الاعتراف بالعجز


6- إن العقل إذا فقد المدد الخارجي، واستفردته الغرائز، يعجز عن مقاومتها، فلا يستطيع الهيمنة علي الفرد، وإذا عجز عن بناء شخصية الفرد، لا يستطيع تکوين جبهة تهيئ المناخ المناسب لمن يريد الانضمام إليها، مقابل جبهة الغرائز التي تهيئ المناخ المناسب لمن يريد الانضمام إليها.

ومهمة الأنبياء - في مجال المجتمع - تتلخص في إمداد العقل، لتکوين جبهة، تهيئ المناخ المناسب لمن يريد الانضمام إليها، حتي يجد کل فرد نفسه أمام طريقين، ومردداً بين خيارين کما يقول القرآن الکريم: (وهديناه النجدين فلا اقتحم العقبة) [سورة البلد: الآية 11]. وأما أولئک الذين وهبهم الله عقولاً وإرادات جبّارة، يستطيعون بها أن يمارسوا الإيمان عقيدة وحياةً في المناخ المضاد، فهم ليسوا من مصاف البشر العادي، وإنما هم من مصاف الأنبياء، واعتبرهم النبي الأکرم (صلّي الله عليه وآله) إخوانه في الحديث المعروف الذي قال فيه: (آه، شوقاً إلي إخواني...).

فإذا لم يستقبل العقل مدد السماء، وفقد سلطانه لتقنين الغرائز، فإنها ستتمرد عليه تدريجاً، وتستخدمه لأغراضها، والعقل لا يکف عن إطلاق نداءاته، فإنه يستخدم رغم نداءاته وضد أهدافه، فالمجرمون المحترفون - جميعاً - يستخدمون عقولهم في التخطيط لجرائمهم - وسواء أسميناه عقلاً أو فکراً، فالنتيجة واحدة -.

وإذا تنکرت الغرائز للعقل، فإنها تسعي لتقنينه، وتأخذ في النمو بشکل تصاعدي حتي تغطي ظاهرة الحياة الفردية والاجتماعية - کأي نبات تحرر من ضوابطه، وکأي حيوان فقد ضوابطه، وکأي فرد من البشر استطاع التمرد علي ضوابطه -.

وعندئذ، تبدأ الغرائز بالخروج من الأطر التي يرسمها لها العقل، وتعمل لتبرير هذا الخروج، وإسباغ الشرعية عليه، بسنّ القوانين التي تصدر لتبريرها أکثر مما تعمل لتحديدها، وما أسهل إسباغ الشرعية علي نزوات الغرائز، طالما القوانين تصدر عن مجموعة من نفس البشر الذي أطلق غرائزه، فلا يبقي شيء من المعاصي إلا ويبرره القانون بشکل من الأشکال، وإذا کانت المعاصي کلها شذوذاً، فالمجتمع الذي ينخر فيه الشذوذ لا بد أن ينتهي بالانهيار.

ولنأخذ مثلاً لذلک، غريزة حب السلطة والاستعلاء، هذه غريزة کبحها العقل القرآني بإعلان غلق أبواب السماء في وجهه من يمارسها: (تلک الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين) [سورة القصص: الآية 83]. ومعلوم أن هذه الآية لا تلغي هذه الغريزة في المجتمع، ولکن شتان بين أن تمارس علناً، وبين أن تموه في أهداف مشروعة، حذراً من أن يکتشفها المجتمع، فتأتي النتائج عکسية.

ثم جاءت وبرزت هذه الغريزة في أساليب الاعتراف بحب الاستعلاء الثورية والانتخابية، والحزبية، وغيرها. فانطلق أصحاب هذه الغريزة لممارستها بلا قناع، وإذا کانت هذه الغريزة لا تقف عن حدّ، وإذا کان أصحابها کثيرون، وإذا کانت المجالات التي يمکن التزاحم عليها محدودة، فمن الطبيعي أن ينقلب مفهوم (تعاون البقاء) الإنساني النبيل إلي (تنازع البقاء) الوحشي الرخيص.

