طول العمر بصورة غير مالوفة


فهو امر لا يثير اشکالا الا حين ينظر اليه بالقياسات الطبيعية والعادية لا في اطار المشيئة والقدرة الالهية التي لا تحکمها قوانين هي في الاصل لا تقوم الا بها. وکماتخرق هذه القوانين في معاجز الانبياء (ع) بوصفها برهانا علي سفارتهم عن اللّه وفي معاجز الائمة بوصفها دليلا علي کونهم امتدادا عن الرسول (ص) فانها يمکن ان تخرق هنا بعد ان قامت الادلة الثابتة علي کون الامام المهدي (ع) هو الامام الثاني عشر (ع) عينه، وتحدثت عن غيبته هذه وتلک، وما يحدث من هذه التساؤلات قبل ان تکون بما يجاوز القرنين والنصف في البعض والقرنين في البعض الاخر وادني من ذلک في البعض الثالث.

هذا ان کانت قضية طول العمر بهذا المدي او بغيره خارجة عن القوانين الطبيعية اساسا. ان ايماننا بوصفنا مسلمين باحياء الموتي لابراهيم (ع) وعيسي (ع) وباماتة عزير وحماره ثم احيائهما، وانفلاق البحر لموسي (ع)، وانقلاب عصاه ثعبانا حقيقيا، وامثال ذلک لا يستوحي عادة ولا قانونا طبيعيا او منطقا علميا بما انه لا مجال لها حتي الان ان تري غير استحالة ذلک، وانما يستوحي في کل ذلک ايماننا بصدق الوحي الالهي،والاخبار النبوي من جهة ووضع هذه الوقائع في نطاق المشيئة والقدرة الالهية المقومين لوجود الخلق وقوانينه جميعا من جهة اخري. ولذلک فلا محل لهذا الاشکال.وربما بهذا اللحاظ ضرب الائمة من اهل البيت (ع) امثلة لذلک من تاريخ الانبياء والاولياء خاصة، ادراکا منهم لعدم وجود ما يمکن القياس عليه في الحياة العادية ممايجعل استيعابه وتحمله صعبا حين ينظر اليه ضمن الاطر الطبيعية والعادية، ولذلک ففي الوقت الذي تقدموا فيه بالاخبار عن هذه الغيبة الطويلة بدءا من الرسول (ص)حتي الحسن العسکري (ع) لاعطائها موقعها ضمن مخطط المشيئة الالهية للرسالة في آخر شهودها من الاوصياء (ع) ضربوا الامثال بما هو معروف ومسلم في تاريخ بعض الانبياء والاولياء لتوضع في الاطار نفسه، فاذا کان ما يشبه ذلک قد کان في واقع سابق حين شاءه اللّه فان هذا ايضا کذلک. روي الصدوق بسنده عن محمد بن جعفر عن ابيه عن جده علي (ع) عن رسول اللّه (ص) قال: عاش ابو البشر آدم (ع) سبعمئة وثلاثين سنة، وعاش نوح (ع) الفي سنة واربعمئة وخمسين (الرواية). وبسنده عن سعيد بن جبير قال: سمعت سيد العابدين علي بن الحسين (ع) يقول: في القائم سنة من نوح (ع) وهو طول العمر. ومما جاء عن الامام جعفر الصادق (ع) في الرواية السادسة عنه، وهو يتحدث عن الامام المهدي (ع) قال: «قدر مولده تقدير مولد موسي وقدر غيبته تقدير غيبة عيسي،وقدر ابطاءه ابطاء نوح (يعني من حيث النصر والفرج)، وجعل له من العمر من بعد ذلک عمر العبد الصالح اعني الخضر». وبعد ان تحدث عما قصد اليه من التقدير في الاولين قال: «واما العبد الصالح، اعني الخضر، فان اللّه تبارک وتعالي ما طول عمره لنبوة قدرها له، ولا لکتاب نزل عليه، ولا لشريعة ينسخ بها شريعة من کان قبله من الانبياء ولا لامامة يلزم عباده الاقتداء بها ولا لطاعة يفرضها له، بل ان اللّه تبارک وتعالي لما کان في سابق علمه ان يقدر عمر القائم (ع) ما يقدر من عمر الخضر، وقدر في ايام غيبته ما قدر، وعلم ما يکون من انکار عباده بمقدار ذلک من العمر في الطول فطول عمر العبد الصالح في غير سبب يوجب ذلک الا لعلة الاستدلال به علي عمرالقائم وليقطع بذلک حجة المعاندين ». ولم يجد من کتب في