

[18] المزمور السابع والثلاثين- کتاب المزامير، أصول العقائد للشباب ص 179.

[19] کتاب حجار - الإصحاح الثاني.

[20] سورة الأنبياء 105.

[21] سورة النور 55.

[22] ينابيع المودة ج 3 ص 245، معجم أحاديث الإمام المهدي ج 5 ص 281.