وبمقتضي مشروعية (تنازع البقاء) يسعي الأفراد من داخل الأسرة الواحدة، إلي تحشيد ما يمکن تحشيده من أفراد وأشياء، لممارسة (تنازع البقاء) علي أي شيء يمکن التنافس عليه.

وبمقتضي مشروعية (تنازع البقاء) يبقي الحق دائماً مع الأقوي، لمجرد أنه أقوي، فالناجح في ممارسة حق (تنازع البقاء) المشروع، عظيم تظفر لمفرقه أکاليل الغار، وليس جانياً يعاب أو يلام.

وهکذا تتکون التکتلات المسلحة بالأسلحة المناسبة لکل مرحلة، ابتداءً من الأشقاء في الأسرة الواحدة، ومروراً بالمدرسة والسوق والشارع، والدوائر الانتخابية، والمجالس الرسمية، والمحافل الدولية، والدول الکبيرة، ثم تشتعل بينها الحروب المشروعة - حسب المبدأ المذکور بأشکالها المختلفة.

وإذا کانت الثروات الطبيعية والعلوم الحديثة، ومبدأ (سباق التسلح) مکنت الدول الکبار من إعداد معدات عسکرية تکفي لإبادة الحياة علي وجه الأرض ملايين المرات. وإذا کان تجويع شعوب العالم لأجل التوفير علي المعدات العسکرية مشروعاً حسب مبدأ (تنازع البقاء) وطبق القوانين الصادرة من المجالس - ذات الصلاحية - وإذا کان تحريک هذه المعدات لتدمير الحياة علي الأرض - أيضاً - مشروعاً اتخذ بشأنه قرار الدول الکبار وفق معادلات معينة وبأسباب معينة، وإذا کانت مطامع الدول الصناعية القوية تدفعها إلي احتلال الدول الغنية بالمنتجات الأولية وفق مبدأ (تنازع البقاء) فمن الطبيعي جداً أن يأتي الوقت الذي يتحرک فيه جنون بعض قادة العالم - علي إثر عصرات قوية - فتنطلق فيه جميع المعدات العسکرية للانقضاض علي بعضها - اتباعاً لفکرة الضربة القاضية - فتشتعل المدن الکبار، لتتحول خلال دقائق إلي محارق لعشرات الملايين من البشر، وتنتشر في الأجواء سحب ذرية بحثاً عن بقايا البشر، لإصابتها بالعاهدات المخيفة فتنفرط الحکومات وأجهزة الأمن والشرطة، ولا يبقي إنسان قادر علي الحرکة إلا ويکون مذعوراً قلقاً معطل المشاعر، لا يدري أيبکي أقربائه الذين ماتوا قتلاً أو حرقاً؟ أم يواسي الآخرين الذين جرحوا وتشوهوا؟ أم يحمي نفسه من الغارات والمخاوف المتوقعة؟ أم يبحث عن القوت والسلاح والمال والمکان وسائر الأشياء التي قد تمد في حياته؟؟

هکذا يفقد کل إنسان توازنه، وتتفاعل فيه المخاوف والمطامع، عالماً بأن أجهزة الحکومات قد تعطلت فلا يحميه إلا نفسه، ولا يعاقبه إلا ندّه، فيتحرک عشوائياً يقتل وينهب ويغتصب ويدمّر، طاغياً خائفاً، فيسود القطاعات البشرية المتبقية طوفان عارم من القلق والفوضي، ويصبح کل فرد ظالماً أو مظلوماً، أو ظالماً ومظلوماً في آن واحد.

في مثل هذه الأوضاع الموحشة القلقة التي قضت علي ثلثي البشر، وبقي الثلث الآخر بين الأنقاض والأشلاء والرماد يعاني الموت بالتقسيط، ينطلق صوت العدالة والسعادة فتمتصه المشاعر قبل الآذان، وتصفق له القلوب قبل الأکف.

والناس إذا أصيبوا يبحثون عن الملجأ مهما کان، فکيف إذا کانت الإصابة رهيبة کتلک والملجأ وديعاً مثل هذا؟