الامام المهدي (ع) وتناول غيبته الطويلة ما يقدمه في ذلک عدا تقديم المزيد من الامثلة للمعمرين، کما جاء في اخبار اهل البيت او في کتب العهدين او لدي ارباب السير. وقد عقد الصدوق (المتوفي سنة 381 ه) بابا هو الباب الخمسون من کمال الدين وتمام النعمة ذکر فيه ما جاء في التعمير والمعمرين، ثم ذکر في الابواب (51)، (52)، (53)، (54)، (55)، (56) و (57) قصصا کثيرة لمعمرين جاوزوا الحدود الطبيعية والعادية في اعمارهم ». وقال: «فاذا صح التعمير لمن تقدم عصرنا، وصح الخبر بان السنة جارية بذلک في القائم الثاني عشر من الائمة، فلم لا يجوز ان يعتقد انه لو بقي في غيبته ما بقي لم يکن القائم غيره؟». ومثل ذلک فعل الشيخ الطوسي، فقد ذکر الاشکال بطول العمر وکونه بزعم المخالف خارقا للعادة، فکيف انتقضت فيه ولا يجوز انتقاضها الا علي يد الانبياء. واجاب بوجهين: احدهما: عدم التسليم بکون ذلک خارقا لجميع العادات، بل العادات في ما تقدم جرت بمثلها، وذکر امثلة کالخضر واصحاب الکهف ونوح الذي لبث يدعو قومه الف سنة الا خمسين عاما عدا ما ذکرته (الاخبار) واهل السير من انه عاش قبل الدعوة وبعد الطوفان عمرا طويلا مضافا. وقال: «فاذا کان المخالف لنا ممن يحيل ذلک (يعني العمر الطويل) من المنجمين واصحاب الطبائع (يقصد انهم لا يؤمنون بمشيئة الخالق) فالکلام معهم في اصل هذه المسالة، وان العالم مصنوع وله صانع اجري العادة بقصر الاعمال وطولها، وانه قادر علي اطالتها وعلي افنائها. فاذا بين ذلک سهل الکلام. واذا کان المخالف ممن يسلم بذلک غير انه يقول: هذا خارج عن العادات، فقد بينا انه ليس بخارج عن جميع العادات، فان قيل: خارج عن عاداتنا، قلنا: وما المانع منه؟فان قيل: ذلک لا يجوز الا في زمن الانبياء (ع) قلنا: نحن ننازع في ذلک وعندنا يجوز خرق العادات علي يد الانبياء والائمة والصالحين، واکثر اصحاب الحديث يجوزون ذلک وکثير من المعتزلة والحشوية وان سموا ذلک کرامات کان خلافا في العبارة ». وساق الشيخ المجلسي ما ملا 68 صفحة في الحديث عن المعمرين، وقال في آخره ومعه في ذلک الحق: «وانما اطلت في ذلک مع قلة الجدوي تبعا للاصحاب، ولئلايقال هذا کتاب عار عن فوائدهم ». وسلک هذا السبيل عدد من علماء اهل السنة الذين يؤمنون بان المهدي (ع) هو محمد بن الحسن العسکري (ع)، ومنهم سبط ابن الجوزي الحنفي، فقد ساق ما ذکر في التوراة، وما رواه محمد بن اسحاق ممن عمروا اعمارا طويلة. ومنهم الحافظ محمد بن يوسف الکنجي القرشي الشافعي، فقد قال وهو يتناول هذه المسالة: «انه لا امتناع في بقائه بدليل بقاء عيسي والياس والخضر من اولياء اللّهتعالي. وبقاء الدجال وابليس الملعونين ». قال: «وهؤلاء قد ثبت بقاؤهم بالکتاب والسنة وقد اتفقوا عليه ثم انکروا جواز بقاء المهدي وها انا ابين بقاء کل واحدمنهم ». ثم قال: «اما عيسي فالدليل علي بقائه قوله تعالي: (وان من اهل الکتاب الا ليؤمنن به قبل موته) [النساء: 159]. وذکر ما مضمونه ان ذلک لم يتحقق منذ نزول الاية الي يومنا هذا، فلا يکون في آخر الزمان.. واستدل اهل السنة بما رواه مسلم في صحيحه باسناده عن النواس بن سمعان في حديث طويل عن الدجال قال فيه: «اذ بعث اللّه المسيح بن مريم عند المنارة البيضاءشرقي دمشق بين مهرودتين واضعا کفيه علي اجنحة ملکين ». واستدل علي بقاء عيسي (ع) بما روته الصحاح والمسانيد، ومنها قول الرسول (ص): «کيف انتم اذا نزل ابن مريم فيکم وامامکم منکم ». وقال: اما الخضر والياس فقد قال ابن جرير الطبري: «الخضر والياس باقيان يسيران في الارض ». وساق حديثا رواه مسلم في صحيحه عن ابي سعيد الخدري، قال:«حدثنا رسول اللّه (ص) يوما حديثا طويلا عن الدجال فکان في ما حدثنا انه قال: ياتي وهو محرم عليه ان يدخل نقاب المدينة، فيخرج اليه يومئذ رجل هو خير الناس اومن خير الناس فيقول له: اشهد انک الدجال الذي حدثنا رسول اللّه حديثه. فيقول الدجال: ارايتم ان قتلت هذا ثم احييته اتشکون في الامر فيقولون: لا، فيقتله ثم يحييه فيقول حين ذلک (اي الرجل المقتول والمحيا): واللّه ما کنت فيک قط اشد بصيرة مني الان.. قال: فيريد الدجال ان يقتله ثانيا فلا يسلط عليه ». قال: قال ابو اسحاق (وهو ابو ابراهيم محمد بن سعد) يقال: ان هذا الرجل هو الخضر. واستدل علي بقاء الدجال بحديث رواه مسلم في صحيحه وقال: انه بهذه الصفة لم يخرج لحد الان. وذکر ان الدليل علي بقاء ابليس اللعين آي الکتاب نحو قوله: (قال: انظرني الي يوم يبعثون. قال: انک من المنظرين)[الاعراف: 15]. اما بقاء المهدي (ع) فقد جاء في الکتاب والسنة: اما الکتاب، فقد قال سعيد بن جبير في تفسير قوله عز وجل: (ليظهره علي الدين کله ولو کره المشرکون) [التوبة: 33] هو المهدي من عترة فاطمة (عليها السلام)، وامامن قال: انه عيسي (ع) فلا تنافي، اذ هو مساعد للامام کما تقدم. وقد قال مقاتل بن سليمان ومن شايعه من المفسرين في تفسير قوله عز وجل: (وانه لعلم للساعة)[الزخرف: 61]، هو المهدي (ع) يکون في آخر الزمان وبعد خروجه يکون قيام الساعة، واماراتها. قال رحمه اللّه: «فما المانع من بقاء المهدي (ع) مع کون بقائه باختيار اللّه، وداخل تحت مقدوره سبحانه، وهو آية الرسول (ص)؟». ثم ذکر حکمة بقاء عيسي (ع)والدجال. وقال: «فعلي هذا هو (يعني المهدي (ع)) اولي بالبقاء من الاثنين لانه الداعي الي الملة المحمدية التي هو امام فيها، واما عيسي فمصدق له وسبب لايمان اهل الکتاب، اما الدجال فلاختبار العباد وامتحانهم ». قال: «فصار بقاء الامام المهدي (ع) اصلا وبقاء الاثنين فرعا علي بقائه فکيف يصح بقاء الفرعين وعدم بقاء الاصل؟». وذکر اشکالا تافها لا اصل له ردده المشککون، وهو امتناع بقائه في السرداب من دون ان يقوم احد بطعامه وشرابه، واجاب «ان اللّه الذي احيا المسيح في السماء وابقي الدجال مقيدا حيا يمکن ان يتکفل له بذلک بما شاء، فقدرته وخزائنه لا تضيق عن ذلک ». والصحيح في الاجابة: ان البقاء في السرداب لا اصل له، ولا يوجد في شي ء من الاخبار الواردة في المصادر التي تتحدث عن الامام المهدي (ع) وغيبته، ولو افترضناصحة ان يکون قد دخل بيته (ع) الذي هو في موضع هذا السرداب، ولم ير بعدئذ فلا يعني ذلک بقاءه، ومکثه فيه... وما نسج حول ذلک من اساطير، ونظم من شعر ساخر بناء عليه، لا يجد اساسا حتي ولو کان واهيا تبرا فيه ذمة صاحبه العلمية وامام اللّه بل هو محض افتراء، وقداشارت روايات اهل البيت (ع) من قبل الي ما يتعرض له المؤمنون من اذي في ذلک. وربما کان الاساس في هذا الافتراء زيارة المؤمنين لدار الامام (ع) ودعائهم بتعجيل الظهور مما هو مستمر حتي الان، وهو ما لا علاقة له بالفرية. وقد تناول العلامة الحجة السيد محسن الامين رحمه اللّه هذه الفرية ورد عليها في قصيدته التي مثلت هي وشرحها قوام کتابه «البرهان »، فقال:



لنا نسبوا شيئا ولسنا نقوله

وعابوا بما لم يجر منا له ذکر



بان غاب في السرادب صاحب عصرنا

وامسي مقيما فيه ما بقي الدهر



ويخرج منه حين ياذن ربه

بذلک لا يعروه خوف ولا ذعر



ابينوا لنا من قال منا بهذه

وهل ضم هذا القول من کتبنا سفر



والا فانتم ظالمون لنا بما

نسبتم وان تابوا فموعدنا الحشر



وخاتمة القول في القضية ما ذکرناه، في صدر حديثنا عنها، من ان ذکر الامثال من اصحاب الاعمار الطويلة، لا يعط ي اکثر من وقوع ذلک بالنسبة لاشخاص عدا الامام (ع)لنفي استبعاد بعض الناس لما لم يقع تاريخيا حتي ولو قام عليه البرهان عقلا ونقلا... والا فلا علاقة ولا تلازم بين ذلک وبين وقوعه للامام (ع)، والصحيح هو الرجوع الي ما هو الاساس في ذلک وهو ثبوته بالنصوص المتواترة عن المعصومين (ع) من جهة، وانه واقع تحت القدرة والمشيئة الالهية من جهة ثانية. علي ان مصدر العلم بما وقع من الامثال هو المصدر الذي ترجع اليه قضية الامام (ع) کما ذکرنا وهذه النصوص وما ورد في الامام المهدي (ع) اکثر مما ورد في بعض هذه من حيث دلالته، والقطع بصدوره بحکم تواتره وبحکم الملازمة بين خلود الرسالة الاسلامية، وبقاء شاهدها آخر الاوصياء (ع) وقد قال رسول اللّه (ص) في حديث الثقلين:«وانهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض » لا في المفاهيم والاحکام فقط بل في الوجود ايضا، وهو ما يثبته بقاء الامام المهدي (ع). قال المحدث احمد بن حجر الهيثمي المکي (المتوفي سنة 974 ه): «في احاديث الحث علي التمسک باهل البيت (ع) اشارة الي عدم انقطاع متاهل منهم للتمسک به الي يوم القيامة، کما ان الکتاب العزيز کذلک، ولهذا کانوا امانا لاهل الارض کما ياتي ويشهد لذلک الخبر السابق في کل خلف من امتي عدول من اهل بيتي» (بقية الحديث). «ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين، وانتحال المبطلين وتاويل الجاهلين، الا وان ائمتکم وفدکم الي اللّه عز وجل فانظروا من توفدون ». وخاتمة القول ان الامثلة في ما عدا ما هو ثابت في الکتاب او السنة او الواقع لا مجال للقياس عليها لعدم وجود ما يثبتها، علي ان القياس انما يحتاجه في مسالة کهذه آترتبط بالارادة الالهية من لا يستطيع ان يؤمن او يطمئن بقضية الا اذا کان قد وجد نظيرها في الواقع، وهو خلاف المفروض في امر قام الدليل القطعي عليه وجد النظيروالمماثل او لم يوجد. ولذلک فالاساس في الايمان بالغيبة الکبري وحياة الامام (ع) وبقائه حجة للّه في الارض ما شاءه اللّه، وهو ما ذکرناه في بداية الحديث. اما التساؤل عن الحکمة من ذلک فهو موضوع البحث التالي.